Back Home Next

 

الحلول المقترحة لمشكلة الطائفية والحكم في العراق

(الطائفية السياسية ومشكلة الحكم في العراق- 15)

آراء الكاتب

الدكتور عبدالخالق حسين

http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html

 

تمهيد

في الفصول السابقة، قدمنا عرضاً مفصلاً عن التمييز الطائفي في العراق على مر العصور وفق التسلسل الزمني. والآن يأتي دور الإجابة على السؤال: ما العمل؟ أو ما هو الحل؟ لذا أطرح في هذا الفصل، والفصل اللاحق والأخير، مقترحات لحل الأزمة. وهذان الفصلان قد نشرا في الشهر الأخير من عام 2009، ولكن بعد نشر بقية فصول الكتاب على الشبكة فيما بعد، استلمت الكثير من الملاحظات والمقالات القيمة من القراء والزملاء الكتاب الكرام، استفدت منها كثيراً، وأنا شاكر لهم اهتمامهم. وعلى ضوء هذه التعليقات، رأيت من المفيد تنقيح هذا الفصل، كما الفصول السابقة. أما الفصل الأخير حول (حول إشكالية المشاركة أو المحاصصة)(1) فلا أرى ضرورة لإعادة نشره، بل أكتفي بوضع الرابط في الهامش، ليتسنى لمن فاته في المرة السابقة.

 

ذكرنا في فصل سابق أن الشيعة كونوا، على مر العصور، في حالة ثورة مستمرة ضد الحكام وذلك بسبب الظلم الذي وقع عليهم، سواء كان هؤلاء الحكام أمويين، أو عباسيين، أو أتراك أو الحكومات المتعاقبة للدولة العراقية الحديثة. فكانوا أشبه بالبركان الذي ينتظر الوقت المناسب لينفجر ويقذف الحمم. لا شك أن الأجيال الجديدة تختلف كلياً عن الأجيال القديمة في طريقة تفكيرها واهتماماتها، فهي غير مهتمة الاختلافات المذهبية من الناحية الفقهية الدينية، بل جل اهتمامها منصب على معيشتها، وأمورها الدنيوية، خاصة في حق المساواة في الدولة أكثر من أي شيء آخر. ولكن إذا ما جاء من يحرمهم من حقوقهم الوطنية، ويعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية في وطنهم بسبب الانتماء المذهبي أو القومي، فعندئذ يتمسك بالمذهب ويتعصب له، ويدفعه هذا الشعور إلى التذمر والتمرد.

 

وفي هذا الخصوص، حدثني صديق مثقف من خلفية شيعية، وكان وزيراً في عهد الرئيس أحمد حسن البكر قائلاً، أنه ملحد ولا يؤمن بالأديان، ولكن عندما يتعرض إلى الاضطهاد بسبب خلفيته المذهبية، فإنه سيتحول إلى شيعي متعصب. أعتقد أن هذا الكلام ينطبق على جميع الناس ومن مختلف الانتماءات فيما لو تعرضوا إلى الاضطهاد بسبب خلفياتهم الدينية والمذهبية أو القومية.

 

إن ما نلاحظه في عصرنا الراهن من هبَّة دينية، وحركات إسلامية متطرفة لاستلام السلطة، ما هو إلا ردود أفعال لفشل الحكومات العلمانية أو شبه العلمانية المستبدة في البلدان العربية والإسلامية في حل مشاكل الجماهير المعيشية المتفاقمة. وما يسمى بالصحوة الإسلامية، هي علامات احتجاج على ما نال الشعوب من الفقر والفاقة والبؤس والحرمان.

 

وهذا لا يعني إن الحركات الإسلامية، سواء المعتدلة منها أو المتطرفة، لديها أي حل للمشاكل الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية المستعصية التي تعاني منها الشعوب، إذ ليس لدى الأحزاب الإسلامية أي برنامج ناجع لحل المشاكل التي عجزت الحكومات العلمانية الديكتاتورية عن حلها، فالحل لا يكمن في السير إلى الوراء للبحث عن الحلول عند السلف الصالح. فمشاكل اليوم معقدة جداً، وتختلف كثيراً عن مشاكل الأزمنة الغابرة.

