http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html
الدين في ظاهره، وكما يرى الفقهاء والمتدينون، أنه عامل توحيد يعمل على تماسك مكونات المجتمع، ولكن لو تأملنا جيداً
لوجدنا أن الدين قد استخدم كعامل تفريق وصراع بين أتباع الأديان والمذاهب المختلفة. فالكثير من الحروب وأعمال العنف والصراعات الدموية في التاريخ حصلت بواجهات دينية، وبالأخص الأديان
السماوية (اليهودية، والمسيحية والإسلام)، مستغلين الدعوة إلى العنف الموجودة في نصوصها المقدسة. أما الأديان الوثنية فهي غالباً مسالمة، مثل البوذية والهندوسية. وكذلك الوثنيون من
القبائل العربية قبل الإسلام، أي المرحلة التي يسمونها بـ(العهد الجاهلي)، لم تكن حروبهم بسبب الأديان، وإنما كانت لأسباب اقتصادية، النهب والسلب والسبي جراء شحة الأرزاق في ظروف
الصحراء التي كانت تفرض عليهم هذا النمط القاسي من الحياة وإلا كانوا ينقرضون.
أما بعد مجيء الإسلام، فكانت معظم الحروب بدوافع دينية، خاصة حروب الردة والفتوحات الإسلامية. كما وتفرق المسلمون
إلى مذاهب متناحرة بالدرجة الأولى بسبب الصراع على السلطة وغنائم الحروب والغزو والفتوحات. وقد قال النبي محمد (ص) في هذا الصدد: "ستفترق أمتي إلى 73 فرقة، واحدة ناجية والبقية في
النار". وهكذا اعتقدت كل فرقة أنها هي الفرقة الناجية، وراحت تكفِّر بعضها البعض، وتحل إهدار دمها وإبادتها كما هو موقف الوهابية من الشيعة على سبيل المثال لا الحصر. ومن هنا نستنتج
أن الدين تحول إلى عامل مفرِّق وليس موحداً بين البشر. ويحاول المسلمون نفي هذه التهمة عن الإسلام، ويقولون أن الخطأ ليس في الدين والشريعة والنصوص، بل في المسلمين أنفسهم، أي الخطأ
في التفسير والتطبيق نتيجة الجهل. ولكن لو راجعنا التاريخ والنصوص، لوجدنا أن معظم دعاة العنف والاختلاف والتفرقة هم من رجال الدين الذين تخصصوا في دراسة الدين وفهم نصوصه، مستلهمين
في ذلك النصوص المقدسة ويعتبرونها واجبة التطبيق.
وهذا ما حصل في العراق، حيث انقسم المسلمون إلى سنة وشيعة، وهذا الانقسام كان سبباً لاضطهاد الشيعة من قبل السلطات
السنية المتعاقبة في جميع العهود التي حكمت باسم الإسلام، منذ العهد الأموي وحتى الحكومات العلمانية (الملكية والجمهورية) في العصر الحديث.
وفي هذا الفصل أود أن أتطرق إلى دور رجال الدين الشيعة في عزل أبناء طائفتهم وحرمانهم من المشاركة العادلة في الدولة
العراقية الحديثة، وأجلب انتباه القراء الكرام إلى أن المطلوب من الباحث العلمي أن يتجنب الانحياز لهذه الطائفة أو تلك قدر الإمكان، إذ أتوقع أن تنهال عليَّ اتهامات من بعض القراء
الشيعة وخاصة أولئك الذين يعتقدون أن فقهاءهم منزهون عن الخطأ، هذا الموقف لا يقبل به المنهج العلمي، إذ ليس هناك إنسان منزه عن الخطأ ومهما بلغ من العلم. فالمطلوب منا في هذا الخصوص
طرح الأمور كما حصلت بعيداً عن الحماس والتحيز، وأن نعترف بأن رجال الدين هم بشر مثلنا، يصيبون ويخطؤون. لذا نعتقد أن بعض رجال الدين الشيعة، وليس كلهم، ساهموا بشكل وآخر في عزل أبناء
طائفتهم وساعدوا خصومهم في الاستحواذ على السلطة والنفوذ في الدولة العراقية الوليدة، وأججوا النزعة الطائفية.
