ثالثا؛ الاختصاص.
فالخائن لا يستشار، والاذاعة (وهو الذي يذيع اسرار الاخرين) لا يستشار، كما ان عديم الخبرة لا يستشار ايضا، بالاضافة الى ان نوعية المستشار، اختصاصه، يجب ان تتطابق مع نوعية مادة
الشورى، فاذا كنت مريضا واردت ان تستشير احدا في الامر فعليك بالطبيب لتستشيره وليس المهندس، واذا اردت ان تستصلح ارضك لتزرعها فعليك بالمهندس الزراعي لتستشيره، وليس مهندس السيارات
او الفنان او الصحفي، واذا اردت ان تختار احد من بين عدد من المرشحين في انتخابات ما ليمثلك في البرلمان مثلا او في مجلس المحافظة فعليك ان تستشير ذوي الخبرة والاختصاص والمعرفة
والباع الطويل في علم الرجال وشؤون السياسة، واذا اردت ان تستشير من يرشدك في اختيار الجامعة او المادة التي تريد ان تدرسها وتتخصص بها، فعليك بالخبير، وهكذا، فالمشورة يجب ان تكون من
المختص فيما تريد الاستشارة عنه، حتى لا تكون الاستشارة عبثية وغير مدروسة، والا فستعطي، بكل تاكيد نتائج عكسية، واحيانا مدمرة.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان علينا ان نحفظ للمستشار خبرته، من خلال تجاربنا الخاصة، اذ كلما جاءت استشارة احدهم ناجحة وصحيحة يلزمنا ان نضيف على اعتباره عندنا اعتبارا جديدا،
ليكون بمرور الزمن مستشارنا المفضل، نعود اليه كلما اردنا مشورة، ولذلك فان المستشار لا يعين بوقت محدد وانما يظل هو المستشار لا زالت مشورته صحيحة ونافعة، بغض النظر عن اي شئ.
وان قدر المستشار بقدر صحة مشورته، وهذا يتطلب ان نخبره بين الفينة والاخرى، لنتلمس صواب رايه من خطله، فلا نعتمد على مظهره او شكله او علاقته الخاصة بنا، انما نختبره ونمتحنه لنتاكد
من ارجحية عقله، والى هذا المعنى اشار الامام امير المؤمنين عليه السلام بقوله {اخبر (بضم الباء) تقله (بسكون القاف)}.
ان كل مستشار يرتفع ويهبط بمستواه، في نظري الخاص على الاقل، طبقا لاستشارته، وليس لاي اعتبار آخر، فما دام المستشار يشير علي بالراي السديد والرؤية الصحيحة، يظل معتمدي الذي ارجع
اليه عند المشورة، ولذلك نرى ان بعض الناس متيم بهذا المستشار دون غيره لما لمس منه من حسن الاستشارة وصدق الرؤية، فيما ترى آخر يحذرك من استشارة ثالث بقوله، انه يورطك اذا ما
استشرته، لكثرة ما لمس منه من الاخطاء وعدم حصافة الراي.
ان لشد ما استغرب منه هو ان بعض القادة والمسؤولين يظلون يعتمدون على هذا المستشار او ذاك، بالرغم من انهم ورطوهم في اكثر من مرة، وعندما تساله عن سبب تمسكه به، يجيبك بالقول، انه
سيصرفه اذا ما انتهت مدة العقد معه، وكان المستشار يعين على اساس زمني او بمدد زمنية معينة، ان هذا عين الخطا، فالمستشار يرجع اليه لا زال يشير بالراي الصحيح، اما في غير هذه الحالة،
فليذهب ليمارس اي عمل آخر الا الاستشارة، على الاقل عندي انا الذي جربته.
ان مهمة المستشار تنحصر في ان ينتج افكارا، في المستويات الثلاثة التالية، او في احدها على الاقل، والا سقطت عنه صفة المستشار، فهو اما ان ينتج افكارا تساهم في تطوير شئ ما، مشروعا او
عملا او اي شئ آخر، او ان ينتج افكارا ابداعية، اي افكارا تنتج ابداعا اي شيئا جديدا، على اي صعيد كان، او ان ينتج افكارا تساهم في حل مشكلة ما، فاذا اخفق في انتاج مثل هذه الافكار
فلا خير فيه، كمستشار، اذ ستسقط عنه هذه الصفة على وجه التحديد، وعليه ان يبحث عن مهنة اخرى يعتاش منها او بها.
ان المستشار يجب ان يعين او يتخذ على اساس الخبرة وليس على اساس الصداقة والمعرفة والقرابة ابدا.
