Back Home Next

 

محاولات لمعالجة الطائفية في العهد الملكي

آراء الكاتب

الدكتور عبدالخالق حسين

http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html


رغم مرور قرون عديدة على وجود التمييز الطائفي في العراق، إلا إنه توفرت ظروف جيدة إثناء الاحتلال البريطاني للعراق، وتأسيس الحكم الوطني، ثم العهد الملكي، للتخلص نهائياً من الطائفية وتأكيد مبدأ المواطنة، فيما لو توفرت النوايا الحسنة والصادقة من قبل الإنكليز والنخبة التي حكمت العراق الملكي كما مر بنا في الفصول السابقة. ولكن مع الأسف الشديد أصر الحكام الذين نصبهم الإنكليز لحكم البلاد والعباد على مواصلة نهج الحكم العثماني التركي في العزل الطائفي، الأمر الذي أدى إلى أن يدفع الشعب ثمناً باهظاً وإلى الآن.

يقول حنا بطاطو: "وفي الواقع، فإن المرء لن يذهب أبعد من اللازم في القول إن أحداث 1919-1920، وبشكل أخص الترابط الذي نشأ بين السنة والشيعة - مهما كان رقيقاً- قد اطلقت عملية جديدة، ألا وهي النمو الصعب، الذي كان تدريجياً أحياناً، ولاهثاً أحياناً أخرى، لمجتمع وطني عراقي موحد."(1)

ويؤكد بطاطو على أهمية ثورة العشرين في تغليب المشاعر الوطنية والقومية على المشاعر المذهبية قائلاً: "وإذا كانت ثورة 1920 قد فشلت في تخليص البلاد من الفاتحين فإنها نجحت، من خلال التقريب بين الشيعة والسنة معاً، في تقوية الشعور الوطني الذي عمل، مع نموه المطرد وسيطرته في آخر الأمر على جماهير واسعة،.. ليس على إلحاق الأذى بالمصالح الإنكليزية فحسب، بل أيضاً بالموقع التاريخي لـ"السادة" أنفسهم".(2)

إذن، كانت البيئة ملائمة، والتربة خصبة للتخلص من الطائفية، وتعميق العلاقات، وتغذية المشاعر الوطنية والقومية وتماسكها بدلاً من العزل المذهبي وتسعير الصراع الطائفي. ولكن كانت هناك أياد خفية من قبل الإنكليز، باركتها العناصر التي احتمت بهم لحكم العراق، وغذوا هذا التمييز الطائفي على حساب الوطنية والقومية، وبالتالي كانت النتائج كارثية.

على أي حال، ورغم كل هذه المعوقات، جرت محاولات عديدة في العهد الملكي من قبل السياسيين الوطنيين المخلصين للتخلص من الطائفية، أهمها محاولة الملك فيصل الأول في مذكرته التي أشرنا إليها في الفصل السابق. وفي هذا الفصل نناقش المحاولات الأخرى وهي كما يلي:

محاولة جعفر أبو التمن
يعتبر المرحوم محمد جعفر بن محمد حسن بن الحاج داوود أبو التمن (1881- 1946) من مؤسسي الحركة الوطنية العراقية، إذ ناضل بلا هوادة في سبيل خلق مجتمع متجانس ومتماسك، وبناء دولة دستورية ديمقراطية ضد أي تمييز طائفي، أو عرقي، أو مناطقي. ساهم أبو التمن في ثورة العشرين وكان أحد زعمائها الرئيسيين، حيث شكل يومها، مع آخرين، مركزاً في بغداد لحركة إستقلالية. ويعود إليه في المقام الأول فضل الجمع بين الشيعة والسنة عند ذلك المفترق التاريخي، وتحويل رص الصفوف المؤقت هذا إلى حقيقة سياسية دائمة أصبح عبئاً دائماً على تفكيره، إذ لم يكن هنالك في رأيه من سبيل آخر إلى كسر شوكة الإنكليز.

