كيف يجب ان نختار طريقاً للاصلاح الديني؟
آراء الكاتب
د. عبد الجبار العبيدي
أستاذ جامعي
jabbarmansi@yahoo. com
استكمالا لما كتبناه في الشرعية الدينية الاسلامية وما رافقها من عقبات في طريق الفهم الحقيقي للاسلام وطرق التطبيق العملي لها، اليوم سنحاول ان نتظرق الى موضوع اخر
لمعالجة الاصلاح الديني في الوطن العربي والذي اصبح بمثابة العقبة الكئداء في سبيل التحرر الوطني والفكري ونقل الدولة نحو الاصلاح الاجتماعي العام.
ان التمسك بالتراث وتمجيده ليس منقصة، لكن تقديسه والايغال بالتشبث به الذي يدخلنا في ظلام كالاعمى هو المنقصة. كل الشعوب لها تراث، لكنها لم ترتمِ في أحضانهِ كما ارتمينا
نحن دون حدود. فكانت النتيجة ان تقدمت تلك الشعوب ونحن تخلفنا، لماذ؟ سؤال بحاجة الى جواب يستند على المنطق لا العاطفة.
والسؤال المطروح هو: هل يمكن للتراث الاسلامي ان يعالج مشكلات العصر الحديث؟ ومشكلات التطور العصري الدائم؟ وفقَ ايديولوجية واضحة المعالم؟ وهل فيه من القوانين ما يُمكننا من الحل؟؟
وهل له من توجه علمي يعطينا نتائج ايجابية لحل معضلات المجتمع العربي المتفاقمة اليوم؟ من اجل هذا يجب علينا ان نطرح النظام الفكري العملي الذي ندعيه للمناقشة والحوار وان لا نتهم من
يتحاور معه بالخروج على الدين، وما جاء به السلف الصالح وهي تهمة جاهزة لمن يتعدى الخطوط الحمراء للمؤسسة الدينية في الوطن العربي. وهل بامكاننا تطبيقه للوصول الى الحل؟ ام نبقى
ندور في النظريات الميتافيزيقية والماورائية والفقه الميت المتوارث فتلك نهاية الامة والمصير المحتوم كما نراه اليوم مع أعداء الامة في غزة المجاهدة. وكما نقرأهُ في نظرية ما اجمع
عليه العلماء، وما قاله السلف الصالح.
لكن السؤال الاكثر الحاحاً هو: من منا بأمكانه التقدم بمشروع علمي فكري واضح خارج نطاق الفكر الديني الجامد ليتحاور مع النص؟ اوقل مع تأويل النص الديني تأويلا بعيدا عن الترادف اللغوي
والعاطفة الدينية وما يعتقدون فيه، ويعمل على أنشاء موسوعة علمية بعيداً عن الميثولوجيا الدينية، ويتمكن من ان يبقى ويستمر؟ واذا كان هذا الطوق المضروب علينا من المؤسسة الدينية
عمدا، فهل تريد لنا هذه المؤسسة العبودية الدائمة ومنطق التخلف المفروض؟ ام انها عاجزة عن اعطاء الجواب المقنع بعيدا عن العاطفة؟ لكن الاكثر خطورة انها استطاعت بالتدليس الديني تارة
وبالاغراءات المادية التي اصبحت تملكها اليوم تارة اخرى، بعد ان اصبح المال والقوة بيدها، ان تزرع فكرها الطوبائي في عقول العامة، ًوتلك اصعب من المشكلة نفسها،. أسئلة كثيرة تطرح لابد
من الاجابة عليها. فليجيبوا ان هم قادرون.وليتدخل اصحاب الاقلام النظيفة للمناقشة والحوار معهم، لعلنا نستطيع ان نحتل موضع قدم عند عامة الناس بعد ان سيطروا عليها بالمال الحرام
بوبسيوف المتخلفين.
ابتداءً نقول: اذا كان التاريخ ينتقل بالانسان من حالة الاهمال الى حالة التقدم والثبات،
فلمَ ِلم يشملنا التاريخ مثلما شمل امم اخرى كثيرة اقل منا حضارة وتاريخ؟ فأذا كان الجواب بنعم. يبدو اننا لم نفهمه، واذا كان الجواب بلا فعلينا فهمه. ان الاعتزاز بالتراث واجب
وطني وانساني، لكن لايجب ان يكون على حساب التقدم الفكري والعلمي والاقتصادي للامة؟ ان كل مالدينا من تراث بحاجة الى مراجعة جدية لكتابته من جديد بما فيه السُنة النبوية الشريفة التي
شابها الكثير من الاحاديث المدسوسة لخدمة السلطة. وان نلغي من قاموسنا ورؤوسنا ما قررته النظرية الدينية الجامدة، (ان كل ماجاء في صحيح البخاري ومسلم وبحار الانوار صحيح).