مراحل دور رجال الدين الشيعة في العزل
الطائفي
يمكن تقسيم دور رجال الدين الشيعة في العزل الطائفي إلى ثلاث مراحل:
أولاً، مرحلة حرب الجهاد
كما بينا في فصل سابق، فقد أفتى بعض المجتهدين الشيعة في حرب الجهاد وقادوها بأنفسهم ضد الاحتلال
الإنكليزي في الحرب العالمية الأولى دفاعاً عن الدولة العثمانية التركية رغم أن
الدولة العثمانية كانت دولة أجنبية
محتلة للعراق وظالمة لشعبه. وعذر هؤلاء الفقهاء أن الدولة العثمانية إسلامية، علماً بأنها كانت تظلم الشيعة بشكل مضاعف ولم تعترف بمذهبهم. بينما تصرَّف علماء السنة بذكاء وحكمة
لحماية مصالحهم رغم ما كانوا يتمتعون به من امتيازات مادية ومعنوية في العهد العثماني، فقفزوا من السفينة العثمانية الغارقة إلى السفينة الناجية وهي سفينة الإنكليز المحتلين الجدد
الذين أطلقت عليهم كنية
أبو ناجي"، من النجاة. وكان لدى علماء الشيعة سند فقهي قديم وواضح وهو فتوى ابن طاووس، يسمح لقعودهم عن الجهاد: "إن الحاكم الكافر العادل أفضل من الحاكم المسلم الجائر". ولكن مع
ذلك قرر فقهاء الشيعة الوقوف إلى جانب الحاكم المسلم العثماني الجائر الخاسر، وجروا أبناء طائفتهم لحرب خاسرة محسومة النتائج، فدفعوا الثمن باهظاً.
ثانياً، معارضتهم للدولة الجديدة
وبعد أن أضطر
الإنكليز تأسيس الدولة العراقية الحديثة بسبب ثورة العشرين التي قامت بها عشائر الفرات الأوسط وبدفع من رجال الدين الشيعة أنفسهم، وقفت القيادات الدينية الشيعية ضد أغلب الإجراءات
الضرورية لبناء الركائز الأساسية للدولة الوليدة الفتية، وذلك باتخاذهم مواقف متشنجة ومتشددة ضد السلطة، وإصرارهم على شروط تعجيزية غير قابلة للتحقيق في تلك الفترة.
فوقفوا مثلاً ضد المعاهدة البريطانية - العراقية التي ما كان بالإمكان الاستغناء عنها في تلك الظروف القاهرة وإلا لقامت تركيا بإعادة احتلال العراق، أو على الأقل إلحاق الموصل بها.
كما وأصدروا الفتاوى ضد الانتخابات لتشكيل المجلس التأسيسي، وضد إقرار الدستور، وضد قانون التجنيد الإجباري، وضد التعيين في الوظائف الحكومية، وحتى ضد إدخال أبناء وبنات الشيعة في
المدارس الحكومية. وفي كل هذه المناسبات كانوا يصدرون الفتاوى يدعون الناس فيها إلى مقاطعة أوامر وتعليمات السلطة وإلا فهم كفار وتحرم عليهم زوجاتهم!!
ثالثاً؛ موقف علماء الشيعة من حكومة 14 تموز 1958
بعد ثورة 14 تموز 1958 تشكلت حكومة وطنية نزيهة بقيادة الزعيم عبدالكريم قاسم، والذي حاول ولأول مرة في تاريخ
العراق، الخروج على المألوف التركي العثماني في التمييز الطائفي والعنصري، والتعامل مع جميع مكونات الشعب العراقي بالتساوي. واتخذ الزعيم قاسم خطوات عملية بناءة للقضاء على التمييز
الطائفي تدريجياً، ولو بقي هذا النظام بضع سنوات أخرى، لكانت الطائفية في خبر كان. ولكن مرة أخرى وعلى الضد من مصالح ومواقف أبناء طائفتهم ورغباتهم، وقف بعض رجال الدين الشيعة ضد
هذه الحكومة غير المتطيِّفة إلى جانب خصومها، إلى أن تكللت مساعيهم في اغتيالها في انقلاب 8 شباط 1963.
وكما قال الأستاذ حسن العلوي في كتابه (الشيعة والدولة القومية) ما نصه: "وباغتيالهم حكومة عبد الكريم قاسم فقد
انتهت عملية التخلص من الطائفية، وحرمان العراقيين من نظام سياسي غير متعصب، لم يلتزم بتعميم تمذهب الدولة … وكان بعض علماء الإسلام، والبعثيون، والضباط والوزراء الشيعة الذين اشتركوا
في إسقاط عبد الكريم قاسم من ضحايا هذه السياسة."