 

والدليل على صحة ما نقول هو فشل الحكومات الإسلامية في حل مشاكل شعوبها مثل النظام السوداني، والإيراني. وقد أدرك الشعب الإيراني هذه الحقيقة، لذا أعلن انتفاضته المستمرة على الحكم الديني منذ الانتخابات الرئاسية عام 2009 والتي تم تزييفها في صالح المتشدد الرئيس محمود أحمدي نجاد، من أجل الخلاص من النظام الثيوقراطي (الديني)، وإقامة البديل الديمقراطي يحترم فيه حقوق الإنسان ويهتم بحل المشاكل الاجتماعية- الاقتصادية والسياسية لهذا الشعب. وما موجة الاغتيالات التي طالت المثقفين الإيرانيين على طريقة ما حصل في الجزائر في التسعينات من القرن المنصرم، إلا دليل على إفلاس تلك الفئات الإسلامية المتطرفة التي اتخذت من الإسلام ذريعة من أجل فرض هيمنتها على السلطة عن طريق الإرهاب باسم الله والدين.

 

تنتعش الحركات الإسلامية المتطرفة في البلدان الإسلامية التي تفاقمت فيها مشاكل الفقر، والبطالة، والسكن، وفساد الإدارة الحكومية، والتضخم السكاني مثل الجزائر ومصر والصومال وأفغانستان والعراق وغيرها من الدول. بينما لا نجد مثل هذه الحركات في البلدان العربية الغنية التي أولت الاهتمام بمعيشة شعوبها وتتمتع بقدرة اقتصادية جيدة مثل دول الخليج النفطية.

 

فالعراق غني بثرواته الطبيعية، وكل ما يحتاجه ليعيش شعبه بانسجام وسلام، هو قيام حكومة ديمقراطية عادلة تعمل بالمساواة والتخلص من جميع أشكال التمييز الطائفي، والقومي، والإقليمي بين المواطنين. فالطائفية لا تعالج بطائفية مضادة، والعنصرية لا تعالج بعنصرية مضادة. لقد أثبت شعار الإسلام السياسي (الحل في الإسلام، والقرآن دستورنا) فشله طوال التاريخ، فالقرآن وكما وصفه الإمام علي "حمال أوجه"، بمعنى كل يفسره على هواه. لذا فنحن نطرح الشعار البديل ألا وهو: (الحل في الدولة المدنية الديمقراطية) الذي أثبت صحته في الأنظمة التي مارسته. بمعنى أن الحل يكمن في النظام العلماني الديمقراطي الذي يعامل جميع أبناء الوطن الواحد بالمساواة على أساس الانتماء للوطن وليس العرق والدين والطائفة، واللغة ولون الجلد..الخ.

نظام يؤمن بالتعددية السياسية، والعرقية، والدينية والمذهبية،

وإقامة مؤسسات المجتمع المدني، وتنشيط دورها في مراقبة ومحاسبة السلطة.

كذلك احترام حرية الصحافة ومنظمات الضغط لتشديد الرقابة على سلوك السلطة

 ومحاسبة المسؤولين وفضح المحسوبية، والانتهازيين، والمفسدين في السلطة،

تماماً كما هي الحال في الدول الديمقراطية الغربية.

 

يحاول الإسلاميون عن عمد تفسير العلمانية بأنها مرادفة للإلحاد ومعاداة الأديان، والأمر ليس كذلك، إذ أثبتت الأنظمة الغربية الديمقراطية أن النظام العلماني الديمقراطي هو:

  1. النظام الوحيد الذي يوفر الضمانة الأكيدة لحماية الأديان وحرية العبادة واحترام رجال الدين والسماح لهم في أداء دورهم في نشر الفضيلة وحماية الأخلاق، والقيم الاجتماعية، والإنسانية النبيلة في المجتمع.

  2. وفي النظام الديمقراطي يحتل رجال الدين موقعاً أرقى مما لو تبوؤوا المناصب الحكومية، وتعرضوا لارتكاب الأخطاء كسياسيين.

  1. فلو صار رجل الدين حاكماً، ومديراً للأمن، فلا يمكنه أن يرضي جميع الناس،

  2. ولا نعتقد أن هذا الرجل معصوماً عن الخطأ ومهما كان متفقهاً في الدين يكون.