ان اول ماعلينا عمله اليوم هو ان نعترف بأن الفقه الموروث اصبح ميتأ فلا بد من دفنه والترحم عليه. فلا مقدس الا الله والقرآن، اما عصمة الرسول(ص)، فهي محصورة بالرسالة وليس بشخصه
الكريم يقول الحق في العصمة: ( يا أيها الرسولُ بلغ ما أُنزل اليكَ وان لم تفعل فما بلغتَ رسالتهُ واللهُ يَعصُمك من الناس…،المائدة 67). فالعصمة هنا بالرسالة وليس بشخص بالرسول. لان
الرسول مثلنا يشرب ما نشرب ويأكل ما نأكل ويموت مثلما نموت، يقول الحق: (قُل انما أنا بشُر مثلٌكٌم يوحى أليَ أنما الهُكُم ألهُ واحدُ…..، فصلت 6،المؤمنون 24) فالدراسة بلا منهج هي
كمن ينفخ في قربة مقطوعة. أذن لا بد من اتباع المنهج التاريخي العلمي في الدراسات اللغوية لنتخلص من نظرية الترادف في القرآن اولا، ونجتاز المرحلة الاولى لبناء الفقه الجديد، القائم
على التـأويل الجمعي للعلماء من اصحاب الاختصاصات المتنوعة لا الفقهاء من اصحاب التفاسير الاحادية.
اما المرحلة الثانية التي يجب ان نتبناها وتتبناها المجامع العلمية الصرفة لا مجامع الفقهاء الميتة،
بعد ألغاء الترادف اللغوي المعمول به اليوم في التفسير الفقهي، هو التأويل الجمعي لعلماء الاختصاص ولا دخل للفقهاء فيه ابداً، بموجب الاية (7) من سورة آل عمران (وما يعلمُ تأويلهُ الا
اللهُ والراسخون في العلمِ). فالعلم غير الفقه، والعالم غير الفقيه والأية الكريمة جاءت بصفة الجمع للعلماء لا بصفة المفرد (أنظركلمة عالم وفقيه في لسان العرب). من هنا فأن كل
التفاسير الفقهية الاحادية يجب أعادة النظر فيها ولكل الفرق الدينية دون أستثناء. وسنصاب بالذهول والحيرة والندم حين نرى ان لا ترادف بين الكتاب والقرآن والفرقان والسبع المثاني
واللوح المحفوظ والامام المبين والحديث وأحسن الحديث ومصطلحات اخرى كثيرة عدوها بمعنى واحد تجاوزا على التأويل العلمي للقرآن الكريم، لعدم قدرة الفقهاء على التأويل ففسروها تفسيرا
لغويا لا ينطبق والمعنى العلمي للنص الديني المقدس. ومن هنا نكون قد خطونا اول خطوة نحو هدم التصور السائد في فهم الاسلام القائم على الترادف اللغوي الخاطىء. لننطلق نحو منطق فلسفي
جديد ينتج عنه بالضرورة فقه جديد.
اما المرحلة الثالثة التي يجب ان ننتقل اليها هي معرفة نظريات الجدل والمجادلة (نظرية جدل الانسان) يقول
الحق: (كلُ شيءُ هالكُ الا وجهَهُ…..، القصص 88 ). فالجدلية هنا كما يطرحها القرآن الكريم جدلية ثنائية تلازمية تؤدي الى هلاك الشيء ياستمرار، فلا بقاء الا لوجهه الكريم في الحياة
الدنيا سواءً كانت مادة اومخلوقات، وفي هذا الصراع يكمن السر الالهي في التطوروالتغير المستمرين في الكون ما دام قائماً، فالقرأن الكريم يُقر بأن كل شيء خاضع للتطور والتغير بعكس ما
يدعون به بالثبات والتقليد، فالنص الديني قابل للنقاش على طاولة المشرحة العلمية.
وثنائية تقابلية تؤدي الى تلائم الزوجين في الخلق يقول الحق: (وأنهُ خلقَ الزوجين الذكَرَ والانثى،النجم 45)، فلا فرق بين الانثى والذكر في الخلق والحقوق والواجبات ولو جاز التفريق
بينهما لجاء في آية صريحة حين قال الحق: (ان المؤمنين والمؤمنات) وحرف الواو هنا جاء للتفريق بينهما من هنا يتبين لنا ان العلاقة التقابلية بين الاثنين هي علاقة متبادلة بينهما وفق
قانون التكيف في الطبيعة فلا فرق بين الاثنين ابداً، والتي لا زالت المرأة المسلمة تعاني منه الى الان.