وهكذا دافع رجال الدين الشيعة، على خلاف نظرائهم السنة، عن الحكم التركي المعادي لهم، وساهموا في إسقاط حكم
عبدالكريم قاسم المتعاطف معهم. فهل تعلم هؤلاء دروساً من تاريخهم المليء بالدماء والدموع والأخطاء، أم ما زالوا يصرون على أنهم معصومون عن الخطأ، و يعدون مجرد الحديث عن هذه المشكلة
كفر وإلحاد وتجاوز على المقامات، معاذ الله!!؟
قلنا بعض فقهاء الشيعة، وليس كلهم، ساهموا في الدعوة في حرب الجهاد وثور العشرين، فخلال الاحتلال البريطاني للعراق
في الحرب العالمية الأولى كان على رأس المرجعية الشيعية المجتهد السيد كاظم اليزدي الذي كان ضد الأتراك،
ولم يؤيد حرب الجهاد من أعماق قلبه، وحين جاء الانكليز أيدهم مشترطاً أن يبقى تأييده لهم طي الخفاء. وشاء القدر أن يموت هذا الرجل في 30 نيسان 1919، فاعتبر الانكليز موته خسارة جدية
لهم. وحل محله في المرجعية الدينية رجل على النقيض منه هو المرزا محمد تقي الشيرازي الذي كان مقيماً في كربلاء، والواقع أن هذا الرجل قام بدور مهم في إثارة الناس ضد الإنكليز، وقد
اتهمه الإنكليز لذلك بأنه كان على اتصال سري بالبلاشفة وأن ابنه يقبض منهم الأموال. ولذلك فموقف السيد
كاظم اليزدي من الإنكليز يشبه إلى حد ما موقف آية الله السيد علي السيستاني من الأمريكان في عهدنا الحاضر، فكلا الفقيهين تصرفا بحكمة عالية لحقن الدماء ولمصلحة الشعب والوطن.
والجدير بالذكر أن الناس من أتباع المجتهد يرون طاعته واجبة، لأن المجتهد هو نائب الإمام المهدي المنتظر (صاحب
الزمان)، ومن يخالف أمره كمن يخالف أمر رسول الله، وبالتالي أمر الله، أي من لم يطع الفتوى فهو كافر، والكافر مصيره الجهنم وبئس المصير.
ولكن مع ذلك واجه آية الله السيد كاظم اليزدي عداءً شديداً من مؤيدي حرب الجهاد وثورة العشرين فيما بعد، ولم يكتفوا
بذلك، بل نشروا إشاعات ضده طعنوا في سمعته. وينقل لنا الراحل علي الوردي بهذا الصدد ما نصه: "ومن
الجدير بالذكر أن السيد كاظم اليزدي ساءت سمعته كثيراَ في أعقاب ثورة النجف (1919)، وانتشرت حوله الإشاعات القبيحة، ولاسيما بين أقارب المشنوقين والمنفيين. وكانت من جملة تلك الإشاعات
أن السيد كاظم اليزدي ليس سيداً ولا يزدياً، بل هو إنكليزي لبس العمامة السوداء للتنكر." ويضيف الوردي قائلاً: "أذكر أن شاباً من أهل الأعظمية سألني منذ عهد قريب قائلاً: "هل صحيح أن
السيد أبو الحسن الإصفهاني أصله إنكليزي؟" فقلت له: أن جوابي لك ذو شقين، أولهما أن المتهم بذلك هو السيد كاظم اليزدي وليس السيد أبو الحسن الإصفهاني، والثاني أن هذه التهمة غير صحيحة
إنما اختلقها له الخصوم على أثر ثورة النجف".
موقف الفقهاء الشيعة من الدولة الوليدة
ولما وصل الأمير فيصل إلى بغداد في حزيران 1921، قام بزيارة أضرحة الأئمة والفقهاء، السنة والشيعة، ومن بين الذين
زارهم الأمير، الشيخ مهدي الخالصي الذي بايع فيصل ملكاً على العراق بشروط (مملكة ديمقراطية دستورية مستقلة). ولكن ظهر فيما بعد أنه لا بد من توقيع
معاهدة مع بريطانيا والتي كانت ضرورية في تلك الظروف، وقد بذل فيصل جهداً كبيراً لإقناع المجتهدين الشيعة
بأن يراعوا ظروفه، ويرحموا حاله، دون جدوى. وصار المجتهدون، ولاسيما الشيخ مهدي الخالصي، يعدونه ناكثاً بعهده لهم وإنه باع نفسه للشيطان وأصبح ألعوبة بيد الإنكليز، وقال الخالصي على
ملأ من الناس"خلعت فيصل كما خلعت خاتمي هذا!".
ولم يكتف الخالصي بذلك، بل أصدر فتوى يدعو فيها الشيعة إلى عدم قبول الوظائف في الدولة. والحق يقال أن السير برسي
كوكس، الحاكم البريطاني في العراق، كان حريصاً على إدخال الشيعة في الوظائف، وخاصة في منطقة الفرات الأوسط والعتبات المقدسة ولكنه وجد أمامه عقبتين، أولاهما فتوى الخالصي، والأخرى
امتناع عبدالرحمن النقيب وبعض الوزراء من قبول الشيعة في الوظائف. وهكذا نرى المتشددين من كلا الطرفين يعملون معاً على زرع التفرقة بين الشعب الواحد وكأنهم في اتفاق غير معلن بقصد
حرمان الشيعة من المشاركة في الدولة الوليدة.
