قراءة في شخصية الإمام الرضا
آراء الكاتب
بقلم الدكتور رضا العطار
ridhaalattar@yahoo.com
بعد ما تشرفت بزيارة مرقد الإمام الرضا – عليه السلام – في مدينة مشهد في خريف العام المنصرم دخلت المكتبة المركزية المجاورة للصحن
الشريف لأنتشي بعض النفحات من التراث الفكري الخزين بين صفحات الكتب، وعندما استقبلني الموظف المسئول وسئل عن طلبي أعلمته رغبتي في الكتابة عن حياة الإمام الرضا – عليه
السلام – والإطلاع عن مصادر التاريخية بهذا الخصوص ليتسنى لي الكتابة بحيادية تامة، فتعامل معي بأدب جم وأحضر لي ما طلبت .
ومن خلال المطالعة المكثفة تمكنت من الاحاطة بمفردات سيرة الإمام - عليه السلام – الذي حفل عصره بأحداث جسام. وبعد ما جمعت
فيه الكفاية طبعت لي الصفحات المطلوبة ثم غادرت المكان شاكرا مغتبطا.
يقول المفكر العربي عامر ثامر
في كتاب الإمامة في
الإسلام . يعتبر الإمام الرضا – عليه السلام – من ألائمة الذين لعبوا دورا كبيرا على مسرح الإحداث الإسلامية في عصره. (1)
أقول. وبالرغم من وفرة الروايات والثوابت المنقولة إلا إن ما كتب عن الإمام لم يعطي التاريخ حقه . فالمعلومات
المعروفة عند الناس شحيحة في حجمها ناقصة في جوهرها . ومن المؤسف إن قليل من المسلمين من يعرف عن شخصية الإمام الرضا – عليه السلام- وسيرته التي اتسمت بالكفاح المرير طيلة
حياته ولهذا السبب أقدمت على الكتابة بأسلوب حر طليق محاذيا الموضوعية قدر الأمكان .
من دواعي سروري أن تكون إحدى هواياتي الشخصية هي قراءة سيرة العظماء في التاريخ . كما أود أن أعلمكم إن بعد الانتهاء من مطالعتي
الشاملة لسيرة الإمام الرضا – عليه السلام- واطلعت على معاناته بكل مفرداتها التفصيلية تراى لي إن الإمام الثامن للشيعة كان هواحد هؤلاء العظماء.
ولد الإمام الرضا
– عليه السلام – في أكثر
احتمال في شهر ذي الحجة عام 150 للهجرة واستشهد في شر رمضان عام
203 والإمام هوابن الإمام موسى بن جعفر بن الإمام الصادق بن الإمام الباقر بن
الإمام السجاد زين العابدين بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب – عليهم السلام -.
لقد اتسمت حياة الإمام الرضا – عليه السلام- بالطابع المأساوي . فما كانت المرارة وتفارق روحه خلال الأزمنة التي عاشها بين حكم
هارون الرشيد وبداية حكم ابنه المأمون. فقد شهد الإمام – عليه السلام – منذ بداية حياته ضروبا من المحن والبلايا التي لحقت بابيه الإمام موسى بن جعفر – عليه السلام - . ذلك الإمام الجليل
الذي كان وجوده مبعث قلق للحكم العباسي ومصدرا لهواجسه رغم موقف الإمام المسالم منه (2) وعندما ارتقى الرشيد سدة الحكم بدأت رياح المعاناة اللاهبة تشتد وتصهر الكيان العلوي. ولم تحد
السجون من شراهة الحكم في الانتقام من خصومه ابتدعت ضروبا من التعذيب تتفز منها النفس البشرية. كانت تعليمات الحكام العباسيين إلى البنائين تقتضي أن يملوا فراغات أعمدة البناء
بالصفوة الشابة من العلويين وهم إحياء ثم يسدوا عليهم منافذ الحياة ليموتوا خنقا. هذا ما يحدثنا ابن أثير(3) وبعد اغتيال الرشيد للإمام موسى بن جعفر – عليه السلام- .
والإمام الرضا يراقب تلك الإحداث بأوجاع قلب كسير التي التهمت الكثير من أهل بيته وأبناء عمومته . وقد كتب للإمام أن يعاصر مأساة
أبيه دون إن يملك القدرة على التخفيف من حدتها. حيث لا سبيل له إلى ذلك. ولربما كان ينتظر المصير نفسه. لان الخصومة كانت قائمة بين مغتصبي الخلافة وبين أصحابها الشرعيين من ال بيت رسول
الله – عليهم السلام- .
