عاشوراء حركة من اجل الانسان، وهي لكل زمان
ومكان، وان من يجتهد ليحصر نهضة الامام الحسين السبط عليه السلام بطائفة معينة او حتى بدين معين، انما يظلم الناس والبشرية، ويظلم نفسه قبل ان يظلم الحسين عليه السلام.
ان عاشوراء ثورة المظلوم ضد الظالم، وتحدي
الاحرار الذين يرفضون العبودية لغير الله عز وجل، للعبيد الذين يخضعون اما الى الدنيا وزبارجها واما الى الطاغوت المتجبر وحكمه التعسفي، ولذلك فان عاشوراء ليست لطائفة من
المسلمين دون غيرهم، او لفئة من الناس دون سواهم، بل انها للناس كافة، فكل انسان يتحدى الطاغوت، وكل انسان يرفض الظلم ولا يقبل بالضيم، وكل انسان يتحدى القهر من اجل ان يحتفظ
بحريته وخياراته، لهو حسيني وان لم ينتم، وهو عاشورائي الولاء والمنهج وان لم ينتم.
ان عاشوراء قيم انسانية، وان كربلاء مدرسة
انسانية، وان كل من يحاول ان يحصر عاشوراء وكربلاء بالشيعة انما هو ظالم لنفسه مبين.
ان عاشوراء فضحت الزيف والخداع والدجل، كما
انها عرت شعارات الطاغوت، فاسقطت عن سوأته ورقة التوت التي حاول ان يتستر بها ليحكم الامة باسم الدين، وهو الذي لم يدخل الدين في قلبه طرفة عين ابدا، وستظل عاشوراء تلاحق
الدجالين من الحكام الظالمين وفقهاء السلطان الذين يوظفون قيم الدين الحنيف لتحقيق اهداف غير شريفة، اولئك الذين يتحكمون برقاب الناس فيصادرون حريتهم ويسحقون كرامتهم ويتجاوزون
على حقوقهم، ويقتلون الابرياء وينتهكون الاعراض ويلاحقون الاحرار، باسم الدين وباسم قيم السماء التي بعثها الله تعالى مع انبيائه عليهم وعلى نبينا محمد بن عبد الله (ص) آلاف
التحية والسلام، الى الناس كافة من اجل اسعادهم وليعيشوا بعز وكرامة.
لقد بلور الامام الشهيد عليه السلام هذه الفلسفة
في نص وصيته التي تركها للبشرية كافة عند اخيه محمد بن الحنفية، لما عزم الخروج من مدينة جده رسول الله (ص) الى مكة المكرمة، قائلا:
اني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما، وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي، اريد ان آمر بالمعروف وانهى
عن المنكر، واسير بسيرة جدي رسول الله (ص) وابي علي بن ابي طالب عليه السلام، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يحكم الله بيني وبين القوم بالحق، وهو
خير الحاكمين |
فالثورة من اجل فضح الظالم والكشف عن وجه
الحقيقة، من خلال تعرية زيف السلطة الجائرة، التي تحاول ان تتستر بالدين او بشعارات الصلاح من اجل خداع الناس ليرضخوا لها.
كما انها من اجل اصلاح احوال الناس، لان
الانسان الذي يرى الانحراف ويسكت عنه، او يتلمس الظلم ولا يحرك ساكنا، بقول على الاقل، لهو شيطان اخرس، ولذلك علمتنا عاشوراء كيف نكتشف الزيف، لنفضحه، وكيف نعرف الظلم لنواجهه،
وكيف نتعرف على الحاكم الجائر من خلال صفاته وسلوكياته الخطيرة، لنقف بوجهه، او نثور عليه اذا اقتضت الضرورة، وكل ذلك من اجل الناس ومصالحهم، والتي هي محور جوهر كل الرسالات
السماوية، ففي قول السبط عليه السلام {مثلي لا يبايع مثله} دلالة واضحة جدا على هذه الحقيقة، فهو لم يقل {انا لا ابايع} وانما قال {مثلي لا يبايع} اي انه النموذج في رفض الظلم
والقدوة في رفض البيعة لمن لا يستحق، وان كان الثمن رقابا تقطع واجسادا ترضها حوافر الخيل، وحرائر تسبى، وخياما تحرق.
لقد تحملت عاشوراء المسؤولية ازاءنا، وبقي ان نتحمل
مسؤوليتنا ازاءها، بنقل جوهر رسالتها الى الناس كافة، لتعريفهم بقيمها ووسائلها واهدافها وابعادها الحقيقية، فلو عرف الناس عاشوراء على حقيقتها لانتموا اليها بلا شروط، لانهم
سيجدون فيها المنهل الذي لا يجف عطاءه والمعين الذي لا ينضب ماءه والتجربة الانسانية التي لا تتوقف عطاءاتها.