  3. ومعنى هذا أنه طالما رضي رجل الدين أن يعمل في السياسة ويشغل مناصب في الدولة، فإنه لا بد وأن يرتكب أخطاءً،

  4. وبالتالي سيتعرض للنقد والنقد الشديد وربما المهين أحياناً، أي يعامل كأي سياسي معرض للصواب والخطأ،

  5. ومن حق المجتمع في هذه الحالة نقده على الأخطاء، وبذلك يفقد رجل الدين هيبته واحترامه وهذا ما لا نريده لرجل الدين.

ومن هنا فليس من مصلحة الدين والمجتمع أن يفقد رجل الدين احترامه في المحافل السياسية والإعلامية. كما وليس من صالح رجل الدين أن يتودد ويتزلف للحاكم. وهناك حكمة إسلامية تفيد: "إذا وجد الحكام على أبواب العلماء، فنعم الحكام ونعم العلماء. أما إذا وجد العلماء على أبواب الحكام، فبئس الحكام وبئس العلماء." والمقصود بالعلماء هنا رجال الدين. 

 

والجدير بالذكر أن الدولة الدينية لا بد وأن تكون مستبدة، لأنها تعتبر أحكامها من الله وفق الشريعة الإسلامية، ولن تقبل بالمعارضة وحق الاختلاف. إذ كما قال المجتهد الأكبر آية الله ميرزا محمد حسين النائيني الذي كتب دستوراً علمانياً نشر عام 1909 في كتاب عنوانه: (تنبيه الأمَّة وتنزيه المِلَّه): "الاستبداد الديني هو أسوأ أنواع الاستبداد"، وقال اللورد أكتون: السلطة تفسد، والسلطة المطلقة تفسد إفساداً مطلقاً"

**************

 

الحلول المقترحة

 

بعد أن تم تشخيص الأزمة العراقية، ومعرفة أسبابها وكوارثها وتداعياتها، وإعادة النظر في السياسات السابقة، ودراسة الأوضاع في تاريخ العراق وواقعه الراهن، وموروثه الاجتماعي culture، وغيرها من الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أدت إلى خلق هذه الأزمة وتفاقمها وتفجيرها، نقترح الحلول التالية:

 

1- حول التعامل مع الماضي

من نافلة القول أن الماضي ليس من صنعنا، بل من صنع الأجيال السابقة، وبالتالي، فنحن أبناء هذا الجيل والأجيال اللاحقة، لسنا مسؤولين عنه، وخاصة فيما يخص الانقسام الطائفي الذي بدأ قبل أكثر من 1400 سنة، حيث بدأ على شكل صراع على السلطة بين مختلف الفرقاء من الصحابة بعد وفاة النبي محمد مباشرة. ونقطة الخلاف الرئيسية بين أهل السنة والشيعة هي حول من هو الأحق بالخلافة بعد النبي، أبو بكر أم علي؟

 

وللإجابة على هذا السؤال من المفيد أن نسترشد بالمصلح الإسلامي الكبير، جمال الدين الأفغاني، وكما يقول عنه علي الوردي: [على الرغم من أصله الشيعي إلا إنه لا يتعصب للتشيع تعصباً أعمى، وكان الأفغاني يعتقد أن إثارة قضية الخلافة بعد وفاة النبي أمر يضر المسلمين في الوقت الحاضر ولا ينفعهم، وهو يتساءل في ذلك قائلاً: لو أن السنة وافقوا الشيعة الآن على أحقية علي بالخلافة فهل يستفيد الشيعة من ذلك شيئاً؟!! أو أن الشيعة وافقوا أهل السنة على أحقية أبي بكر فهل ينتفع أهل السنة؟!! ويهتف الأفغاني بعد ذلك قائلاً: "أما آن للمسلمين أن ينتبهوا من هذه الغفلة؟! ومن هذا الموت قبل الموت؟!..."](2) (علي الوردي، لمحات اجتماعية، ج3، ص 313-314، دار كوفان للنشر- لندن، 1992).

 

وهذا لا يعني أننا يجب أن نحرق كتب التاريخ، لأن التاريخ جزء من ثقافة الأمة، وتكوين شخصيتها، ولكن في نفس الوقت نحن ندرس التاريخ لا لتمجيد أخطائه والتعصب الأعمى لهذا الطرف ضد الآخر، وأن لا نحبس أنفسنا في كهوف الماضي، بل نتعلم منه الدروس والعبر، ولنخطط للمستقبل، ونتجنب أخطائه.