كما ان هناك صفات سيئة اذا كانت في الرجل، او بعضها، فلا يحسن ان يستشار ابدا،منها مثلا ما ذكرها علي بن ابي طالب عليه السلام في احدى وصاياه لابنه السبط الحسن عليه السلام، بقوله{يا
بني، اياك ومصادقة الاحمق، فانه يريد ان ينفعك فيضرك، واياك ومصادقة البخيل، فانه يقعد عنك احوج ما تكون اليه، واياك ومصادقة الفاجر، فانه يبيعك بالتافه، واياك ومصادقة الكذاب، فانه
كالسراب، يقرب اليك البعيد، ويبعد عليك القريب} فاذا صدقت هذه الصفات وامثالها في امرئ يلزمنا ان لا نستشيره ابدا لانه يقودنا الى التهلكة، لان رايه الى افن ابدا.
هنالك صفات اخرى يجب ان نتجنبها في المستشار، منها ما ذكرها قول امير المؤمنين عليه السلام {ياتي على الناس زمان لا يقرب فيه الا الماحل (وهو الساعي في الناس بالوشاية) ولا يظرف فيه
الا الفاجر، ولا يضعف فيه الا المنصف} فالماحل والفاجر لا يستشارون، فيما يجب ان يستشار المنصف، وهو صاحب الدين، على اعتبار ان {من لا انصاف له، لا دين له} كما في القول المأثور.
كذلك، فالمتردد لا يستشار، وكذا الجبان والخائف والحسود وشارد الذهن وضعيف البديهة، لان كل هؤلاء وامثالهم لا يشيرون علينا بالخير ابدا.
ومن الصفات المهمة في المستشار، تلك التي وردت في قول الامام علي بن ابي طالب عليه السلام {لا يقيم امر الله سبحانه الا من لا يصانع (اي لا يداري في الحق) ولا يضارع (المضارعة تعني
المشابهة، والمعنى انه لا يتشبه في عمله بالمبطلين) ولا يتبع المطامع (اتباع المطامع، الميل معها وان ضاع الحق).
هذه الصفات الثلاث الاخيرة على وجه التحديد، يجب ان يدقق فيها المسؤول النظر، عندما يختار مستشاريه وبطانته، اذ من المفترض انه يريد الاعتماد عليهم في حفظ حقوق الرعية، ما يلزم ان
يكون مستشاروه امناء عليها، ليشيروا عليه بما يحفظها، اما اذا كان المستشار طماعا يتشبه بالمبطلين ويميل مع الهوى، فيتبعه على حساب الحق، لا يمكن ان يشير على المسؤول بما يحفظ حقوق
الناس ابدا.
ان بعض المسؤولين، وللاسف، يختارون لبطانتهم الامعات والطبالين والمصفقين والمهرجين والمؤيدين الذين لا يعرفون قول (لا) ابدا، فاذا اخطا قالوا له احسنت، واذا اصاب قالوا له احسنت، ان
امثال هؤلاء يدفعون المسؤول الى الهاوية دفعا، ولذلك يجب ان يختار المسؤول الاقوياء في قول الصح حتى اذا خالف رايه، ليتكئ عليهم ويستقوي بهم.
لقد قال امير المؤمنين عليه السلام لبعض بطانته، وهو يحذرهم من الضعف والمداراة والمصانعة
{وقد كرهت ان يكون جال في ظنكم اني احب الاطراء، واستماع الثناء، ولست ــ بحمد الله ــ كذلك،
ولو كنت احب ان يقال ذلك لتركته انحطاطا لله سبحانه عن تناول ما هو احق به من العظمة والكبرياء، وربما استحلى الناس الثناء بعد البلاء، فلا تثنوا علي بجميل ثناء، لاخراجي نفسي الى
الله سبحانه واليكم من التقية في حقوق لم افرغ من ادائها، وفرائض لا بد من امضائها، فلا تكلموني بما تكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يتحفظ به عند اهل البادرة، ولا تخالطوني
بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي، ولا التماس اعظام لنفسي، فانه من استثقل الحق ان يقال له او العدل ان يعرض عليه، كان العمل بهما اثقل عليه، فلا تكفوا عن مقالة بحق، او
مشورة بعدل}. |
ومن الامور التي يلزم ان لا نغفل عنها ونحن نبحث عمن نستشيره في امر ما، هو موضوعة العمر، وقديما قيل (اكبر منك بيوم، اعقل منك بسنة) على اعتبار ان العمر يكسب المرء تجربة اضافية،
فيكون الكبير ارجح عقلا من الصغير، وان كانت هذه ليست بالقاعدة المطلقة، وانما يجب ان ناخذها بنظر الاعتبار، حتى لا تفوتنا تجربة الشيخ، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام
{رأي الشيخ احب الي من جلد الغلام، وروي من مشهد الغلام} |
وربما لهذا السبب حث الاسلام، من بين اسباب اخرى، على توقير الكبير، وانزاله المنزلة اللائقة في المجتمع، لانه محط تجارب الماضي القريب.