وقد بلغ الأمر ببعض فقهاء الشيعة أنهم كانوا يفضلون عودة الأتراك إلى العراق، وخاصة الشيخ مهدي الخالصي الذي كان
شديد الميل لهم. ويقال أنه كان في تلك الآونة يتراسل معهم سراً، وحصلت الحكومة على الرسائل من نفس الشخص الذي كان يتظاهر بإيصال رسائله إلى مصطفى كمال باشا.
وقد كتبت المس بيل في 12 نيسان تقول: "إن المجتهدين أصدروا فتوى في تحريم الدفاع عن العراق ضد الأتراك، وألصقت
الفتوى على باب صحن الكاظمية، وقد وصلتني نسخة منها مبكراً في هذا الصباح. والسؤال هو: ماذا سوف تصنع الحكومة العراقية في هذا الشأن؟ ففي رأي المستر كورنواليس أن المجتهدين الموقعين
على الفتوى يجب نفيهم إلى إيران باعتبارهم رعايا إيرانيين، ولكن هذا قرار خطير. فلو أن الملك ترك الأمور تسير على رسلها، فإن الأيام القليلة القادمة ربما ستكون ذات خطورة بالغة نظراً
لاقتراب شهر رمضان وما يثيره من هياج ديني..."
ويبرز هنا الفرق في تقدير الموقف السياسي بين نقيب الأشراف السيد عبدالرحمن النقيب، والمرجع الشيعي الشيخ
مهدي الخالصي. " إذ كان النقيب يمقت الثورة والقائمين بها مقتاً شديداً، كما كان يمقت المجتهدين الذين أيدوا الثورة بفتاويهم. وكان كذلك يشمئز من وضع
مقاليد الحكم في أيدي كل من هب ودب من الناس بل يرى وضعها في أيدي الأشراف من أبناء الأسر وذوي النسب والحسب". كذلك كان عبدالرحمن النقيب يمقت الأسرة الهاشمية، وقد أعلن رأيه هذا
بصراحة إلى المس بيل في عام 1919 حين قال لها: " أفضل ألف مرة عودة الترك إلى بغداد على أن أرى الشريف أو أبنائه ينصب أحدهم هنا".
ولكن عند وصول فيصل إلى بغداد، وبعد قيامه بزيارة الأضرحة في الكاظمية، ومسجد أبي حنيفة وعبدالقادر الكيلاني، زار
عدد من البيوتات ومنها دار النقيب، فاستقبله الابن الأكبر السيد محمود، وقال يخاطبه: "إن أسرة النقيب يا سمو الأمير يدك اليمنى تستعملها أينما شئت في سبيل مصلحة البلاد". ثم تقدم
تلميذ صغير فتلا قصيدة الفرزدق المشهورة: "هذا الذي تعرف البطحاء وطأته...". بينما أتخذ الخالصي الموقف المعاكس تماماً. ومن هنا نعرف أن النقيب تصرف بمرونة وحكمة، وقبل بالأمر الواقع،
بينما تشدد الخالصي وتصرف وفق سياسة "كل شيء أو لا شيء" فخسر بالتالي كل شيء.
رجل الدين والسياسة
مخاطر
تدخل رجال الدين في السياسة
هناك مشكلة جديرة بالدراسة ونحن نناقش الطائفية، ألا وهي مشكلة تدخل رجال الدين في السياسة. إن رجل الدين، ولانشغاله
جل وقته في أمور الدين مثل: التدريس، والتأليف، والبحوث، وقضايا الحلال والحرام، والبيع والشراء..الخ، كل ذلك لم يترك له الوقت الكافي لمتابعة الأمور السياسية، والتعمق في فهم مشاكلها
وإيجاد الحلول الناجعة لها. لذلك فإصدار رجل الدين بدرجة المجتهد فتوى في قضية سياسية لم يكن صادراً بعد دراسة متأنية، بل بناءً على توصية ومشورة من المحيطين به. ولذلك فهذه الفتوى
قابلة للخطأً، وبالتالي يمكن أن تكون نتائجها وبالاً على الناس، وتُعرض صاحب الفتوى إلى النقد. والمشكلة هنا من الصعوبة نقد رجل الدين، ولذلك فإذا اختار رجل الدين العمل في السياسة،
فعليه أن يقبل النقد كأي سياسي.