علينا ان نحدث الناس عن عاشوراء بعقولهم،
ليفهموا الحسين عليه السلام، ويعوا اهداف نهضته، وعلينا ان نقدمها لهم بلغتهم وبفهمهم للامور، ليستوعوا السبط على احسن وجه.
لا يكفي ان نذرف الدموع على الحسين السبط عليه
السلام، ولا يكفي ان نطلق العنان لعواطفنا مع بزوغ هلال المحرم من كل عام، بل يجب ان نهتم بالجانب الاخر من عاشوراء، فالحسين عليه السلام حركة وعي تثير العقل عند الانسان، ليظل
يتساءل عن حريته التي اغتصبتها الانظمة الجائرة، وعن كرامته التي سحقها الظلمة، ووعيه الذي صادره فقهاء البلاط وجيش المثقفين الماجورين الذين يبررون للحاكم المستبد جرائمه، وعن
دوره وموقعه الذي صادرته سلطات الامن والقمع في البلاد التي يعيشها.
ان الحسين السبط عليه السلام، مدرسة لكل
الاعمار والاجناس والالوان، ولكل اصحاب الديانات بلا تمييز، لانه للناس كافة، فلقد كانت تضحيته عليه السلام من اجل الناس، كل الناس، وليس من اجل طائفة دون اخرى، او امة دون
سواها، لانه اراد ان يعلم الانسان كيف يحيا كما خلقه الله عز وجل بحرية وكرامة وعزة واباء، ليس لاحد عليه سلطان ظلم او قهر او جبروت، ولذلك شارك الى جانبه كل من عرف منه معنى
الحياة الحرة الكريمة، وهكذا يجب ان يبقى الحسين عليه السلام نبراس لكل الناس يستلهمون منه الدروس والعبر، ويتعلمون منه العيش بكرامة، او الموت بعز وشرف واباء.
لقد فضحت عاشوراء دناءة الظالم، وعرت وسائله
وادواته غير الشريفة، التي يتعامل بها مع الاخر بمجرد ان يختلف معه، او يواجهه بالحقيقة، كما انها عرت اليوم كل من يدافع عن الظالم تحت مسميات قدسية التاريخ ورجاله، خوف
الفضيحة.
ان شعوب الارض تفتخر بمن يضحي بقلامة اظفر من
اجلها، ومن اجل حياتها وكرامتها وحريتها وحاضرها ومستقبلها، فكيف بالحسين السبط عليه السلام الذي ضحى بكل شئ من اجل الانسان؟ ثم ياتي اليوم من يحاول ان يحجم التضحية ويتهم
كربلاء بالطائفية وعاشوراء بانها تثير الفتنة؟ اي جهل هذا الذي ابتليت به الامة؟ فمتى كان الحسين مثير فتنة؟ ومتى كانت كربلاء طائفية؟ ومتى كانت عاشوراء ماض انقضى ليس من وراء
استذكاره طائل؟.
ان الحسين حاضر في كل يوم، انه صرخة بوجه كل ظالم،
ونداء حرية وكرامة لكل انسان، وان كربلاء مدرسة خالدة لا توصد ابوابها، وان صفوفها مفتحة لكل من يريد ان يحضرها ليتعلم كيف يحيا بكرامة، وكيف يعيش مالكا خياراته، وان عاشوراء
تضحية من اجل الحياة وليس من اجل الموت.
ولكل ذلك يجب ان نفخر بالحسين عليه السلام،
وبكربلاء وعاشوراء.
ان من الجريمة بمكان، بحق الاهداف والقيم
الحسينية النبيلة، ان تتحول عاشوراء الى عادة، لان كل امر يتحول الى عادة يفقد قيمته ويذهب بريقه ويخفت نوره ويقل تاثيره ويضيع جوهره، ولذلك علينا ان نحتفظ بعاشوراء كقضية
استراتيجية نهتم بها كحركة وعي نرتب عليه اثرا مباشرا على حياتنا اليومية، وعلى طريقة تفكيرنا.
لتكن عاشوراء مناسبة لاعادة النظر بكل ما يخص
حياتنا اليومية، علاقاتنا، وعينا، ثقافتنا، حركتنا، فهمنا للامور، حواراتنا، معيشتنا، وكل شئ آخر.
انها مناسبة مهمة لاعادة صياغة انفسنا بما
يساعدنا على انجاز التحول نحو الافضل، فلا نظل تحكمنا الانظمة المستبدة، او نبقى ضحية تضليل فقهاء التكفير والاعلام الطائفي الحاقد، او اسرى التاريخ المزور، او يظل الجهل
والتخلف والامية تلف مجتمعاتنا.