كذلك، فان من صفات المستشار الثقة، ان يكون امينا على سر من يستشيره، فلا يفرط به، فلقد جاء في الاثر ان {المستشار مؤتمن} وان يسكت فلا يدلي براي اذا لم يكن متاكدا منه، فالسكوت بعلم
افضل من النطق بجهل، ولذلك قال علي بن ابي طالب عليه السلام {من ترك قول (لا ادري) اصيبت مقاتله} فما الضير في ان يقول المستشار (لا ادري) اذا كان لا يعرف فيما استشير به او عنه؟ او
كما في قوله عليه السلام {ولا يستحين احد منكم اذا سئل عما لا يعلم ان يقول لا اعلم} فاعتراف المرء بجهله في امر ما يسأل عنه، منقبة يشكر عليها ويحمد.
وفي المقابل، فاذا كان يعرف شيئا عن الامر، فعليه ان يقول رايه ويبدي علمه، فلا يكتمه فيضيع فرصة ربما تضيع انجازا او تؤخر عملا صالحا، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام
{لا خير في الصمت عن الحكم، كما انه لا خير في القول بالجهل} |
النقطة الجوهرية الاخرى بهذا الصدد، هي زمن الاستشارة؟.
برايي، فان الشورى واجبة في مرحلة بلورة القرار وقبل اتخاذه، وليس في العمل والتنفيذ، ولتوضيح الفكرة، اتساءل، لو ارادت مجموعة ان تسافر، متى تراها بحاجة الى التشاور والتخطيط؟
بالتاكيد ما قبل السفر، فيتشاوروا في نوعية وحجم السيارة التي سيستاجرونها مثلا، ومقصد السفر والهدف منه، وهكذا، وعندما يتفقون على كل شئ، ياتي دور التنفيذ، وقيادة السيارة والانطلاق
بها الى حيث قرروا، عندها لا يقود السيارة الا واحد منهم وليس كلهم، اليس كذلك؟.
الشورى، كذلك، فان وقتها هو ما قبل اتخاذ القرار والعزم عليه، وان طال الزمان، اما اذا اتخذ القرار فلا استشارة الا اللمم.
فالشورى في التخطيط وليس في التنفيذ، ولذلك رفض امير المؤمنين عليه السلام راي طلحة والزبير عندما قالا له:
(نبايعك على انا شركاؤك في هذا الامر) |
اذ اجابهم بقوله عليه السلام
{لا، ولكنكما شريكان في القوة والاستعانة، وعونان على العجز والاود} |
ان المشكلة في العراق اليوم، هي ان القادة السياسيين،
اتفقوا على التوافق في الحكومة، وهذا خطا فاحش اصاب الحكومة بالشلل، لانه لا شورى في التنفيذ وانما في التخطيط، كما اسلفنا للتو، اذ كان عليهم ان يتفقوا على التوافق في المجالس التي
يتخذ فيها القرار كالمجلس الرئاسي ومجلس النواب والمجلس السياسي وامثالها، اما في الحكومة وتشكيلها واعمالها فيجب ان تبسط يدها، لان مهمتها ليست اتخاذ القرار او رسم الاستراتيجيات
وانما تنفيذ ما تم رسمه في مجالس الشورى والتوافق، ولتحاسب الحكومة تحت قبة البرلمان، اما ان نلاحقها في كل صغيرة وكبيرة، فهذا خطا استراتيجي كبير انتهى بالحكومة العراقية الى الشلل
وعدم القدرة على تنفيذ الخطط، ولا اعتقد بان المشكلة ستحل اذا ما تقرر تغيير الحكومة او ترشيقها، كما يحلو للبعض تسميته، او ترميمها، وانما يكمن الحل في ان يتفق المعنيون على تغيير
طريقة تعاملهم مع (الشورى) والتوافق، فيرفعوها عن الحكومة ويكرسونها في مجالس صنع القرار.
اخيرا، فان الذي يستشير يجب ان يتصف بصفات تؤهله للاستشارة، فينتفع بها، منها:
-
الف؛ الاخلاق الحسنة، اذ قال الله تعالى:
{فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم وشاورهم
في الامر فاذا عزمت فتوكل على الله} |
-
باء؛ سعة الصدر، ليتحمل الراي وان خالفه او لم يحبه، قال امير المؤمنين عليه اليلام {آلة الرئاسة سعة الصدر}.
جيم؛ الحرية والامن، فالخائف لا يبدي افضل ما عنده من آراء وافكار، ولذلك يجب ان يكون المستشار حرا وآمنا غير خائف، ولذلك قال امير المؤمنين عليه السلام
{لا تجعلن ذرب لسانك على من انطقك، وبلاغة قولك على من سددك} |
-
دال؛ الرفق في المشورة وعدم اللجاجة والالحاح، وبذلك قال الامام علي عليه السلام {اللجاجة تسل الراي}.