ويعتقد بطاطو أن بعض السياسيين الشيعة كثيراً ما حاولوا جره إلى سياسات طائفية، ولكنه صب على رؤوسهم ماءاً بارداً مرة بعد أخرى. وفي إحدى المرات، في العام 1927، وفي لحظة أزمة بين الملك فيصل الأول والإنكليز، وبعد أن نجح الإنكليز في أن يجلبوا إلى جانبهم، الكثير من الأعضاء الشيعة في مجلس النواب، اتصل المجتهد الشيعي الأكبر الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء بأبي التمن وحثه على الانضمام إلى أبناء طائفته. ولكن أبا التمن رفض رفضاً قاطعاً، وقال أنه يفضل حل هذه الأمور بنفسه نظراً لأنه يعرف النتائج أكثر من الشيخ الذي لم يكن رجل سياسة بل رجل دين. وشدد على النقطة الأخيرة، وأضاف أن النواب الشيعة لم ينظروا إلى مصلحتهم. وعندما أفصح الشيخ عن أنه قيل بوجوب التوصية بأبي التمن عند الإنكليز، ليصبح رئيساً للوزراء، ابتسم هذا الأخير وسخر من الفكرة، وقال إنه حتى بافتراض موافقة الإنكليز، فإنه لن يستطع أبداً أن يتعاون معهم من أجل مصالحهم كما يتوقعون، وهو شيء لن يفعله أبداً.(3)

أعتقد أن الأستاذ بطاطو قد ذهب أبعد مما يجب في وصفه السياسيين الشيعة، والإمام كاشف الغطاء بالذات، بأنهم كانوا طائفيين. لذلك من الضروري توضيح هذه الإشكالية، خاصة وإنها صادرة عن باحث قدير ومحترم مثل الأستاذ بطاطو، معروف بالحيادية والبحث عن الحقيقة.
فهو يقصد هنا مؤتمر النجف الذي عقد بزعامة الإمام كاشف الغطاء في 23 آذار 1935، والذي انتهى برفع مذكرة إلى الملك غازي وسنأتي عليها لاحقاً. أقول، ليس من الإنصاف اتهام ضحايا الطائفية بالطائفية لمجرد أنهم تجرأوا وطالبوا بحقوقهم كمواطنين أسوة ببقية مكونات الشعب وإلغاء التمييز الطائفي بحقهم. فمن نافلة القول إن من يحارب الطائفية ليس طائفياً، على غرار من يعالج مرضاً ليس كمن يساهم في نشر هذا المرض. وعلى هذا الأساس، فهل يحق لنا اتهام من يطالب بالمساواة في حقوق المواطنة وإلغاء الطائفية بأنه طائفي؟ في الحقيقة كان هؤلاء ضحايا التمييز الطائفي وليسوا دعاة له.

أما رفض أبو التمن للانضمام إلى ذلك المؤتمر بالذات، فكان ناتجاً عن إدراكه العميق بتعقيدات هذه القضية، وبحساسية الموقف، وأنه كان يرفض دائماً وأبداً تجمع شيعي، أو سني دون أن يضم بين صفوفه أعضاء من المذهب الآخر وذلك حرصاً منه على عدم الاستقطاب الطائفي، وعدم استفزاز الجانب الآخر. وعليه فكان أبو التمن يتعامل مع مسألة الطائفية بمنتهى الحساسية والدقة والحذر، ودون أن يستفز الجانب الآخر.