وبعد هلاك
الرشيد
وانقضاء أيام الأمين
واستلام المأمون مقاليد الحكم بدأت رياح الاضطهاد تهب على الإمام من نوع جديد. فقد عاشها بمرارة ولوعى. لقد شاء الخليفة العباسي المأمون ولظروف سياسية غامضة أن يجعل من الإمام
الرضا وسيلة يساوم بها مع الشيعة في خراسان والعباسيين في بغداد من جهة ومع العلويين في كل مكان من جهة ثانية.
لقد اجبر الإمام آخر المطاف على قبول ولاية العهد رغم رفضه إياها مرارا وتكرارا وعندما بدا المأمون يهدد بقبولها التمس الإمام
إليه أن يعفيه من هذا التكليف فأردف المأمون قائلا : انك يا أبا الحسن تتلقاني أبدا بما أنا كارهه وقد أمنت سطوتي فبالله إن تقبل ولاية العهد و إلا
ضربت عنقك.(4)
كانت العلاقة بين العلويين والمذاهب الإسلامية الأخرى في زمن أئمة الشيعة تتسم بروح الأخذ والعطاء ولم تظهر التأثيرات المذهبية و
العصبيات السياسية إلا في الأزمنة المتأخرة في غياب أئمة الشيعة. حيث ظهر الجدال عند المذاهب وتوسعوا في مباحث الكلام وتعصب الفرقاء في إثبات ما يؤمنون به من المذاهب
مما عمق شقه الخلاف واثار العنف بين أصحاب المناهج و لم ينتهي الأمر إلى التفسيق والتكفير بل تجاوز ذلك إلى إراقة الدماء ومن المؤسف حقا أن يعتمد الحكم
العباسي المنحاز إلى إثارة تلك النعرات المقصوده و إفساح المجال للعناصر الشريرة إن تنفث سمومها.
لقد جاء في كتاب العهد
الذي خطه الخليفة
المأمون مذكراته بيده قوله " لاحظت في شخصية الرضا السجايا الحميدة كأفضل العميم و العلم الغزير و الزهد الخالص و التخلي عن متاع الدنيا وقربه
إلى الناس فالألسن عليه متفقة و الكلمة فيه جامعة فقد تجلى في الإمام المقام الرفيع منذ إن كان يافعا حدثا ثم مكتهلا .
وكذلك وصف الجاحظ الإمام الرضا – عليه السلام- الذي عاصر حياته فقال: كان الرضا عالم زاهد ، ناسك شجاع ، جواد كريم.(5)
كما جاء في النجوم الزاهرة كان المأمون العباسي يعظم الإمام الرضا ويجلله ويخضع له ويتفانى في سبيله .(6)
ويروي عن الإمام موسى بن جعفر – عليه السلام انه كان يقول لبنيه . هذا أخوكم الرضا زاخر بعلوم أل
محمد فأسالوه في دينكم و دنياكم و احفظوا ما يعضكم به .
ويروى عن الصولي
انه قال : ما رأيت
اعلم من الرضا فكان إذا سئل عن شيء أجاب طبقا لآيات من القران المجيد.
ويروي عن ابن الضحاك قوله: والله ما رأيت رجلا كان اتقى الله منه ولا أكثر ذكرا لله منه ولا اشد
خوفا إلى الله منه ويروى عن الهروي لقد دعا المأمون الرضا مجلس الفقهاء لإجراء المناقشة والحوار فغلبهم الإمام و لم يبق منهم احد إلا واقر للإمام
الرضا بالفضل العميم و اقر على نفسه بالقصور.(7)
اعزايي الحضور : نحن لسنا بحاجة إلى شهادة بشر لإثبات قدرة الإمام الرضا العلمية و
الأدبية ويكفينا أن نستفيد من مواصفاته التي امتلأت بالمآثر في شتى مجالات المعروفة ولم يكن في متسع أي إنسان إلا أن يتصاغر أمام قدرات الإمام
الرضا – عليه السلام- لعدم تمكنه من الارتفاع إلى مستواه المعرفي و الارتقاء إلى مشارف العظم وبهذا يحسد الرضا على أصالة الأيمان وسموألذات ورفعة الروح. وهذه بعض
النماذج السلوكية التي استمدها الإمام من جده رسول الله – صلي الله عليه واله وسلم- الذي توج رسالتة بها من المثل العليا حين قال : بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق....
