Back Home Nextge

 

  ثورة العقل وبدايات التقدم، أين نحن منها الان؟

آراء الكاتب

د . عبد الجبار العبيدي

jabbarmansi@yahoo. com

              

بعد ظهور حركة الموسوعيين الاوربيين في العقد الرابع من القرن الثامن عشر ونجاحها الباهر في تأليف قاموس علمي مصنف لكل العلوم المنوي دراستها، تحركت العقول الاوربية حين بدأت تفكر في شئون الكون على اساس من الفكر غير المقيد، والعقل المتعطش الى المعرفة الكلية على اساس البحث العلمي والتجربة التي هي اساس الكشف العلمي الصحيح. ورغم قلة الباحثين والمتخصصين في المعرفة العلمية وقتذاك، لكن الذي اكتشفوه كان قد بهر العقول وشجعهم اكثر نحو الكشف العلمي المنتظر.

 

لقد كانت البداية انهم اداروا ظهورهم للماضي البغيض ولم يعد للنقد السلبي للعصور الوسطى من آثر. وأنما بدأ التطلع لكل جديد في عالم العلم والمعرفة، والتسابق نحو تحويل النظريات العلمية الى تطبيق بعد ان ضمنت لهم الثورة الفرنسية العملاقة مبادىء الحرية والاخاء والمساواة التي ازالت عهد الظلم والظالمين، ويقف على رأس التحدي تحطيم سجن الباستيل رمز السجن الفكري للعلماء والمتعلمين حين اُخرج الاحرار والابرار ليساهموا في مسيرة التقدم العلمي الجديد.

 

go to top of page   لكن هذا التوجه لم يكن جديدا علينا حين نادت حركة المعتزلة منذ القرن الثاني للهجرة بالثورة العقلية واعتماد العلم والتجربة العلمية بعيدا عن العاطفة والافكار اللاهوتية، حينما قالت:

  1. ان القرآن ليس نظرية تتعامل مع الفروض بل هو نظرية تتعامل مع الواقع.

  2. وخاضوا بنظرية الجدل القرآني (وكان الانسان اكثر شيءُ جدلا)

  3. وفصلوا بين الثنائية التلازمية والتقابلية والتعاقبية ووضعوا لكل واحدة حلا لفك رموزها  في تناقض الشيئين وتلائم الزوجين في الخلق وتعاقبية الليل والنهار ومفهوم الحب والكراهية،

  4. وطرحوا الاسلام كعقيدة وسلوك حين دخلوا في مناقشة العمق الفلسفي للعقيدة

  5. وطالبوا بدراسة النص الديني بلا عواطف جياشة والابتعاد عن مواقف الانصياع الاعمي والتقديس للنص الديني،

  6. وطالبوا بدراسة وتأويل نظرية الحدود

  7. ودعوا الى رفض فكرة هناك عالم غير مادي يعجز العقل عن ادراكه

  8. وان هناك بعض الايات القرأنية لا تفسير لها.

لكن هذا الطرح العلمي الرائع جوبه بالرفض التام من قبل خلافة المتوكل العباسي ومن جاء من بعده فآماتوا فكرة التطور في الحضارة الاسلامية وابقوها على حالها من الانغلاق والتخلف. وهنا تكمن المأساة التي لا زلنا نعايشها الى اليوم.

 

ورغم محاولات الردة والمرتدين من الفرنسيين لكن حركة التاريخ لن تعود الى الوراء ابدا، فقد زعزع التغيير أركان البيت القديم وان لم يهدمه، لكنه لم يعد صالحا للسكن على الحالة الاولى التي كان عليها الناس، ان التغيير حين يستقر في الاذهان يصبح من المستحيل نزعه من افكار الناس بعد ان شعروا بان البديل هو عودة الظلم والدكتاتورية وفقدان الحقوق الاخرى للمواطنين.

 

go to top of page   لقد هدف التغيير الاوربي الى تحقيق ثلاثة اهداف رئيسية للمجتمع الاوربي الجديد، ويقف على رأسها أنشاء المؤسسات العلمية الثابتة الاهداف ليستقر التقدم في الاذهان وليصبح لديها القدرة على مساعدة العلماء والباحثين لتجديد مفردات الحضارة. فكانت الجامعات هي البداية الخصبة للتحرك العلمي المنشود.

 

وتقف حركة اصلاح التعليم بكل مراحله الثلاثة ترافقه قانونية التطبيق لينتج لنا منهجا علميا جديدا بعيدا عن التزمت والانغلاقية الفكرية التي كانت بها اوربا، وكان اول نجاحهم حين حولوا المبادىء للثورة الفرنسية الى تشريعات قانونية ملزمة التطبيق. فلم يعد بأمكان احد ان يتصرف تصرفا فرديا دون تشريع. بعد ان اصبح التعليم مؤسسة مستقلة قائمة بذاتها لا تدخل حكومي عليها سوى الاشراف الاداري خوفا من الانحراف والاستغلال.