كما لم يكن في نية الإمام كاشف الغطاء مطلقاً القيام بعمل طائفي، وإنما العكس هو الصحيح، إذ كان يريد التخلص من التمييز الطائفي، ورفع الحيف والغبن عن أبناء طائفته الذين يشكلون أكثر من نصف الشعب العراقي كما سنرى ذلك من مواد مذكرته التي سنأتي عليها في هذا الفصل.
ولكن من الجانب الآخر، ذكر بطاطو بحق عندما قال: "وقد وجه أبو التمن الجهود الرئيسية لحزبه (الحزب الوطني) بإتجاه الهدفين المترابطين أحدهما بالآخر، واللذين أختارهما لنفسه، ألا وهما: وحدة الشيعة والسنة، والقضاء على السلطة الإنكليزية. وقد أغلقت أبواب الحزب بالقوة بعد ولادته مباشرة أو يكاد في العام 1922 وذلك في أعقاب اعتقال أبي التمن ونفيه إلى جزيرة هنجام، وهي جزيرة موحشة وكئيبة في الخليج. ولكنه أعاد تشكيل الحزب في العام 1928. وعلى العموم اتخذ الحزب لنفسه لوناً يفوق كونه حزباً وطنياً بحتاً، نتيجة للطابع الإجتماعي للدعم الذي لقيه".
وكان الحزب يرتبط في الجوهر، ارتباطاً لا انفكاك منه بشخص أبي التمن. فهو الذي أوجده ونشره، وهو الذي قدم له المال لمشاريعه، واضطر حتى إلى الإستدانة لإبقائه واقفاً على قدميه. وعندما أدار له ظهره في تشرين الأول (اكتوبر) 1933، أختفى الحزب".(3)

كان أبو التمن يناضل من أجل العدالة الاجتماعية أيضاً. فهناك أهميتان بارزتان للحزب، بالإضافة إلى دوره البارز في النضال الوطني ومكافحة الطائفية، أولاً وضع العمال ضمن الخارطة السياسية، فجمعية أصحاب الصنائع (النقابات فيما بعد) كانت من نتاج الحزب. كذلك أنجب الحزب قيادات سياسية وطنية أثبتت جدارتها في تأسيس الأحزاب وقيادة النضال الوطني اللاحق. فمن رحم صفوف الحزب الوطني خرج رجال قدَّموا القيادة لثلاثة تيارات أساسية معارضة في المستقبل، وهي: التيار العروبي المتمثل بحزب الاستقلال، والجناح اليساري للشعبوَية العراقية المتمثل بجماعة "الأهالي"، و"جمعية الإصلاح الشعبي"، و"الحزب الوطني الديمقراطي"، والتيار الثوري الذي وجد تعبيره في "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار" و"الحزب الشيوعي العراقي". وقد رمى أبو التمن نفسه بثقل نفوذه إلى جانب رجال "الأهالي" و "الإصلاح الشعبي".(3)

خلاصة القول، كان أبوالتمن متديناً، ومن أتباع الإمام كاشف الغطاء، وكان من ألد أعداء الطائفية وبذل كل ما في وسعه لاجتثاثها من جذورها. وكان يتجنب تأسيس حزب يضم الشيعة وحدهم، أو ينتمي إلى أية حركة أو كتلة تضم الشيعة فقط. وظهر هذا جلياً عندما حاول الإمام كاشف الغطاء إقناعه بالإنتماء إلى حركتهم فرفض ذلك للسبب الذي ذكرناه أعلاه.

محاولة الإمام كاشف الغطاء:
نصت المادة السادسة من القانون الأساسي (الدستور) الصادر عام 1925 على (أن لا فرق بين العراقيين في الحقوق أمام القانون وأن اختلفوا في القومية والدين واللغة). ولكن الدستور كان حبراً على ورق، موضوعاً على الرفوف العالية. وكان الشعب العراقي محروماً من حقوقه الدستورية، أما الشيعة فكانت تعاني بشكل مضاعف، بسبب التمييز الطائفي. وكان هناك تحرك وتذمر من هذا التمييز، حيث عقدت اللقاءات والمؤتمرات، ورفعت المذكرات من قبل علماء الدين الشيعة وقادتهم السياسيين، وأهمها كانت مذكرة الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.
لقد بذل الشيخ جهوداً كبيرة في تخليص البلاد من الطائفية وشرورها، إذ كان يستلم رسائل من جميع أنحاء العراق يشكون إليه من التعسف والاضطهاد والإهانة والاحتقار على أيدي موظفي الدولة الطائفيين.