وفي فلسفة الإمام الرضا – عليه السلام – في حقل الفضائل الأخلاقية نذكر ما يتعلق بالحلم و التسامح حيث اعتبرها الإمام
عنصرمهم في التعامل الحضاري المقبول بين أفراد المجتمع الواعي ، وانه سيزيد من عزة الإنسان كما يدخل في بعض حالات الرد والقصاص ان يشد الإنسان العزم
على التماسك ألغضبي متحديا الموقف الحرج بقوة السيطرة الذاتية على اندفاعه النفسي والعاطفي وبأندفاعاته
يكسب التقرير والإكبار إمام الآخرين . فالمعروف إن صفة التسامح في المواقف الجدية الساخنة هي من أزكى أخلاقيات الرجل الحكيم .
يقول
المؤرخ الأبي
: لقد شاء الخليفة المأمون أن يضرب عنق رجل
والإمام حاضر في مجلسه فقال المأمون ماذا تقول يا أبا الحسن ؟
فقال الإمام : إن الله لا يزيدك بحسن العفوإلا عزا .... فعفي عنه .(8)
وفي عالم فضائل الأخلاق كذلك كان الإمام من ازهد الناس خلقا وأبعدهم من حطام الدنيا ومفاتنها لكن مفهوم الزهد عند
الإمام - عليه السلام – يقتصر على اللباس الخشن والمأكل الجشب. بل تمتد جذوره إلى ابعد من ذلك .
فالزاهد هوذلك الإنسان الذي لا يعطي المجال لمتع الدنيا ومغرياتها إن تتحكم في عقله إنما تكون له قوة السيطرة عليه كان
الدنيا لا تمثل عند غاية يسع إليها فان أقبلت فبها وإن أدبرت كانت عند الله أبقى.
قال الأبي في نثر الدرر : انه دخل على الإمام الرضا بخراسان قوم من المتصوفة وقالوا
ان أمير المؤمنين يحتفظ فيما ولاه الله تعالى من الأمر . وطلبوا منه أن يدر عليهم هذه الأمر والمطلوب هوأن يفرض الإمام على
المسلمين اللباس الخشن والأكل الجشب.
فقال الإمام : كان نبي الله يوسف يلبس الديباج المزدان بالذهب ويجلس على أرائك من ذهب و يستعمل متكئات إلى فرعون ، لكن لم
يكن ذلك لينقص من حكمته شيئا إنما كان يراد قسطه وعد له
فإذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز. إن الله لا يحرم على عباده اللباس والطعام . قل من حرم علي العباد الطيبات في الحياة الدنيا التي أنعمها الله . كما جاءت بهذا
المعني في سورة الأعراف في القران الحكيم . وبذلك اثبت الإمام إن المظهر الخارجي للزهد لا علاقة له بواقع الزهد . ربما كان ذلك كذبا يحاول البعض أن يلفت به انتباه
الآخرين .
يحدثنا ابن عباد
(9) عن طبيعة السلوك ألزهدي للإمام فيقول : كان يجلس الرضا – عليه السلام – في الصيف على حصير وفي الشتاء على مسح وكان يلبس الغليظ من الثياب وقد تشربت روحه بطبيعة الرفض لمغريات
الحياة حينما يخلوا بنفسه مبتعدا عن الحياة العامة. إما حين يظهر للناس فانه يتزين لهم انسجاما مع ما فطروا عليه من مظاهر الدنيا والتمتع بزينتها وأفراحها . إن هذا السلوك
الواقعي للإمام يعطينا المثال الرائع على واقعية أئمة الشيعة الأطهار – عليهم السلام – لفطرتهم الصافية للحياة المجردة
من كل شائبة أوزيف.
إما موقع الإمام في مجال حقوق الإنسان فكان موقعا متقدما ضمن الفضائل الأخلاقية .
يذكر المؤرخون بينما كان الخلق مجتمعين في مجلس الإمام الرضا يسألونه عن الحرام والحلال أقدم رجل وبعد السلام طلب الدخول
فأذن له . ثم سئل أن يعرض أمره فقل : بينما كنت في طريق الحج فقدت نفقتي وليس معي ما ابلغ هدفي فان ارتأيت يا بن رسول الله إن تنهضني إلى بلدي.
فإذا بلغت مقصدي بالذى توليني . فقال – عليه السلام – خذ هذا
المال واستعن به في مؤنتك ونفقتك واخرج فلا بد أن أراك أوتراني ثم خرج السائل سراعا.