 

والهدف الثالث والاهم هوتقرير قناعة المواطن بالتغيير، فلم يعد بمقدور احد يطالب بالعودة للقديم، فأسدل الستار على الملكيات والبيروقراطيات وحكم الاقلية والمنتفعين، فأنطلق الشعب من عقاله يبحث عن كل جديد. هنا التغيير اصبح قناعة في نفوس المغيريين والناس معا، بعد ان اصبح القانون حاميا له. وبذلك ضمنت الثورة نجاح القناعة في التغيير، اي لم يعد بمقدور احد ان يفكر بأرجاع القديم الى قدمه، فأسدل الستار عن اهم مرحلة من مراحل التاريخ الاوربي المظلم (تاريخ العصور الوسطى).

 

go to top of page   وبالقياس لما نحن فيه ورغم كل الخسارة الكبرى التي حلت بالوطن العراقي بعد التغيير الاخير من جراء الاخطاء الكبيرة التي ارتكبت، والفوضى العارمة التي رافقت التغيير، فلا احد يستطيع العودة بنا الى الوراء بعد، حتى لو تغيرت القيادات وتبدلت الاتجاهات،  وهذا هو اول طريق النجاح للتغيير رغم عتامة الوضع السياسي الحالي ومحاولات اعداء الحرية والديمقراطية الذين لا هم لهم الا نزواتهم من المنتفعين. فتوفر قناعة التغيير يعتبر شرطا من شروط نجاح المهمة وان تعثرت. لذا نرى الان من يصر على الوحدة الوطنية بعد ثيات فشل الانحرافات الطائفية والعنصرية وقرب رحيل المحتل.

 

فلم يعد لدى القائمين بالتغيير الا اختراق الصعاب رغم ما يبذل من وضع العراقيل قي وجه  التحرك الحضاري،

  1. وتقف الطائقية

  2. والمحاصصة الوظيفية

  3. والعنصرية

في بداية تلك العراقيل الواجب ازاحتها من طريق المجتمع الجديد قبل ان تستفحل وتصبح قناعة عند بعض المغييرين في المجتمع وعلى مفكرينا اليوم ان لا يلتفتوا الى النقد السلبي واستذكار الاخطاء حسب  بل الى تقديم المقترحات لازاحة تلك الصعاب، مثلما وقف مفكري الغرب حين استماتوا من اجل دحرالمعوقات عندهم حين وقفت الكنيسة ورجال الدين والبيروقراطية المتأصلة في النفوس في المقدمة من تلك المعوقات. لذا أنبرى الاقطاب الثلاثة عندهم:

  1. سان سيمون في كتابه المسمى أعادة تنطيم المجتمع الاوربي الذي طرح فيه المستقبل العلمي لاوربا الحديثة،  

  2. ودارون في نظريته المعروفة بالداروينية والتي فتحت مجالا واسعا لنظرية الجدل بين معتقدات رجال الدين والنظريات العلمية في اصل الانواع،

  3. وهربت سبنسر الذي دعا الى التغيير في البناء الداخلي للمجتمع وخاصة في نطاق تقسيم العمل بين افراد المجتمع بعد تحويلهم الى منتجين لا مهرجين كما كان عهد الكنيسة البائد.

وبعقولهم الجبارة تحركوا ،فأستطاعوا نزع خرافات العصور الوسطى من افكار الناس وليضعوا محلها نظرية جديدة قائمة على ان الانسان أثمن رأسمال في الحياة، لذا لابد من استثناره من اجل التغيير، ألم يكن قرأننا يدعونا لتكريم الانسان (وكرمنا بني آدم) وعلماؤنا يدعونا لهذا التكريم. إذن مالذي ينقصنا غير العمل والايمان بما نعمل، مثلما عملوا وخلصوا وحولوا المجتمع الى ما نراه الان من تقدم ورفاه وحضارة.

 

go to top of page   فما الذي يجب ان تطرحه المؤتمرات العلمية والجامعات العراقية في بلادنا اليوم وهي مقبلة على حركة التطوير الكلي. يقف في المقدمة:

  1. فصل العلوم الدينية من قرآن وتفسير وحديث وفقه ولغة عن العلوم البحتة تماماً،

  2. ونخرج من عقولنا بأن الاتجاه العلمي البحت مضيعة للوقت وصرف للانسان عن عبادة الله.