ورداً على رسالة المؤرخ العراقي المعروف المرحوم عبد الرزاق الحسني، يجيب الشيخ قائلاً: "… بدأ التذمر واستياء الأهلين من أهل المدن والقرى والأرياف، وتواردت علينا الكتب والرسل شاكين من سوء معاملة رجال الإدارة والموظفين من الاحتقار، والسب والإهانة، والإجحاف في الضرائب، واستعمال الشدة في استيفائها، وسجن بعض الشباب، وتعذيبهم بالضروب القاسية، بتهمة أنهم يشتغلون بأعمال الطائفية، اتفق خلال ذلك زيارة الملك غازي إلى النجف للدفعة الأولى، فاجتمعنا به برهة، وخلونا بعدها بالأيوبي، فبذلنا له النصائح وأنذرناه، حتى طلبنا منه إطلاق أولئك الشباب المعذب على تهم لا أصل لها، فوعد وما وفى بشيء، وبقي الحال على ذلك المنوال أو أشد."(4)

كما وطالب الإمام من زعماء الشيعة بوحدة الصف وعدم التحزب، وأن لا يفسحوا مجالاً للأجنبي بالدس وتفريق الصفوف، وأن لا يكون الغرض قضايا طائفية، بل كل القصد الإصلاح لخدمة عامة الشعب العراقي بجميع عناصره وكافة مذاهبه على السواء. كما وطالب الإمام هؤلاء الزعماء "أن يستقيلوا من المجالس البرلمانية والكراسي المزيفة، حتى تأتيهم النيابة الصحيحة بانتخاب الشعب لهم لا بتعيين الحكومة"(4)

وقد استجاب معظم السياسيين الشيعة لهذا النداء، وفي عيد الغدير لسنة 1353 هجرية (23 آذار/مارس 1935) وقت سقوط "الوزارة المدفعية - نسبة إلى جميل المدفعي" وتكوين "الوزارة الهاشمية الثانية- نسبة إلى ياسين الهاشمي"، عقد في النجف مؤتمر كبير بحضور الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، ووقَّع الزعماء ميثاقاً يضم مطالب الشعب في الإصلاح، سمي بميثاق النجف، رفعه الإمام إلى الحكومة مباشرة ليكون وثيقة ناطقة بتبرم الشعب من الأوضاع السائدة.

وقد تضمن الميثاق اثنتي عشرة مادة، نوجزها بما يلي:(5)

  1. المادة الأولى: تضمنت نقداً لاذعاً لسياسة الحكومة في تبني التفرقة الطائفية أساساً للحكم، خلافاً للدستور القاضي بعدم التمييز بين أبناء الشعب.

  2. المادة الثانية: نقد تزييف الانتخابات النيابية وتدخل الحكومة الفظ فيها، "حتى أصبح مجلس الأمة لا يمثل الشعب تمثيلاً صحيحاً". وضماناً لمنع التلاعب، يقترح وجوب تعديل قانون الانتخاب على أساس ضمان الحرية المطلقة بوضع القيود لمنع الحكومة من التدخل، وأن يكون الانتخاب بدرجة واحدة واعتبار كل لواء منطقة انتخابية مستقلة.

  3. المادة الثالثة: المطالبة بتطبيق المادة 77 من الدستور، التي تنص على وجوب تعيين القضاة الشرعيين من مذهب أكثرية السكان، في حين أن سلطات القضاء الشرعي منحت الحكام من مذهب أقلية السكان ومنعت تمثيل أغلبية السكان، مع لزوم تدريس أحكام الفقه الجعفري في كلية الحقوق العراقية.

  4. المادة الرابعة: أن يكون في محكمة التمييز عضو شيعي أسوة بالطائفتين المسيحية واليهودية.