 

2- احترام تعددية مكونات الشعب العراقي

يجب الاعتراف بأن الشعب العراقي منقسم على نفسه أكثر من أي شعب آخر، متعدد الأعراق، والأديان، والمذاهب. وأن تعددية مكونات الشعب وليدة الجغرافية والتاريخ، وليست لعنة أو سبة، بل هي مدعاة للفخر والتآخي والوحدة في بوتقة الوحدة الوطنية والولاء للوطن، وإثراء المجتمع لو أحسن التعامل مع هذه التعددية بعقلانية وعدالة، إذ كما يقول المثل الانكليزي (unity is in diversity) أي الوحدة في التعددية. ولكن الوحدة في التعددية لن تتحقق إلا إذا تعاملت الدولة مع جميع مواطنيها بالتساوي في الحقوق، والواجبات، وتكافؤ الفرص، لتشعرهم بأنهم حقاً مواطنون من الدرجة الأولى وليسوا مواطنين على درجات متفاوتة. فالصراعات بين مكونات الشعب العراقي في الماضي كانت بسبب التمييز بينها، وغياب العدالة، ومحاباة مكونة على حساب المكونات الأخرى، واستئثار فئة واحدة منها بالسلطة والثروة والنفوذ والوظائف المدنية والعسكرية وغيرها. لذلك وفي هذه الحالة تتفشى العداوة والبغضاء بين مكونات الشعب الواحد، إضافة إلى عداء هذه المكونات للسلطة المستبدة الغاشمة.

 

كما ونؤكد على أن الهوية الوطنية والولاء للوطن لا يتعارضان مع الاحتفاظ والاعتزاز بالانتماءات والهويات الثانوية مثل القومية والدين والمذهب والإقليم والقبيلة، ولكن في جميع الأحوال، تكون الأولوية للولاء الوطني. لقد حاولت الحكومات المتعاقبة ما قبل 2003 إلغاء الهويات والانتماءات الثانوية لمكونات الشعب العراقي عن طريق القمع وإجبارها على التخلي عنها، وفرض هوية المكونة التي تنتمي لها السلطة عليها، وصهرها قسراً في بوتقة واحدة بذريعة الحفاظ على الوحدة الوطنية، ولكن النتيجة كانت معكوسة، إذ أدت هذه السياسة إلى تخندق مكونات الشعب في هوياتها وانتماءاتها الثانوية على حساب الهوية الوطنية والولاء للوطن، والتمسك بالهوية الثانوية وتنشيطها وإضعاف الولاء الوطني. لذا فالحل ليس بمحاربة الانتماءات الثانوية بل بالمساواة بين أبناء الشعب في الحقوق والواجبات، والاعتراف بالهويات الثانوية، وعندها سوف لن تتعارض الانتماءات الثانوية مع الولاء للوطن والهوية الوطنية.

 

3- بناء دولة المواطنة

وتأسيساً على ما تقدم، نستنتج أن السبيل الوحيد لمنع تكرار الكوارث مستقبلاً، وتحقيق السعادة لجميع أبناء الشعب الواحد، هو بناء دولة المواطنة الصحيحة، ونبذ التمييز بين المواطنين بجميع أشكاله، الدينية، والطائفية، والعرقية، والقبلية، والمناطقية (الجهوية)، واحترام حقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة والطفولة...الخ، وفق اللوائح والقوانين الدولية والتي صادقت عليها الحكومات العراقية المتعاقبة، إذ يجب أن يتمتع جميع المواطنين بالحريات الديمقراطية وبسائر الحقوق الأخرى، بأن لا يكون لأية فئة منها، ومهما كانت صغيرة أو كبيرة، أي امتياز على غيرها في الوطن.