وثنائية تعاقبية تؤدي الى تعاقب الضدين الليل والنهار وحسب نظرية البقاء الدائم بعد الانفجار الهائل الذي ادى الى انفصاال الارض عن المجموعة الشمسية الاخرى وظهور الكون المادي الحالي
بتعاقبية الليل والنهار انظر سورة الزمر 5،. هذا المفهوم العلمي الذي يطرحه القرآن الكريم لازلنا نحن بعيدون عن معرفته ومقاصده لان الفقهاء والمفسرين ادخلوه ضمن الايات القرآنية التي
لا تفسير لها فأوقعونا في الوهم.
ثم ندخل في نظرية جدل الانسان (..وكانَ الانسانُ اكثَر شيءٍ جدَلا، الكهف 54). هنا يطرح القرآن نظرية الجدل المادي الصرف كفلسفة، والفلسفة أم الجدل كما يقول العلماء، فأذا كان الامر
ينطبق على الانسان باعتباره مادة فلابد ان يكون الجدل فكريا، لان لا احد يملك الفكر غير الانسان، فهنا لابد من معرفة الفرق بين كلمتي (الحق والباطل) في الفكر الانساني وعليهما نبني
نظرية العقل في قبول المدرك من عدمه (العقل مضطر لقبول الحق) لذا فعملية التطور في القرآن دائمة ومستديمة وتخضع لقوانين الطبيعة في الوجود وليس لتفسير الفقهاء. فلمَ لا ندخل في الجدل
والمجادلة لنعي المقصد القرآني ونلغي التصور والوهم لنصل الى منطق جديد بعيدا عن رأي الفقهاء كما نحن عليه اليوم. يقول الحق:.. كذلك يضربُ اللهُ الحقَ والباطل فأما الزبَدُ فيذهبُ
جُفاءً وأما ما ينفعُ الناس، فيمكثُ في الارضَِ… سورة الرعد (7 ). وهذا هو المفتاح لفتح الباب على مصراعية لدخول نظرية العقل والغاء نظرية الترادف اللغوي والعاطفة الدينية في تفسير
النص.
اذا استطعنا ان نفك الالتباس بين الحقيقة الموضوعية والوهم (الحق والباطل) تمكنا من تسخير ما يطرحه النص
الديني لمصلحتنا ويصبح الانتقال من الغيبيات الى الملموسات بداية لنظرية المعرفة العلمية التي يطرحها القرآن واخفوها عنا الفقهاء لجهلهم بها. حينئذ تتحقق نظرية تطابق الصورة الموجودة
في الاذهان مع الصورة الموجودة في الاعيان اي ان التصورات والتصديقات يجب ان تكون متطابقة عند الانسان، فلا أية قرآنية لا تفسير لها، ولا غيبية جدلية لا معنى لها، فتبقى الآية الشريفة
(....تلك حدودُ اللهِ فلاتقربوُها ... البقرة 187) ملزمة علينا بأتباعها ومعرفتها للوصول الى الاشكالية العلمية الكبرى التي يطرحها القرأن ونحن عنها غافلون، وهنا يصبح للغيب تفسير، لا
كما أوهمونا بأن هناك ايات لا تفسير لها وحروف وردت في اول السور لامعنى لها، أنها جزء من آيات نحن ملزمون بمعرفتها وتفسيرها، وحاشى ان يكون في القرآن من حشوٍ كما صوروه لنا، كما في
سورة الكهف وسور اخرى، فأدخلوا القرآن في حشو هو بعيدُ عنه تماماً ومنعونا من الدخول في محاورته. وهنا يصبح القرآن يقر بنظرية التطور والارتقاء المادي التي لازلنا لانعرف عنها شيئا
ومن يتطرق اليها عدوه داروينياً ملحداً.
بعد هذا الجهد الجهيد نستطيع ان نخلق نظرية اسلامية في المعرقة الانسانية، مصاغة صياغة معاصرة، ومستنبطة حصرأ من القرآن الكريم، لتعطينا ما يسمى بأسلامية المعرفة. وبذلك نستطيع ان
نعطي منهجا في التفكير العلمي لكل مسلم، قائم على التجربة الواقعية للحدث التاريخي للتعامل مع الفكر الانساني برمته دون تحريم، لان ليس كل فكر انتجه الانسان هوعدو للاسلام بالضرورة،
لكن غياب المنهج المعرفي لدينا اليوم هو الذي جعلما اسرى الوهم والتخلف.
اننا نعيش اليوم آزمة فقهية قاتلة تدعونا ان نتحول الى استنباط فقه جديد معاصر بعيداً عن التفسير الفقهي الجامد للنص الديني والسُنة النبوية الشريفة. بعد ان شخصنا المشكلة فلا بد من
الحل. فهل من فتح جديد يخرجنا من الظلمات الى النور، هذا ما سنطرحه للمناقشة في المقال القادم.
Back
to Home