  5. المادة الخامسة: المطالبة بحرية الصحافة تطبيقاً للمادة 12 من الدستور.

  6. المادة السادسة: صرف موارد الأوقاف على المؤسسات الإسلامية ودور العلم دون تمييز طائفي.

  7. المادة السابعة: تعميم وتعديل لجان تسوية الأراضي التي يتم بواسطتها الاستقرار الزراعي، وتمليك الأراضي لأربابها دون بدل.

  8. المادة الثامنة: إلغاء ضريبتي الأرض والماء والآلات الرافعة.

  9. المادة التاسعة: الأخذ بعامل الكفاءة والنزاهة في تعيين الموظفين والإداريين. ومعاقبة المسيئين. وإعادة النظر في تحديد الرواتب بصورة معقولة.

  10. المادة العاشرة: الاهتمام بالمؤسسات الصحية والثقافية والاجتماعية والعدالة في توزيعها على المناطق دون تمييز طائفي، والاهتمام بالدروس الدينية في المدارس ومعاملتها أسوة بالدروس الأخرى.

  11. المادة الحادية عشرة: عدم التعرض لمن اشترك في الحركات الوطنية الحاضرة من أبناء الشعب.

  12. المادة الثانية عشرة: توقيف أحكام القوانين التي تعارض هذه الطلبات، وإبدالها بما يضمن تنفيذ الطلبات المتقدمة.

وقد حصل نوع من الخلاف بين الزعماء الشيعة حول الميثاق، بين أنصار الحكومة والمعارضين منهم. فسافر الحاج محمد جعفر أبو التمن إلى كربلاء والنجف لحمل الشيخ كاشف الغطاء على تخفيف هذه المطالب، ووجوب مهادنة الحكومة حتى تشرع في الإصلاح المنشود فلم يوافق.(6)

ومن مطالعة هذا الميثاق ندرك ما كان يتمتع به هؤلاء الرجال من فكر إصلاحي متنور في تلك المرحلة، وهم يعربون بوعي متقدم وبالشعور العميق بالمسؤولية العالية في المطالبة بالديمقراطية الحقيقية، وأن هذا الميثاق كان دعوة إصلاحية صادقة لصالح كل الشعب وليس لطائفة معينة. ولا بد أن يسأل المرء نفسه، يا ترى لو كانت هذه المطالب العادلة قد تحققت، وتخلى الحكام عن أنانيتهم، فهل كان سيتعرض العراق إلى كل هذه الهزات والزلازل السياسية فيما بعد؟
على أي حال، قدم الشيخ كاشف الغطاء وأنصاره المذكرة إلى الملك غازي، مؤكدين له على تلاحمهم وتأييدهم لقيادته بكل ثمن. وكمناورة معاكسة تبنت الحكومة سياسة المكافأة والعقاب المزدوجة لأجل إضعاف النفوذ السياسي لعلماء الشيعة وأتباعهم بين القبائل.(7)

ردود الأفعال على الميثاق
انقسم رجال الدين الشيعة من ميثاق النجف عام 1935، إلى ثلاثة فرقاء: فريق أيده، وفريق عارضه، وفريق لاذ بالسكوت. وكانت حجة المترددين والمعارضين لاتخاذ موقف صريح وحازم من تحكم الأقلية ومن سياسة التمييز التي كانت تمارسها، هي حرصهم على الوحدة الوطنية وخوفهم من أن يتهموا بالطائفية وبإثارة التطاحن الطائفي على حد قولهم.(8)