 

4 - العلمانية الديمقراطية الليبرالية هي الحل

لا يمكن تحقيق دولة المواطنة إلا بتبني النظام الديمقراطي الليبرالي، ولا يمكن تحقيق الديمقراطية الليبرالية إلا بتبني العلمانية الديمقراطية. ونؤكد هنا على تعبير (العلمانية الديمقراطية) لأنها وحدها ضمان لحرية الأديان، والمذاهب، والمعتقدات المختلفة، خلافاً للعلمانيات الأخرى مثل العلمانية البعثية والعلمانية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي سابقاً، خاصة في عهده الستاليني التي حاربت الأديان. لذلك نرى أن المبادئ الأربعة: (المساواة- المواطنة- العلمانية- الديمقراطية) مترابطة ومتماسكة لا فكاك فيما بينها، وإذا ما أُسقِطَ احد أركانها، تهدمت الأركان الأخرى. كما ونؤكد على العمل وفق شعار (الدين لله والوطن للجميع). فحرية أتباع الأديان والمذاهب المتعددة في الدولة الواحدة بممارسة شعائرها وطقوسها العبادية لا تتحقق إلا في نظام دولة المواطنة العلمانية الديمقراطية الليبرالية، كما هو واضح ومتبع في الدول الغربية الديمقراطية.

 

لقد أثبتت البحوث العلمية أن الأنظمة المستبدة وخاصة المؤدلجة منها بالأيديولوجية الشمولية، الدينية، أو الشيوعية، أو القومية الفاشية، تؤدي بالضرورة إلى تفشى الكراهية والبغضاء والعداء والتناحر بين مكونات الشعب الواحد، والتردي في الإنتاجية والتدهور الاقتصادي، بينما النظام الديمقراطي الليبرالي العلماني يعمل على نشر المحبة، والمودة، والانسجام، والتماسك والوحدة الوطنية بين أبناء، ومكونات الشعب، ويحقق الازدهار الاقتصادي وحل الخلافات بالوسائل الحضارية. أما ما جرى في العراق من صراعات في ظل الديمقراطية بعد سقوط حكم البعث، فهو امتداد للعهود السابقة وبسبب أعداء الديمقراطية الذين يعملون على إجهاضها.

 

5- التحالفات السياسية

إن التحالفات السياسية بين الأحزاب الفاعلة في العراق منذ سقوط حكم البعث في معظمها كانت مبنية على استقطابات دينية وطائفية وليست سياسية، وهذا يتناقض مع روح الديمقراطية ودولة القانون والمواطنة التي تتطلب أن تكون التحالفات فيها مبنية على أسس البرامج السياسية، والتنمية البشرية والاقتصادية، لخدمة الشعب كله، وليس لطائفة أو فئة معينة. فتحالفات الأحزاب المبنية على الأسس الدينية والمذهبية تعمق وتكرس النزعة الطائفية في البلاد وتباعد بين مكونات الشعب الواحد، وتهيئ لتفجير صراعات دموية في المستقبل. ولحسن الحظ، فقد أدرك القادة السياسيون في الآونة الأخيرة هذه الحقيقة، لذلك بدأت القوى السياسية منذ 2009 تطرح شعارات علمانية، وأقامت تحالفات عابرة للتنظيمات المذهبية والدينية. وهذه خطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح لإنضاج الديمقراطية الناشئة.

 

6- العمل على إزالة تركة البعث الساقط

المطلوب شن حملة ثقافية واسعة ومتواصلة بدون انقطاع، تشارك فيها أجهزة التربية والتعليم والإعلام، ابتداءً من العائلة والروضة إلى الجامعة، يساهم فيها بفعالية، علماء النفس، والاجتماع، والتربية، والكتاب، والصحفيون، لإزالة مخلفات الأفكار الفاشية والطائفية والعنصرية الانقسامية الضارة بالمجتمع، وإعلان القطيعة التامة مع شرور الماضي، وبالأخص أيديولوجية البعث، والعمل على نشر ثقافة الديمقراطية وروح التسامح ومفهوم المواطنة، والنزعة الإنسانية والتآخي والتعايش السلمي بين البشر، واحترام حرية الفرد والحفاظ على كرامته، وخصوصياته، وحق التعددية والاختلاف القومي والديني والمذهبي والسياسي والتعايش بسلام، ومنع الترويج للعنف والعنصرية والطائفية، والعمل على تطهير مناهج التعليم في جميع مراحله من كل ما يسيء إلى الثقافة الإنسانية والوحدة الوطنية، أو يحرض على بث الفرقة بين أبناء الشعب الواحد. كما ونقترح إدخال المواد التالية في التعليم الثانوي: مبادئ الفلسفة، وعلم الاجتماع، وتاريخ الأديان المقارن، لأن هذه المواد تساعد على تهذيب نفوس النشء الجديد، والتعايش السلمي، واحترام الأديان والمذاهب المختلفة، والتخلص من التعصب الديني، والطائفي والقومي.