فأبدى احد الحضور موجها كلامه إلى الإمام قائلا .... جعلت فداك لقد أجزلت ورحمت لكن لماذا أسترت وأخضبت وجهك ؟
فقال الإمام : لئلا أري ذل السؤال في وجه السائل لقضائي حاجته. إما سمعت قائله ينشد:
رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه |
|
متي أتيه يوما لأطلب حاجة |
فالإمام يحتجب عن سائله حين يقدم له العطاء لئلا ينظر ذل السوال في وجه السائل ويتحفظ السائل بعزه نفسه حين يستتر عن وجه المعطي في
حالة العطاء ويطلب منه أن يخرج لئلا يراه صونا لنفسه بعدم الشعور بالمنة على سائله وصونا لسائله عن تقديم الامتنان له .
فليس هدف العطاء في نظر الإمام هوكسب ود الآخرين واحتوائهم عاطفيا بل اعتبار أن الكرم صفة خليقة محمودة يقترب بها الإنسان من ربه حينما
يشاركه بما انعم عليه وحياه من فضله.
اعزائي
الحضور: بعد سرد هذه الفضائل الأخلاقية علمتم إن هدف الإمام الرضا كان مرتكزا على خدمة الإنسان لينال حياة كريمة يليق به . بصرف النظر عن عقيدته أوعرقه أولغته أولون بشرته
باعتبار إن حق الإنسان بالحرية والعدالة والمساواة يشكل المقومات الأساسية لحقوق البشر التي عن طريقها تتحقق سعادة الفرد.
وفي هذا الصدد يسرني أن أذكركم إن الرئيس الأمريكي الثالث توماس جفرسون كان قد أكد على نفس الثوابت في دستور الولايات المتحدة
الاميريكية عام (1779) أي بعد أكثر من ألف عام على إعلان هذه المبادئ من قبل الإمام الثامن للشيعة الرضا -عليه السلام- والذي كافح من اجل تطبيقها على الأرض الواقع بكفاحه
المرير طيلة حياته و أخيرا ضحى بحياته في سبيلها ولتحقيق هذه الهف النبيل الذي نادى
بها الإسلام العظيم.
اعزائي
... دعونا نسمع
بعضا من حكم الإمام الرضا نقلا عن بن صلت :
يعيب الناس زمانا
وما لزامننا عيب سوانا
يغيب زماننا والعيب فينا
ولونطق الزمان بنا هجانا
وأن الذئب يترك لحم ذئب
ويأكل بعضنا بعضا عيانا
لسنا للخداع مسوك طيب
فويل للغريب إذا رآنا
وقيل في المناقب:
لبست بالعفة ثوب الغنى
لكنك تمش شامخ الرأس
لست بفضل المال مستأنسا
لكنك تأنس بالناس
ما ان تفاخرت على معدم
ولا تضعضعت لإفلاس
وقيل في فلسفة الحياة نقلا عن البهقي :
كلنا نأمل في الأجل
والمنايا من أفات الأمل
إنما الدنيا كظل زائل
حلى فيه راكب ثم رحل
وقيل في البخل نقلا عن الطالقاني :
خلقت الخلائق في قدرة
فمنهم سخي ومنهم بخيل
فإنما السخي ففي راحة
وانما البخيل فشومه طويل
وقيل في الوعظيات لابن المغيرة:
انك تدار
لهامدة
يبتل فيها عمل ألعاملي
إلا ترى الموت محيطا بها
يكذب فيها أمل الأمل
تعجل الذنب كما تشتهي
وتأمل التوبة في قابل
الموت يأتي أهله بغتة
ما ذاك فعل الحازم العاقل
وقيل في الورع والتقوى بينما كان الإمام الرضا – عليه السلام- خارجا من
مجلس المأمون راكبا بغلته :
مطهرات نقيات ثيابهم
تتلى الصلاة عليهم أينما ذكروا
فالله لما بدا الخلق أتقنه
صفاكم واصطفاكم أيها البشر
اعزائي
..
لا يخفى عليكم إن الإمام
بعد إن فرضت عليه ولاية العهد من قبل المأمون قسرا وبدا يمارس مسؤولياته أحس ان أساليب الحكم العباسي لاتتامشى
ونهج الإسلام الحنيف، فأموال المسلمين ودماؤهم وأعراضهم
تستباح من قبل النظام وتبدد من قبل الخلفاء ومن لف لفهم على البذخ والترف والتمتع بالملذات الحلال فيها والحرام : ففي مجال الإسراف الكافر والاستهانة بمشاعر الشعب أوريكم
على سبيل المثال وصفا لحفلة زفاف أقامها الخليفة المأمون لعروستة بوران التي قال عنها المؤرخ ابن طيفون (10) انها كانت من غرائب قصص الخيال . فقد نثرت على رؤؤس الضيوف وكان غالبيتهم من
أقارب الخليفة ووزرائة وقواد جيشه كميات من مصقول البندق الذي كان يحتوي في داخله رقاق كتب عليه أحدى العبارات الثلاث- إما قرية أوجارية أوفرس . فالضيف الذي ينال بندقة يذهب إلى الوكيل
بسجل ما بداخلها ملكا صرفا لحاملها فلوكان من نصيبه قرية ـ أصبح الضيف في تلك الساعة صاحب تلك القرية بما فيها من بشر وحيوانات وقلاع وبساتين وغيرها . وهكذا مع البقية فتصوروا
!