ولكن من الجانب الآخر، كانت هذه المحاولة الإصلاحية تتمتع بتأييد واسع من قبل العشائر في الوسط والجنوب، فقد اندلعت ثورات العشائر في الرميثة في 7/5/1935 وتوجه الجيش العراقي إلى هناك وقمع الثورة وشكل مجلس عرفي لمحاكمة الثوار. بعدها اندلعت ثورة سوق الشيوخ، واحتل الثوار مركز القضاء، وامتدت إلى المناطق المحيطة بمدينة الناصرية نفسها التي كادت أن تسقط لولا الوساطات والمفاوضات بين بعض الشيوخ الموالين للحكومة وبين الثوار، وواجهتها الحكومة بالقطعات العسكرية، وقد سافر وزير الدفاع، جعفر العسكري إلى الناصرية، وبانتظار وصول الجيش لقمع الحركة استدعى إلى الناصرية بعض الرؤساء الثائرين وسألهم عن أهدافهم في الثورة فقالوا له: إن لنا ميثاقاً يجب أن ينفذ، ويقصدون به ميثاق النجف الذي أصدره الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، فأجابهم أن الحكومة مستعدة لمفاوضة الشيخ في الميثاق.(9)

بعد ثورات الفرات في 1934 و1935 و1936، والتي كشفت عن استياء الشيعة من سياسة التمييز الطائفي ورفضهم لواقعهم المر، وبعد قمع السلطة لهذه الثورات بحيث لم يعد هناك خطر داهم منها، وما يعنيه من توقع أن تتوجه السلطة لإجراء عمليات استرضاء وإن كانت ذات آثار بسيطة على الواقع، كان رد السلطة هو ترتيب عمليات انتخابات مجلس الأمة في 8/8/1935، بحيث انتخب لمحافظة البصرة التي يسكنها 90% من الشيعة 7 نواب من السنة ونائب واحد لكل من الشيعة واليهود والنصارى! ثم مجلس 1936/1937 صار للشيعة نائبان مقابل 6 نواب من السنة. وفي مجلس 1936/1937 هذا "انتخب" لمحافظة بغداد (50% من سكانها شيعة وقتئذ) 11 نائباً من السنة ونائبان لكل من الشيعة واليهود ونائب من النصارى.(10)

محاولات الملك فيصل الأول
ذكرنا في الفصول السابقة، أن الملك فيصل الأول كان حريصاً على إنصاف الشيعة وإزالة الإجحاف بحقهم، وبذل جهداً لمشاركتهم بشكل عادل في مؤسسات الدولة للحفاظ على تماسك الشعب والوحدة الوطنية، ومن الإجراءات التي قام بها الملك، مذكرته الإصلاحية عام 1933 التي أشرنا إليها في الفصل السابق، وردود أفعال المسؤولين عليها والتي كانت في معظمها سلبية. والجدير بالذكر هنا أن الملك كان قد سبق وأن وجه في عام 1928 أمراً عن طريق رستم حيدر رئيس الديوان الملكي، إلى رئاسة الوزراء، يطالب فيها تأسيس مدرسة لإعداد الموظفين ومن جميع الفئات وخاصة الشيعة كونهم حرموا من التمرن على فنون الإدارة أكثر من غيرهم في العهد العثماني، إلا إن وزير المعارف توفيق السويدي رد بمذكرة مطولة يفند فيها الفكرة من الأساس، ودون أن تتضمن أية حجة قوية في محاولتها نسف الفكرة. ومما جاء في مذكرة السويدي قوله: "يتراءى لي أنه من الأمور المسلَّمة أن تتحكم العاصمة والمدن العظيمة في بلاد ما بمقدرات الأقسام الأخرى التي هي أقل شأناً منها، وهذا قانون اصطفائي طبيعي في العالم!!" ورغم إصرار الملك على تنفيذ المشروع إلا إنه لم ينفذ لأنه وكما يقول عبدالكريم الأزري: "كان سيمس جوهر النظام القائم على احتكار أجهزة الدولة المدنية منها والعسكرية من فئة واحدة تقريباً. وبوفاة الملك فيصل عام 1933 ماتت الفكرة معه!!(11)