يجب ان تكون عاشوراء مناسبة لاحداث الصدمة في
نفوسنا وفي عقولنا وشخصيتنا ووعينا، بما يساهم في تحقيق التقدم والنهوض الحضاري، اما ان تمر علينا عاشوراء كعادة تاريخية، نحتفي بها كما نحتفي باية مناسبة اخرى، لا تترك اثرا
ولا تلامس وعيا او تحرض على التفكير بالواقع المرير، هذا يعني اننا نصر على التخلف، ونرفض ان تطرق مثل هذه المناسبة ابوابنا بطريقة سليمة وفاعلة.
ان الشعوب المتحضرة، هي التي تستغل كل مناسبة
تاريخية من اجل حياة افضل، وتوظف كل حدث تاريخي من اجل اعادة النظر في يومها، فتكرس الصحيح وتصحح الخطا والانحراف، وهي تسير باتجاه الكمال الانساني، وانا اجزم لو ان امة اخرى
غيرنا ملكت الحسين عليه السلام لما عاشت الضيم ولرفضت القهر والعبودية والذل والتخلف والجهل طوال حياتها، ولكن، شاء الله تعالى ان تكون عاشوراء من نصيب امة تنعت اعظم حدث في
حياتها بالطائفية، لانه عرى الطاغوت، وتاليا عرى الانظمة التي تتخذ منه اسوة.
تعالوا نصلح حالنا بالحسين (ع) فنصلح اخلاقنا باخلاقه
وعلاقات بعضنا بالبعض الاخر بعلاقاته، ومناهجنا بمناهجه ووسائلنا وادواتنا بوسائله، وثقافتنا بثقافته، ووعينا وفهمنا وادراكنا للامور بوعيه وفهمه وادراكه.
تعالوا نصلح انظمتنا السياسية الفاسدة، بمبادئ
ثورة الحسين عليه السلام، ونصلح حركاتنا السياسية واحزابنا وتنظيماتنا، بحركة السبط عليه السلام، ونصلح صراعاتنا الحزبية وتنافسنا الانتخابي، بطريقة السبط الشهيد (ع) في تعامله
مع الاخر، صديقا كان ام عدوا، في السلطة كان ام في صفوف المعارضة، ونصلح حال النساء في مجتمعاتنا بمواقف زينب الكبرى (ع) ودورها العظيم والمشرف، وحضورها الانساني العفيف والطاهر
في ساحة المواجهة مع الظالم، ونصلح شبابنا بمواقف علي الاكبر والقاسم، وتحملهم للمسؤولية، وشجاعتهم في تحدي الموت من اجل العزة والكرامة.
ثم بعد ذلك، تعالوا نصلح العالم بعاشوراء، ليس
بالدماء والدموع، وانما بالمعرفة والفكر والاخلاق والنموذج.
تعالوا نطلق حملة عالمية لترجمة خطب الحسين
عليه السلام واقواله وافعاله، الى كل اللغات العالمية الحية، ليعرف الناس من هو السبط؟ وما هي اهدافه؟ ولماذا ضحى؟ ومن اجل من؟ عندها سيقول كل العالم ما قاله الزعيم الهندي
الماهاتما غاندي:
تعلمت من الحسين كيف اكون مظلوما فانتصر |
لنؤسس جامعات باسم الحسين عليه السلام، ومعاهد
باسم كربلاء، ومراكز بحثية ومعرفية باسم عاشوراء.
لننتقل بالحسين عليه السلام من الواقع الضيق
الى الفضاء الاوسع والارحب، فحرام علينا ان نعتقل عاشوراء في مدننا الصغيرة وازقتنا الضيقة، فلننطلق بالحسين (ع) الى الدنيا، وصدقت عقيلة بني هاشم زينب بنت علي بن ابي طالب
عليهم السلام، عندما قالت لابن اخيها الامام السجاد علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام:
لا يجزعنك ما ترى، فوالله ان ذلك لعهد من رسول الله الى جدك وابيك وعمك،
ولقد اخذ الله الميثاق من اناس، من هذه الامة، لا تعرفهم فراعنة هذه الامة، وهم معروفون في
اهل السماوات،
انهم يجمعون هذه الاعضاء المتفرقة فيوارونها، وهذه الجسوم المضرجة، وينصبون لهذا الطف علما
لقبر ابيك سيد الشهداء، لا يدرس اثره، ولا يعفو رسمه، على كرور الليالي والايام،
وليجتهدن ائمة الكفر واشياع الظلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد اثره الا ظهورا، وامره الا
علوا |
فلو علم العالم جوهر معاني رسالة الحسين السبط
عليه السلام يوم عاشوراء في كربلاء، لثار على نفسه ليصلحها، فلم يبق ــ بضم الياء ــ على ظالم، ولم يترك مظلوما يئن تحت سياط المتجبرين الا ونصره وانتصر له من ظالميه.