إما في مجال المحرمات فقد كان الخلفاء العباسييون
يهيمون بشرب الخمر وكأنما في قلوبهم جذوة الغرام بها لا سبيل إلى إطفائها. فكان الخليفة الأمين مثلا لا يرتوي في احتسا
ئه حتى كان يصل مساءه بصباحه متتابعا محاطا بالجواري والغلمان وسط أصداء الرقص والغناء غير
مبال لوقار الخليفة وبالإسلام يدعي زعامته.
لقد كثر الرقيق عندهم كثره مفرطة ما كانوا يؤسرون في الحروب وقد عجت صور الخلفاء بألوف الجواري وكان معظم الخلفاء من أبنائهن فالمنصور
أمه جاريه حبشيه. وهارون الرشيد أمه جاريه روميه والمأمون أمه جاريه فارسيه.
اعزائي
. أقول لا ريب ان هذا كله كان على حساب الشعب الأعزل الذي كان يعاني حياة البؤس والشقاء لينعم الخلفاء وحاشيتهم
بحياة ملؤها الفسق والفجور وبسبب هذا الظرف الشاذ
لجأ إمامنا الرضا إلى التربية الثقافية الإيمانية.
ولم يقتصر اهتمامه على التوعية الكلامية إنما تعدى ذلك إلى ألرقابه الصارمة على سلوك الشخص ضمن المسيرة الذاتية للمسلم الملتزم. ولم
يعترف الإمام يوما بشرعية السلطة القائمه
ومع ذلك كان الإمام يشجع المشاركة في الحكم . لوكانت هذه المشاركة تدفع من التظلمات عن
الشعب المغلوب على أمره وإصلاح ذات البين كان الإمام لا يقر لأحد من
أتباعه توظيف نفسه في خدمة حكومة فاسدة إلا إذا كان ذلك لمصلحة الدين ليس إلا ...
كيف كان للإمام ان يتعايش مع رموز الخلافة بعد ما تجردت الأخيرة من محتواها القدسي وانحرف سلوك رجالها عن النهج السليم .
هذا السلوك الذي حطم الحاجز النفسي والروحي للأمة عن طريق نشر المفاسد في كل مكان كعرض الرقص الفاضح وغناء التهتك والغزل المكشوف والعشق
الشاذ حيث زخرت بها قصور الخلفاء حتى ان ألعامه من الناس كانوا يصفونها بالحانات الليلية ولم يخجل بعض الخلفاء ان يدعوا أئمة الشيعة إلى مجالس الطرب كما فعل ذلك المتوكل مع
الإمام الجليل علي الهادي – عليه السلام - .
لقد كان من عادة الخليفة العباسي المتوكل الاستهزاء بالإمام علي بن أبي طالب – عليه السلام – فكان ينادي نديمه الذي كان أصلعا بدينا إلى
قاعة الملاهي في قصره قائلا : جاء الأصلع البطين جاء أمير المومنين فيضحك الحاضرون والغريب ان هذا المتهتك ُُيقتل
على يد ابنه المستنصر ...
أقول
أيروق لكم سادتي إن نسمى هولاء الموبقون خلفاء الإسلام؟. أي خليفة إسلامية هذه التي لاتغمض جنونها إلا على أوتار المغنيين ورقص
الجاريات وطبول المخنثين؟
وأي الإسلام هذا الذي لا يطيب لخلفائه الطرب إلا مع السكارى والمعربدين ؟
أي واقع إسلامي هذا الذي تتحكم فيه شرذمة مستهترة بالقيم الإسلامية!!
وكيف ننظر إلى أئمتنا الأمناء وهم يخاطرون بأرواحهم في سبيل تحمل مسؤولية في سلطة يقودها هكذا أفراد؟
لقد كان موقف الامام الرضا – عليه السلام – تجاه هكذا سلطة سلبيا يتسم بالدعوة الصريحة إلى انفتاح على الرسالة المحمدية ومبادئها
الساميه ومحاولته علي فهم الواقع الهزيل لنهج العباسي في قيادة الأمة الإسلامية .