والخطر الثاني الذي يواجه البشرية من الجمع بين الدين والسياسة، هو عدم التعامل مع الاختلاف في الرأي بين رجال
الدين، أو بينهم وبين غيرهم، بروح التسامح ، بل ينتهي الخلاف عادة بتوجيه تهمة الزندقة والهرطقة والكفر ضد المختلف، وبالتالي بالصراعات الدموية. والتاريخ حافل بهذه المآسي ليس بين
أتباع الأديان المختلفة فحسب، بل وحتى بين أتباع المذاهب المختلفة لدين واحد. فإذا كان السياسيون المتطرفون يعاملون خصومهم بالتخوين والعمالة للأجنبي، فرجال الدين يتهمون خصومهم
بالتكفير.
والخطر الثالث من تدخل الديني بالسياسي هو أنه عندما يصدر الفقيه المجتهد رأياً أو أمراً بصيغة فتوى في قضية ما،
يصبح هذا الأمر واجب التنفيذ دينياً من قبل الأتباع (المقلدِين)، وكل من يمتنع عن التنفيذ يعتبر كافراً، أي مرتد، وعقوبة المرتد القتل. وهذا ما حصل للسيد علوان الياسري، أحد قادة ثورة
العشرين، عندما خالف موقف الشيخ مهدي الخالصي من الملك فيصل والمعاهدة البريطانية-العراقية.
والرواية مفادها أنه بعد أن اتخذ الخالصي موقفاً متشدداً من الملك والمعاهدة... استدعى الملك إليه عدداً من شيوخ
الفرات الأوسط، كان من بينهم عبدالواحد الحاج سكر، ومحسن أبو طبيخ، وعلوان الياسري، وقاطع العوادي، وشعلان أبو الجون، (وكلهم من قادة ثورة العشرين) وأقنعهم بأن "البروتوكول" (أي
المعاهدة العراقية- البريطانية) كسب للعراق وإن الشروع بالانتخاب ضروري. فوافق الرؤساء على رأيه ماعدا أبو طبيخ حيث صرح بأنه غير قادر على مخالفة علماء
الدين الذين أفتوا بحرمة الانتخابات ولكنه يبذل جهداً للتوفيق بين إرادة العلماء وسياسة الحكومة.
لذلك أرسل الملك علوان الياسري وقاطع العوادي إلى الشيخ مهدي الخالصي في محاولة لإقناعه بسحب فتوى تحريم الانتخاب،
ولكنهما لم يوفقا في محاولتهما، وقيل أن الخالصي اتهمهما بالكفر. وتروى في هذا الصدد قصة جرت للياسري هي أنه بعد أن فشلَ في إقناع الخالصي ذهب لزيارة مرقد الإمام الكاظم، وحين وصل إلى
باب المرقد رأى الخالصي خارجاً من المرقد تحف به حاشيته، فقال الخالصي له: "كيف يجوز لك أن تأتي لزيارة الإمام وأنت كافر؟" فرد الياسري عليه بكلمة جارحة، وهنا صاح أحد الحاشية بصوت
مرتفع ليسمعه الجمهور: "أخرج يا كافر" فاضطر الياسري أن يهرب من المرقد بلا حذاء خوفاً من غضب الجمهور. ومن هنا نعرف أن سياسة التكفير كانت متبعة من قبل رجال الدين ضد مخالفيهم، الأمر
الذي كان يدفع الكثيرين من الأتباع إلى إطاعة أوامر المجتهدين رغم عدم قناعتهم بصحتها، ناهيك عن أضرارها على المجتمع.
نفي الخالصي
ونتيجة لما تقدم، اضطرت الحكومة إلى نفي الشيخ مهدي الخالصي في حزيران
عام 1923 إلى إيران بذريعة التبعية الإيرانية رغم أنه عراقي عربي من عشيرة بيت أسد، إلا إنه كان يحمل الجنسية الإيرانية الأمر الذي كان شائعاً في العهد العثماني، إذ كان يلجأ إليه
كثيرون للتخلص من الجندية. ومع ذلك كان الملك ضد تسفيره، ولكن رئيس الوزراء عبدالمحسن السعدون، والذي احتفظ بمنصب وزير الداخلية وكالة، كان مصراً على ذلك، وأراد أن يعطي الفقهاء
الشيعة المعارضين للحكومة درساً بأن يمنعهم من التدخل في السياسة.