 

7- عدم زج المرجعيات الدينية في السياسة

مع تأكيدنا على احترام المرجعيات الدينية، ودورها في حفظ السلم الاجتماعي ونشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة، وترسيخ روح التسامح بين أتباع مختلف الطوائف الدينية، نطالب القادة السياسيين بعدم زج المرجعيات وتوريطها في الشأن السياسي، كما ونؤكد على منع استخدام الرموز الدينية منعاً باتاً في الحملات الانتخابية والمنافسات السياسية، أو أي نشاط سياسي، وتجنب إصدار فتاوى دينية لأغراض سياسية.

 

8- الموقف من دول الجوار

من مصلحة العراق ودول الجوار أن تربطها علاقات حسنة فيما بينها، وعدم التدخل بالشأن الداخلي، وحل الخلافات العالقة بالوسائل السلمية والحضارية. كما ويجب اتخاذ موقف حازم من دول الجوار التي ساهمت وما تزال تساهم في دعم الإرهاب وإشعال الحرائق في العراق، ومطالبتها بوقف تدخلها في الشأن العراقي دون تردد، واتخاذ الإجراءات اللازمة ضدها بوقفها عند حدها، وفضحها أمام الرأي العام العالمي، ومقاضاتها أمام المحاكم الدولية التابعة للأمم المتحدة إذا اقتضى الأمر.

 

9- تعديل الدستور

يجب تعديل الكثير من مواد الدستور، وخاصة فيما يتعلق بصلاحيات سلطات المركز والمحافظات والأقاليم، وإعطاء الأولوية للحكومة المركزية الفيدرالية، إذ لا يمكن لأية دولة أن تضمن أمن وسلامة الشعب وازدهاره الاقتصادي ما لم تكن الحكومة المركزية هي الأقوى لأنها تمثل الكل، إذ لا يجوز أن يكون الجزء أقوى من الكل. ويجب أن تكون الحكومة المركزية هي وحدها المسؤولة عن الثروات الطبيعية في البلاد وإدارتها واستثمارها وتوقيع العقود مع الشركات الأجنبية، وتوزيع ريعها بالتساوي على الشعب. كذلك الحكومة المركزية وحدها المسؤولة عن إصدار العملة، والعلاقات الخارجية وقيادة القوات المسلحة، والدفاع عن الحدود ضد العدوان الخارجي.

 

10- المشكلة الكردية

يجب التعامل مع هذه المعضلة بشفافية وحلها بشكل عادل ونهائي دون أي لبس أو غموض أو إجحاف بحق أي طرف. لقد عانى الشعب العراقي بجميع قومياته كثيراً من هذه المشكلة المزمنة التي كانت أحد أهم أسباب عدم استقراره وتقدمه وازدهاره.

لذلك فقد آن الأوان لتعديل الدستور الفيدرالي لوضع حل عادل وواضح يحقق العدل والإنصاف للجميع. وعليه أقترح أن تختار القيادة الكردستانية واحداً من إثنين: إما دولة كردية مستقلة، أو القبول بالحكم الذاتي (اللا مركزي)، ضمن الدولة العراقية الفيدرالية على غرار الفيدراليات المعروفة في العالم، مع حق الحكومة المركزية في القيام بجميع المهمات التي وردت في الفقرة 9 أعلاه من هذه المقترحات. أما البلدات والمدن الحدودية المتنازع عليها، فيجب أن تحل عن طريق استفتاء سكان كل بلدة أو مدينة فيما إذا يرغبون في البقاء مع العراق أو كردستان، واحترام آراء ورغبات أكثرية سكان تلك المناطق.(3)  

 