يقول الأديب العربي أنيس منصور
ان من سخرية القدر بمكان أن يحكم العرب
والمسلمين خليفة هوفي معظم الحالات ابن جارية جيء بها من بلاد غريبة لا تمت بالإسلام ولا بالعرب بصلة يرفع اسمه في الدعاء على المنابر صلاة الجمعة من قبل كافة مسلمين العالم .
فالخليفة هارون الرشيد أمه جاريه روميه والمأمون أمه جاريه فارسيه والمنصور أمه جاريه حبشيه (11).
أعزائي الحضور لقد كانت أجواء الاضطهاد المحاطة بالإمام الرضا مشحونة بالإرهاب إلى حد دفع بالإتباع
إلى محاولة إبعاد الإمام عن مواطن الخطر والتخفيف من وطأة النشاط الديني والابتعاد عن المواقف الصريحة التي تلفت انتباه العدو. لقد كانت بين الحين والأخر تظهر
ثورات العلويين كرد فعل لسياسة الظلم والجبروت التي كانت تمارس من قبل الحكام العباسيين كثورة إبراهيم بن موسى بن جعفر في اليمن ... وبعد هلاك الرشيد
وانقضاء أمر الأمين وانتقال السلطة إلى المأمون بعد إن عصفت ببغداد إحداث دامية تعرض معظم معالمها الحضارية إلى
الخراب دخل الإمام الرضا – عليه السلام- المأمون الذي اعتبره المؤرخون من أسوا فترات حياة الإمام الرضا اضطرابا .
فقد أصبح لشخص المامون دورا بارزا في تقلبات الأمور وانعكاساتها على مسرح
السياسة العباسية.
كان المأمون من أقوى الخلفاء العباسيين شخصية وأكثرهم اعتدالا وأخصبهم ذهنا وأوسعهم ثقافة. وقد اختلف المؤرخون على موقف
الامامون من التشييع . فمنهم من أكد على تشيعه وآخرون اعتبروا ذلك تكتيك سياسي يهدف إلى رعاية مشاعر الإمام الرضا – عليه السلام - وشيعته لكن الحقيقة على ما يبدوا كانت
غير ذلك ... كان المأمون يدعي أفضلية الإمام علي على
سائر الخلفاء وأحقيتة بالخلافة بعد رسول الله – صلي الله
عليه واله وسلم-... لذلك منع سب الإمام علي من
على
المنابر بعد ان فرضه معاوية بن أبي سفيان في الشام على الملة وكان المأمون
يعطف على العلويين . فقد رد أليهم فدك وفدك كانت ارض ملكها رسول الله ولكن بعد موته أسقطها الخليفة أبوبكر من ارث فاطمة الزهراء – سلام الله عليها . كما كتب المأمون رسالة
قال فيها ويحكم يا بني أمية لقد قتلتم زعماء الشيعة وكان يقصد بها الإمام الحسين وأهل بيته – عليهم السلام – في واقعة
الطف بكربلا.
كما قال :
وإما نحن بنوا
العباس فقد قتلنا منهم كثيرا.
فبأي ذنب قتلوا ؟
وقد ذهب البعض إلى إن تشيع المأمون كان فطريا ومنذ طفولتة
حيث كان يشرف على تربيته مدرب شيعي غرس في روحه فكرة التشيع حينما كان مقيما في منطقة خراسان التي يغلب على أهلها مشاعر التشيع للإمام علي عليه السلام (12).
بعد موت
الرشيد
بدأت شقة الخلاف تستفحل بين ولديه الأمين والمأمون وعند ما تأزمت الحالة بينهما وانقلبت
الأوضاع تقدم المأمون بجيشه واحتل العاصمة بغداد .
كان على المأمون بعد إن استقر له
الحكم
أن يعهد ولاية العهد من بعده إلى شخص كفيء موثوق به وكان عليه
إن يكون دقيقا في الاختيار منسجما مع دقة الظروف السياسية حينذاك يربط بين نتائج الماضي وتوقعات المستقبل للسيطرة على مشاعر الشيعة في خراسان والشعور العباسي في العراق . وقد اختار
الإمام الرضا - عليه السلام – لولاية العهد وفرضها عليه فرضا . إما السبب الذي دفع الإمام إلى الرفض هوإدراكه بان المأمون يريد ان يجعل من شخصه
ورقة مساومة بينه وبين الفئات السياسية والمذهبية المتناحرة وإلا ما هوالحكم
من إصرار المأمون على الإمام بالقبول وتهديده إن امتنع (13).