واحتجاجاً على نفي الخالصي، قرر عدد من الفقهاء الآخرين من بينهم، السيد أبو الحسن الأصفهاني، ومحمد حسين النائيني،
ومحمد الصدر وغيرهم، مغادرة العراق إلى إيران، فسهلت الحكومة ترحيلهم الذي قوبل بدعاية مضادة ضد الحكومة العراقية والإنكليز. وفي إيران حصل صراع بين رجال الدين المنفيين ونظرائهم
الإيرانيين نتيجة المنافسة على المرجعية، لذلك ندم معظمهم على ترك العراق وقرروا العودة.
وفي آذار 1924 سافر إلى إيران وفد من رجال الدين الشيعة برئاسة الشيخ جواد الجواهري بناءً على رغبة الملك لعودتهم
بشرط أن يتعهدوا بعدم التدخل في السياسة. وقد بذل هؤلاء جهداً كبيراً في إقناع المجتهدين بالعودة إلى العراق بدون الخالصي ونجحوا في ذلك. "والمظنون أن رضا خان، رئيس الوزراء الإيراني
آنذاك (رضا شاه لاحقاً)، كان يؤيدهم في مسعاهم، فقد أشارت إحدى الوثائق البريطانية السرية إلى أن رضا خان كان ينصح المجتهدين بالعودة دون أن يهتموا بالخالصي، وكان يقول لهم أن الخالصي
سخيف خالي من التعقل وأنه آلة بيد ابنه الشيخ محمد."
وعاد هؤلاء الفقهاء بدون الخالصي وابنه الشيخ محمد، وقد اسقبلوا بحفاوة بالغة من قبل الحكومة والجماهير من خانقين
إلى أماكن سكناهم في الكاظمية والنجف. والجدير بالذكر أن توفي الشيخ مهدي الخالصي بالسكتة القلبية في مساء 5 نيسان 1925م. وقد عاد نجله الشيخ محمد الخالصي إلى العراق عام 1932 دون علم
الحكومة، ولما عرف المسؤولون بعد ثلاثة أيام من وصوله، أعادوه إلى إيران، ولم يسمح له بالعودة إلا عام 1949.
حول مصداقية الفتاوى
ذكرنا آنفاً، أن رجال الدين كغيرهم من البشر غير معصومين من الخطأ، ويتأثرون في إصدار فتاواهم بضغوط من قبل الآخرين
الذين يرتبطون معهم بمصالح دنيوية ولذلك يمكن أن يغيِّروا آراءهم وفتاواهم تبعاً لتلك المصالح، ولكن في جميع الأحوال يتخذون الدين غطاءً لتبرير سلوكهم. وفي هذا الصدد أتذكر قولاً
للإمام الحسين بن علي ما نصه: "الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحطونه ما درت معائشهم، فإذا
محصوا بالبلاء قل الديانون". ولتأكيد هذا، نذكر حدثين على سبيل المثال لا الحصر.
الأول، قضية "التنباك" في إيران
التنباك نوع من التبوغ كان شائعاً في إيران في القرن التاسع عشر إذ كان يوضع في النرجيلة لتدخينه، ولم يكن
الإيرانيون قد عرفوا السيكارة بعد. وقد نشأت قضية "التنباك" سنة 1891، من جراء اتفاقية عقدها الشاه ناصر الدين مع شركة بريطانية حيث منحها امتياز لاحتكار "التنباك" وبيعه في كافة
أنحاء إيران. وقد تضرر من ذلك تجار إيران (البازار) الذين تربطهم علاقة مصلحة قوية برجال الدين حيث يدفعون لهم الخمس والزكاة، مقابل وقوف رجال الدين في الدفاع عن مصالحهم عند
الشدة. ولذلك فقد أدت هذه الاتفاقية إلى ظهور استياء شديد عمَّ البلاد بأسرها وصار في نهاية الأمر كأنه ثورة شعبية كبرى، واتخذ رجال الدين دور الزعامة في الكثير من المدن الإيرانية
فوقعت من جراء ذلك معارك بين الأهالي والقوات الحكومية سقط فيها عدد غير قليل من القتلى والجرحى.
وكان الروس ضد الإنكليز يغذون هذا النزاع. ويقال أن القنصل الروسي سافر من
بغداد إلى سامراء لمقابلة المرجع آية الله السيد محمد حسن الحسيني الشيرازي والذي كان مقيماً في سامراء، ويعتبر المرجع الأعلى للشيعة ليس في العراق فحسب، بل وفي العالم كله. وعرض
عليه اتخاذ جميع الوسائل الممكنة للقضاء على الاتفاقية. كما كان الشيرازي يستلم سيلاً من الرسائل والبرقيات من إيران يطلب أصحابها فيها منه أن ينقذهم من اتفاقية "التنباك"، وحاول
الشاه إقناع السيد محمد حسن الحسيني الشيرازي بفائدة الاتفاقية فلم يقتنع، وأخيراً أصدر فتواه المشهورة بتحريم تدخين التنباك.. وأن "من استعمله كمن حارب الإمام عجل الله فرجه".