11- منصب رئيس الجمهورية

اقترح تعديل الدستور فيما يخص مهمات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء. هناك تطابق وازدواجية في مسؤوليات هذين المنصبين الكبيرين، وهذا يؤدي إلى صراع وتقاطع بينهما، كما حدث حول من يمثل العراق في مؤتمر القمة العربي في قَطَر في شهر مارس عام 2009، وأخيراً قام رئيس الوزراء بذلك. ونلاحظ تكرار هذه المشكلة عندما يتطلب الأمر تمثيل العراق في مؤتمرات القمم الدولية في الأمم المتحدة. لذلك أقترح تعديل الدستور بأن يكون رئيس الوزراء هو المسؤول التنفيذي والقائد العام للقوات المسلحة دون أي التباس أو غموض أو مجال للتأويل. أما منصب رئيس الجمهورية فيجب أن يكون تشريفياً، وليس تنفيذياً، ينتخب من قبل البرلمان، ليقوم بالواجبات التشريفية فقط، ويمثل رمزاً للوحدة الوطنية، ويفضل أن يكون من الأكاديميين البارزين المستقلين، وكل مرة يكون من أحد أطياف الشعب العراقي.

كما وأقترح إلغاء مجلس الرئاسة والمادة الدستورية التي تعطي حق النقض (فيتو) لأي عضو من أعضاء هذا المجلس لقرارات البرلمان، لأن هذا الحق يتناقض مع الديمقراطية ويفرغها من مضمونها. فالبرلمان هو أعلى سلطة تشريعية منتخبة من قبل الشعب ويصدر القوانين باسمه. وعليه فهذه المادة ضد الديمقراطية، وتشل البرلمان وحق الأكثرية في تشريع القوانين، وتكون سبباً لعدم الاستقرار، لأنها تعطي الحق لشخص واحد غير منتخب من قبل الشعب بإلغاء قرار اتخذه برلمان منتخب من الشعب، وهذه حالة فريدة وشاذة لا مثيل لها في جميع الأنظمة الديمقراطية في العالم. وعليه يجب إلغاء مجلس الرئاسة والاكتفاء برئيس تشريفي للجمهورية كما هو متبع في بلدان ديمقراطية كثيرة مثل الهند وسويسرا وألمانيا وإيطاليا وغيرها. 

 

12- خطر الانفجار السكاني

الانفجار السكاني يلعب دوراً كبيراً ومهماً في تحويل التعددية العرقية، والدينية، والطائفية، والسياسية إلى قنابل موقوتة وتفجير الصراعات الدموية فيما بينها في العالم الثالث. والعراق ليس استثناءً، ففي أوائل القرن العشرين كان تعداد نفوس العراق في حدود المليونين نسمة أو أقل، قفز هذا الرقم إلى أكثر من 30 مليون نسمة في عام 2009 (حسب التقديرات الرسمية) أي أزداد عدد نفوس الشعب العراقي 15 ضعفاً خلال أقل من قرن. فمعدل العائلة العراقية 7.7 نفر، وهو أعلى معدل في العالم حسب دراسات عالمية موثقة. يقابل ذلك التردي في خصوبة التربة، وازدياد الملوحة، وشح المياه، واتساع التصحر، والأزمة الخانقة في السكن. وبعبارة أخرى، تحقيق المالتوسية، (نسبة إلى نظرية توماس مالتوس، والتي مؤداها، أنه عندما تفوق زيادة السكان إنتاج الغذاء، تنشب الحروب الداخلية أو الخارجية أو كلتاهما).

لذلك لا يمكن تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية البشرية والاقتصادية والسلم الاجتماعي إلا بإيجاد حل جذري لمشكلة الانفجار السكاني الذي يمثل بحد ذاته الدمار الشامل. (4)  

**************

 

ضمانات لتنفيذ الحلول المقترحة

 

لضمان نجاح واستمرارية دولة المواطنة الديمقراطية العادلة، يجب وضع بعض الآليات والضوابط التالية:

  1. أولاً، تشريع قوانين لمكافحة التمييز أو التفرقة بين المواطنين وخاصة في التعيينات في وظائف الدولة وغيرها.