وفاة الملك فيصل الأول
لسوء حظ الشعب العراقي، والشيعة بخاصة، أن الملك فيصل الأول توفى مبكراً قبل إنجاز مشروعه الوطني، تاركاً الكثير من المشاكل دون حل ومنها المشكلة الطائفية، إذ كان للملك زعامة قوية وتأثير روحي على جميع الفرقاء. لذا كانت وفاته في 8 أيلول/سبتمبر، 1933، عامل تردي متسارع في علاقات الشيعة مع الحكومة المتمذهبة، وتأثير سلبي على استقرار العراق السياسي بشكل عام. إذ كان فيصل طيلة حكمه في العراق، بمثابة صمام أمان، فخلال زياراته الدورية لمنطقة الفرات كان يقدم نفسه بوصفه مدافعاً ثابتاً عن قضية الشيعة. وكان دائماً شديد الحرص على تأكيد أهمية الوحدة وضرورة تفادي النزاعات الطائفية التي من شأنها أن تعيق تقدم البلاد عموماً. وكان يترك انطباعاً في صفوف المجتمع العشائري الشيعي بأن أياماً أفضل ستأتي قريباً. وأكد أن مسألة تمثيل الشيعة تمثيلاً كافياً في الحكومة والجهاز الإداري هي مجرد مسألة صبر وثقة ضمنية بالملك، شريطة عدم القيام بمحاولة فرض القضية فرضاً.(12)

وبوفاة الملك فيصل، تحولت مقترحاته الإصلاحية إلى مجازر دموية شملت مناطق بارزان، وسنجار، والدغارة ،وعفك، وسوق الشيوخ، والرميثة، والمشخاب، وكان المشرفون عليها هم الساسة الذين خصهم الملك بمذكرته كياسين الهاشمي، ورشيد عالي الكيلاني، وجعفر العسكري، وجميل المدفعي، وحكمت سليمان وآخرين. وبذلك فكل هذه المحاولات التي أشرنا إليها فشلت، وترك البركان الطائفي ينمو تحت السطح كالقنبلة الموقوتة، تتحيَّن الوقت المناسب، إلى أن انفجر بواجهته الحقيقية الطائفية بعد سقوط حكم البعث القمعي الطائفي الفاشي في 9 نيسان/أبريل 2003.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المصادر
1) حنا بطاطو، الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية في العراق، الكتاب الأول، ترجمة عفيف الرزاز، مؤسسة الأبحاث العربية، ط1، بيروت، 1992، ص 41-42.
2) بطاطو، نفس المصدر، ص 205
3) حنا بطاطو، نفس المصدر، ص332- 334
4) عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات، ج4 ص 208.
5) عبد الرزاق الحسني، نفس المصدر، ص 101-107. ويمكن الإطلاع على نص الميثاق كاملاً على الرابط التالي: http://www.kalema.net/v1/?rpt=795&art
وهو بحث للدكتور رسول محمد رسول بعنوان: (التجربة الإصلاحية في فكر الشيخ محمَّد حسين كاشف الغطاء)، موقع الكلمة، العدد (57) السنة الرابعة عشرة، خريف 2007م/1428هـ، يجده في الثلث الأخير من البحث.
6) عبد الرزاق الحسني، نفس المصدر، ص 101-107.
7) د.خالد التميمي، جعفر أبو التمن، دار الوراق، لندن، سنة 1996، ص359.
8) د.سعيد السامرائي، الطائفية في العراق، ط1، مؤسسة الفجر، لندن،1993، ص 257.
9) د.سعيد السامرائي، الطائفية في العراق، نفس المصدر، ص 279
10) مشكلة الحكم في العراق، عبدالكريم الأزري، لندن، 1991، ص 108- 113
11) عبدالكريم الأزري، نفس المصدر، ص 16-22.
12) إسحاق نقاش، شيعة العراق، ترجمة: عبدالإله النعيمي، دار المدى، دمشق، 1996، ص 219-220
 
 

Back Nextgo to top of page