ولما وصلت هذه الفتوى إلى إيران نشرت على الناس فامتنعوا عن تدخين "التنباك". والغريب أنهم كانوا يتسامحون مع من
يتعاطى الأفيون أو شرب الخمر. (علي الوردي، لمحات، ج3، ص 95، عن محسن العاملي، أعيان الشيعة، دمشق 1940، ج23، ص 275-276 ). وأخيراً
اضطرت الحكومة إلى إلغاء الاتفاقية مع الشركة بعد أن دفعت تعويضاً لها. وخرج المنادون في الشوارع ينادون بإباحة التدخين، وكان ذلك يوماً مشهوداً في إيران وفي سامراء. وهكذا غيَّر
المجتهد الأكبر موقفه من تدخين التنباك من تحريمه إلى إباحته بمجرد أن مصلحة التجار اقتضت ذلك.
الحادثة الثانية: قضية المشروطة:
المشروطية أو المشروطة هي حركة المطالبة بالدستور التي ظهرت في تركيا وإيران في أواخر القرن التاسع عشر، وسميت بهذا
الاسم لأن القائمين بها اعتبروا مواد الدستور بمثابة "الشروط" التي يجب أن يتقيد بها الملك في حكم رعيته، وهذه فكرة مستمدة من نظرية "العقد الاجتماعي" التي شاعت في أوربا بعد قيام
الثورة الفرنسية ومنها جاءت إلى تركيا وإيران. وفي إيران سميت بالمشروطة، وفي تركيا بالمشروطية. وكالعادة في مثل هذه الأحوال، انشق رجال الدين ومعهم أتباعهم إلى مؤيدين ومناهضين
للمشروطة. وكان من بينهم رجل دين اشتهر فيما بعد، وهو الشيخ محمد حسين النائيني، الذي كان من أشد المتحمسين للمشروطة والديمقراطية وتحرير المرأة، فألف كتاباً بعنوان:
(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) عام 1909م، والذي لقي رواجاً واسعاً. ولكن بعد أن جاء الشيخ إلى النجف للدراسة
وبلغ درجة الاجتهاد، وخوفاً على مكانته بين مقلديه، تخلى عن أفكاره المؤيدة للنظام الدستوري، وسحب كتابه من الأسواق، خوفاً على سمعته!! وهذا دليل آخر على أن مواقف رجال الدين،
كغيرهم من البشر، تتغير وفق المصالح الدنيوية، دون أي اعتبار للمبادئ.
دروس من موقف المتشددين الإسلاميين
لاحظنا مما تقدم، أن الشيخ مهدي الخالصي كان متشدداً ضد الملك فيصل والدولة الفتية، ويعتقد أن ابنه الشيخ محمد كان
يحثه على هذا التشدد باسم الحرص على الوطن والوطنية. ولكن من متابعة سيرة الشيخ محمد الخالصي، نجد أنه في الخمسينات والستينات وقف ضد أحزاب الحركة الوطنية في العراق وبالأخص اليسارية.
ففي عهد ثورة 14 تموز وقف الشيخ موقفاً معادياً من اليساريين إلى حد أنه ساند انقلاب 8 شباط 1963، وشارك أتباعه مع الحرس القومي في الكاظمية في تعذيب وقتل الوطنيين الذين قاوموا
الانقلابيين، وكان قد أيد البيان رقم 13 سيئ الصيت الذي أصدره الحاكم العسكري العام آنذاك، رشيد مصلح، والقاضي بإبادة كل من يقاوم الانقلابيين. فكيف يمكن الجمع بين موقفه المتشدد
السابق ضد الملك فيصل بدعوى مطالبته بالسيادة الوطنية الكاملة، وموقفه عام 1963 الداعم لانقلاب مخطط ومدعوم من قبل الاستخبارات الغربية وبالأخص البريطانية والأمريكية؟
كما ونلاحظ أنه منذ سقوط النظام البعثي الفاشي عام 2003، فإن أحد أنجال الشيخ محمد الخالصي أصبح ناشطاً في مؤتمرات
ما يسمى بـ"المقاومة الوطنية" التي تنظمها فلول البعث وبدعم من بعض دول الجوار المعادية للعراقي الجديد.