ولم يكن امتناع الإمام محض زهد
كيف وهويري نفسه احق
بالخلافة. لكنه كان واثقا من عدم شفافية الأمر وأنها لعبة من المأمون يريد ان ينفذها على أكتاف الإمام – عليه السلام – وان عدم قبوله للخلافة ربما يعرضه للنقد الواسع من قبل شيعته
ومحبيه ولاعتقادهم بان الخلافة هي بالأساس نص ثابت لأل البيت – عليهم السلام – وعليه ان يقبلها.
لكن أصحاب الإمام كانوا على درجة عالية من الوعي السياسي بنحولا تنطلي عليهم خدعة المأمون ... ويروي إن الإمام الرضا شوهد مرة وقد رفع يديه إلى السماء قائلا
اللهم انك تعلم إني مكره مضطر فلا تؤاخذني
كما لم تواخذ عبدك ونبيك يوسف بن يعقوب في توليه
منصب ولاية مصر لدى فرعون (14).
وبالرغم من مشاعر الإعجاب بالمقام القديس للإمام إلا إن الشك به يساور المأمون إلى حد قام
يفرض ألرقابه المشددة عليه .
وعند ما أرغم الإمام على قبول ولاية العهد قال للمأمون : إنني سوف لا أعين أحدا ولا اعزل
أحدا ولا انقض رسما ولا سنة . فلوشاء الإمام إن يشارك في إدارة الدولة لكان ذلك منه بمثابة اعتراف ضمن بشرعية الحكم . لكنه فضل التمسك بدور المستشار
حفاظا على مصلحة الإسلامية التي يجب رعايتها . وعندما قبل الإمام ولاية العهد مضطراً
أمر المأمون بإقامة احتفال مهيب يليق بمقام المناسبة جمع فيه زعماء وقواد الجيش والقضاة واجلس الإمام الرضا - عليه السلام -
علي عرش الخلافة وعليه الخضر والعمامة والسيف وثم أمر الخليفة المأمون الحاضرين بمبايعة الرضا - عليه السلام – رئيسا للعهد الجديد ثم اقترح
المأمون على الإمام أن يلقي خطبته فقام الرضا – عليه السلام – وشكر الحاضرين وطلب منهم فهم إن ينصتوا إليه وقال :
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد
لله الفعال لما يشاء لا معقب لحكمته ولا راد لقضائه يعلم ما تخفي الصدور وصلى الله على محمد واله الطيبين . أقول إن أمير المؤمنين وخليفة المسلمين المأمون عضده الله
بالسداد ووفقه للرشاد وقد عرف حقنا ما جهله الآخرون . فوصل أرحاما ما قطعت وامن أنفسا فزعت متبقيا رضى
رب العالمين وسيجزي الله المنصفين ولا يضيع اجر المحسنين.
وإن الخليفة المأمون قد أوكل إليَّ
ولاية العهد من حل عقدة أمر الله بشدها وسيطر على الفلتان وحرص على ألازمات اجتنابا من شتات الدين وما ادري ما يفعله الله بي و بكم . إن
الحكم لله وهو خير الحاكمين (15)
اعزايي الحضور إنني شخصيا اشك في صحة هذا الخطاب رغم انه ورد في أكثر من مصدر . بسبب التناقض الذي يكتنف بعض فقراته والتي لا
تنسجم والمواقف السلبيه للإمام تجاه الحكم العباسي .
فمن غير المعقول أن يقف الإمام الرضا في مجلس الخلافة يخاطب المأمون بعبارة أمير المومنين وخليفة
المسلمين لان في ذلك اعتراف صريح بالخلافة المغتصبة. ولذا فان ذكر هذا اللقب لابد أن أثار جدلا حادا بين أنصار الإمام . الذين قالوا انه كان
على الإمام أن يستعمل التقية بغية دفع الشر والتخلص من غدر المأمون فخاطبه بهذا اللقب والجدير بالذكر إن المستشرق الإنجليزي " نتنج" يورد هذا الرأي
في كتابه العرب (16) وآخرون يعتقدون إن الخطاب المذكور جاء مكتوبا من قبل كاتب المأمون وكان الإمام مجبرا على إلقائه في حفل التنصيب مثلما اجبر على قبول
ولاية العهد من قبل فأي الاحتمالين اقرب إلى الصواب . اترك الجواب لفطنه الحضور الكرام .
وعلى كل حال وعند الانتهاء من إلقاء الخطبة أمر الخليفة بضرب سكه
فطبع اسم الرضا – عليه السلام - مشفوعا بلقب السلطان على الدراهم والدينار.