ولم يتحقق ذلك الا باعادة النظر في المنهج المدرسي المتبع حالياً. ولقد تم طرح هذا التوجه المنهجي الجديد في مؤتمر الكفاءات العلمية من قبل باحثينا الذي عقد في بغداد للفترة من 22-24 -2008. ولا ينقصنا الا التطبيق.

 

في المرحلة الثانية  وجب علينا ان نضع قاعدة نحو تحقيق مطالب العلم الطبيعي الاساسي، قائمة على ان العلم الطبيعي هو قاعدة العلوم في دراسة المظاهر الكونية وتطبيق التجربة الفعلية في الدراسات العلمية بعيدا عن التصورات الميتافيزيقية فيصبح النبات والارض والنجوم والافلاك تحت مجهر النظرية العلمية البحتة. كما عمل الاوربيون حين نقضوا مذهب ارسطو في الوصول الى حقائق الاشياء. فيصبح البحث والتجربة هما اساس العلم الحديث لا الوهم والفرضيات الغيبية التي لا تشبع من جوع. وبذلك يصبح العلم هو الذي يحمي العقل البشري من الشكوك الدنيوية التي تفرزها الافكار الدينية المنغلقة. عندها يدرك طالب العلم الجديد عندنا ان ميدان الفلسفة والعلم هو الميدان الذي يجب ان يعيش فيه لا ميدان الوهم، هنا يصبح الطالب الجامعي الجديد بحاجة الى منطق جديد يقوم على العلم والتجربة لا تعيقة معوقات العلم الغيبي، فتكون الطبيعة هي بداية العلم الجديد. وهذا ما عملوه قادة اوربا من اهل العلم ففتحوا امام الحضارة الانسانية أفاقاً واسعة.

 

وعلى هذا الاساس تحقق مسار الفكر العلمي الجديد. بعد ان تخلص من الفكر المقيد المغلول..، حتى المدرسة الدينية اصبحت  خاضعة للمنهج العلمي لا المنهج اللاهوتي المُعتم واصبحت الكنيسة مؤسسة مستقلة لا علاقة لها بمؤسسات العلوم البحتية. والعلوم الصرفة تدرس تحت عنوان قوانين التاريخ. فاصبحت الحياة تدار بطريقة عقلية لا عاطفية يضمنها القانون.

 

وهنا اول ما يجب عمله عندنا اليوم الغاء وزارة التعليم العالي المتمثلة ببيوقراطية السلطة كما نراها هنا في الدول المتقدمة وتقف الولايات المتحدة الامريكية في المقدمة  اذ لاوزارة للتعليم العالي عندهم بعد ان استقل التعليم والمؤسسات الجامعية الكبرى التي انتجت كل هذا التقدم. وان لا توضع مصائر العلماء والتدريسيين بيد اللجان النرجسية التي لا تعي معنى العلم والمتعلمين. من هنا تدرجت الحياة العلمية والاجتماعية عندهم حتى اصبح الانسان مسئولا عن نفسه وليس من حقه ان يعيب تصرفات الاخرين الا ما يتعارض وحريته الشخصة وحقه القانوني المكتسب، فتحولت الحياة الى قناعة انسانية عَم خيرها الوارف الجميع، فأستراح المجتمع من كل معوقات الحياة بعيدا عن العاطفة والتصرف الاجتماعي الخاطىء. فأنتقل مركزالثقل في العلم من الخيال الى الواقع ومن النظري الى العملي.

 

go to top of page   اذن من هو الذي قام بهذا العمل الجبارالم يكونوا رجال اوربا المخلصين الذين جعلوا الجزاء على قدر المواهب والجهد المبذول ومستوى ذلك الجهد من الدقة وعدمها ونصيب العلم والخبرة في العمل بعد ان امنوا له حرية التصرف وابعدوا عنه الخوف والتهديد ساعتها كسب المجتمع والدولة المعركة في النهاية.

 

هذا الذي يجب ان نعمله سوية لنغير معركة التاريخ والحضارة من الدائرة المغلقة الى الافاق الواسعة، وان نؤمن ان التاريخ لا يعيد نفسه لكنه في تغير دائم فما دام هناك اطمئنان الى ثمرة العمل  فهناك تقدم وتحسن وبالتالي هناك رخاء وامل للجميع لا للقليل. وبذلك نستطيع ان نخلق مجتمعا من القوة يستطيع ان يوقف الظلم ويرد السلطة اذا هي ارادته، حينئذٍ يترفع المجتمع عن الكذب والغش والرشوة ويتعالى عن الدنيئة فينشأ عند الانسان في الدولة وعي خُلقي وانساني قائم على العمل والاجادة والحرية والنشاط والحركة فينتهي الفساد ويموت المفسدون، فهل قادتنا يتفكرون؟

  

Back Home NextBack to Subject-Paggego to top of page