وبمناسبة الحديث عن تناغم وانسجام بين الغلاة الدينيين ضد الحركات الوطنية وتمزيق وحدة الشعب، كتب لي صديق خبير في
الشؤون الإيرانية رسالة جاء فيها أنه من النادر أن يتفق غلاة الشيعة والسنة إلاّ على ما هو باطل، والأمثلة غير قليلة على ذلك. ولعل أحد هذه الأمثلة هو ذلك التناغم بين غلاة الشيعة في
إيران مع غلاة السنة في مصر، أي بين حزب الأخوان المسلمين المصري وبين منظمة (فدائيان اسلام) الإيرانية التي أسسها المتطرف الإسلامي الشيعي نواب صفوي أيام انتصار الحركة الوطنية
الإيرانية بقيادة الزعيم الوطني الإيراني الدكتور محمد مصدق الذي قام بتأميم النفط وتصادم مع الشاه أوائل الخمسينات من القرن الماضي. فقد سافر هذا المتطرف الديني الإيراني إلى مصر
للاستفادة من التطرف الديني للإخوان المسلمين الذين ذاع صيتهم آنذاك في مهنة التطرف. ففي عام 1953 غادر نواب صفوي إيران إلى مصر واستقبل من زعماء الإخوان المسلمين وأنصارهم الذين
حملوه على الأكتاف في شوارع القاهرة. ونشرت صوره باعتباره الند للدكتور محمد مصدق وحزب توده إيران. ومما جمع هذين التيارين هو تبادل الخبرة في الغلو الديني وتنظيم العمليات الإرهابية
ضد مناوئيهم والذي جرى في مصر وإيران على حد سواء. وقام تنظيم (فدائيان إسلام) وتحت غطاء ديني بسلسلة من العمليات الإرهابية ضد عدد من الوزراء ثم اغتيال رزم آرار رئيس الوزراء. وجرت
محاولة لاغتيال الدكتور محمد مصدق ولكنها فشلت. وقد ساندت الأجهزة الأمنية المرتبطة بالشاه أفعال فدائيان إسلام، تماماً كما ساند الملك فاروق الأخوان المسلمين في مراحل معينة لخلافه
مع النحاس باشا زعيم الوفد، لخلافاتهما الجدية مع مصدق.
وبعد تحرير العراق من حكم البعث الغاشم، ظهرت حركة باسم التيار الصدري بقيادة رجل الديني الشيعي السيد مقتدى الصدر،
وقامت بتشكيل مليشيات مسلحة وبدعم من إيران، بغطاء "مقاومة الاحتلال"، بينما الغرض الرئيسي هو إجهاض العملية السياسية التي ترمي إلى بناء نظام ديمقراطي حقيقي يتبنى دولة المواطنة
الصحيحة بدون أي تمييز عرقي أو ديني أو طائفي. وفي هذا الموقف نجد المتطرف الشيعي السيد مقتدى الصدر، والمتطرف السني الشيخ حارث الضاري في تناغم واتفاق. بنما نجد في نفس الوقت رجال
الدين من الطرفين يصرون على الاختلاف في أبسط المناسبات الدينية مثل رؤية هلال الأعياد الدينية، كمساهمة منهم لتعميق الفرقة والصراع بين أتباع المذهبين، ورفضهم الأخذ بعلم الفلك الذي
صار ميسوراً والذي يؤكد موقع الهلال بشكل دقيق ومسبق غير قابل لأي شك.
ويجب التوكيد أنه ليس كل الفقهاء الشيعة عند تأسيس الدولة العراقية وقفوا ضد مشاركة الشيعة في الدولة والوظائف، إذ
كان هناك عدد منهم يطالبون بالمشاركة العادلة ودعم الدولة، ومن بينهم المجتهد الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي قدم وثيقة وقعها عدد من الفقهاء والزعماء الشيعة في عهد الملك غازي،
مطالبين بإزالة التمييز ضد أبناء طائفتهم، وسنأتي على ذكر هذه الوثيقة في الفصل الخاص بالمحاولات التي بذلت في العهد الملكي للتخلص من الطائفية.
خلاصة القول،
نفهم من كل ما تقدم، أن البعض من المرجعية الشيعية قد ساهموا في العزل الطائفي ضد أبناء طائفتهم. وكان من الممكن التخفيف من وطأة هذا العزل لو لم يتبنوا المواقف المتشددة من
البريطانيين والملك فيصل، وفريقه في الدولة العراقية الحديثة، وبذلك فقد ساعدوا خصومهم من خريجي المدرسة العثمانية من الحكام الجدد في مواصلة تطبيق الموروث التركي العثماني في التمييز
الطائفي في الدولة العراقية الحديثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* معظم المعلومات التاريخية الواردة في هذا الفصل مستقاة من كتاب الراحل الدكتور علي الوردي، لمحات اجتماعية من
تاريخ العراق الحديث، ج3، وج5، وج6. دار كوفان، ط2 لندن، 1992.