  2. ثانياً، تشريع عقوبات قانونية ضد من يمارس التمييز الديني، أو الطائفي، أو القومي، أو المناطقي ويحرِّض أو يثير مشاعر العداء والكراهية بين العراقيين على أساس التمييز العرقي أو الديني أو الطائفي..الخ

  3. ثالثاً، تشكيل هيئة مراقبة: رغم أن الدستور الحالي كالدساتير السابقة قد ضمَّن حقوق المواطنين في المساواة وعدم التمييز بينهم، إلا إنه مع ذلك كانت هذه الحقوق تستباح وتنتهك بمنتهى السهولة والعلنية في جميع العهود، لذلك، ولمنع تكرار التجاوزات على حقوق المواطنين، نقترح تأسيس هيئة مراقبة (Ombudsman) لمتابعة تنفيذ التشريعات، ومنع التمييز والتفرقة بين المواطنين، وأن يكون أعضاؤها ورئيسها من الخبراء بالقانون، ومشهود لهم بالوطنية والنزاهة، يتم اختيارهم من قبل البرلمان وتكون مسؤولة أمامه. ومن حق أي مواطن يشعر بالغبن من جراء التمييز، تقديم شكوى إلى هذه الهيئة لتقوم بالتحقيق والملاحقة لرفع الغبن عنه، ومعاقبة الجهة الممارسة للتمييز وفضحها في وسائل الإعلام. (Name and shame).

  4. رابعاً، ضرورة تصديق البرلمان على التعيينات في الوظائف من درجة عليا معينة فما فوق، قبل أن تصبح نافذة المفعول.

  5. خامساً، الالتزام بالمادة 9، الفقرة أولاً، من الدستور العراقي التي تنص على إشراك أفراد من جميع مكونات الشعب في هيئات ضباط القوات المسلحة العراقية والأجهزة الأمنية بما يراعي توازنها، دون تمييز، يتناسب مع عدد ونسبة نفوس كل مكونة من مجموع الشعب العراقي، أي تحقيق مبدأ الشراكة في الوطن. ونقصد بذلك عدم رفض المتقدم بسبب انتمائه، وإنما الكفاءة هي القياس.

 

قد تبدو هذه الشروط وكأنها دعوة للمحاصصة الطائفية، الأمر الذي سأشرحه في الفصل القادم والأخير، تحت عنوان: (حول إشكالية المشاركة أو المحاصصة)(1) للتوضيح.

 

على أي حال، أعتقد أن هذه الشروط الضامنة لدولة القانون والمواطنة والديمقراطية الليبرالية، هي كفيلة لحماية حقوق الأفراد والجماعات من التمييز، وتساعد على استقرار الأوضاع إلى أن تصبح الديمقراطية تقليداً شائعاً يحترمه الجميع. فكما ذكرنا مراراً، أن الديمقراطية لا تولد متكاملة ولن تكتمل، وخاصة في مجتمع لم يعرفها ولم يمارسها من قبل كالمجتمع العراقي، بل تحتاج إلى وقت لتستقر، وتواصل النمو نحو التكامل، فالديمقراطية هي عملية تراكمية، بدأت في الشعوب الديمقراطية العريقة بحقوق بسيطة وبعد صراعات دامية، ومشاكل كثيرة عبر إرهاصات عسيرة إلى أن صارت تقليداً وجزءً لا يتجزأ من ثقافة وأعراف وأخلاق وسلوك تلك الشعوب. وما يعانيه العراق الآن من آلام هو إرهاصات المخاض العسير لولادة الدولة العراقية الديمقراطية العصرية.

 

وما أجدرنا أن نتمثل بقول المفكر العراقي الكبير الراحل على الوردي:

 "إذا أراد الشيعة وأهل السنة في هذا العصر أن يتحدوا فليرجعوا إلى شعارهم القديم الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره… لا فرق في ذلك بين الظالم الشيعي أو الظالم السني. إن هدف الدين هو العدل الاجتماعي. وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم"

 

 

خلاصة القول: إن العلة الأساسية للأزمة العراقية هي ردود أفعال للتمييز الطائفي والعرقي منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921 إلى انهيارها عام 2003، والحل الوحيد لهذه الأزمة يكمن في إقامة دولة المواطنة الديمقراطية العلمانية، يكون فيها الدين لله والوطن للجميع.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش:

1- الفصل السادس عشر والأخير: حول إشكالية المشاركة أو المحاصصة

http://www.sotaliraq.com/abdulkhaliqhussein.php?id=559

 2- علي الوردي، لمحات اجتماعية، ج3، دار كوفان للنشر- لندن، 1992، ص 313-314.

  
 

Back Nextgo to top of page