ثم أمرالمأمون أبا نواس
شاعر القصر ان يقول شعرا
فارتجل على بديهة قائلا :
قيل لي أنت اشعر الناس طرا |
|
في فنون من الكلام النبيه |
لك من جوهر الكلام بديع |
|
يثمر الدر في يدي مجتبيه |
فعلام تركت مدح ابن موسى |
|
والخصال التي تجتمعن فيه |
قلت لا أستطيع مدح إمام |
|
كان جبرائيل خادما لأبيه |
أخواني عندما انتشر خبر قدوم الخليفة المأمون برفقة ولي عهده السلطان علي بن موسي الرضا – عليه السلام – من خراسان إلى العراق هاجت
بغداد العباسية وماجت وعمت الفوضى أرجاء البلاد احتجاجا على هذا التنصيب ولم يمر وقت طويل إلا وتفاجئ المسلمون بإعلان نبأ
وفاة الإمام الرضا – عليه السلام – وسط ظروف في غاية الغموض والسرية.
وهنا أشار هاجس الحدس بان المأمون هوالذي أمر بدس السم في طعام الامام ان الظرف التاريخي حينذاك قد يساعد
على قبول مثل هذا الرأي . ولكن المؤرخين أمثال ابن الأثير وابن طاووس وابن الجوزي يستبعدون ذلك وقد كتب المأمون إلى اهالى بغداد ويعلمهم بوفاة الإمام الرضا -
عليه السلام – ويسألهم الدخول الى طاعته .
ويروي الطبرسي
(17) أن
الإمام الرضا – عليه السلام – مات مسوما ودفن في قرية سنا باد بأرض طوس قرب قبر هارون الرشيد عام 203 للهجرة.
وعندما أذيع خبر الوفاة في العاصمة الإسلامية خرجن نساء وجواري المأمون حافيات حاسرات يلطمن الوجوه
يتقدمهن الخليفة المأمون وهويضرب على رأسه
والدموع تسيل على وجنتيه ثم وقف على نعش
الإمام ناحيا قائلا سيدي أي المصيبتين أعظم على فقدي إياك أوتهمة الناس إني قاتلك . هذه ما يرويه الطبري(18) وقد رثى الإمام الشاعر أبوفراس الحمداني
قوله :
وابعدوا بغضه من رشدهم وعمو |
|
باتوا بفضل الرضا من بعد بيعته |
ولا عين ولا قربى ولا رحم |
|
لابيعة ردعتهم عن دمائهم |
وقال الشاعر العلوي دعبل الخزاعي
في رثاء الإمام :
وعاشت بنوالعباس في عيثة |
تحكم فيه ظالم وطنين |
أتعجب للأخلاق ان يتخيفوا |
معالم دين الله وهومبين |
ختاما أقول إن سياسة الدولة العباسية التي دامت زهاء خمسه قرون اتسمت بروح الدكتاتورية البغيضة وافتقدت إلى ابسط مبادئ حقوق الإنسان
وقواعد العدل الاجتماعي فكان الظلم الصارخ يجرح روح إمامنا الرضا – عليه السلام – الذي واجه الإرهاب الأسود وقارع الكيان الفاسد في سبيل تقويم مسار الإسلام بعد ما حرفه أعداء
الإسلام . ولم يكفي كفاح العمر كله لتحقيق الهدف السامي إنما ضحى الإمام - عليه السلام – بحياته أيضا .
الحواشي:
1-
محمد جواد فضل الله– الإمام الرضا . تاريخ ودراسة . قم 1973.
2- المصدر
السابق .
3- ابن
أثير ج 4 ص 372
4- علل
الشراع ج1 ص 266.
5- الجاحظ
ص 235.
6- النجوم
الزاهرة ج2 ص 74.
7- بحار
الأنوار ج9 ص 100.
8- كصف
الغمم . الأبي . ج 3 ص 143.
9- ابن
عباد – عيون أخبار الرضا د 2 ص 168.
10- ابن
طيفون ص 121 . مقدمة ابن خلدون ص 123.
11- شوقي
ضعيف العباس الولي – القاهرة – 1982.
12- بحار
ج 4 ص 61 عن نديم الحديدلابن مسكويه –
13- كتاب
علل الشراع ج 1 ص 266.
14- امالي
للصدوق ص 22.
15- عيون
اخبار الرضا – عليه السلام – ج 2 ص151.
16- انتوني
نتينج العرب منذ الجاهلية الى العهد عبد الناصر القاهره 1982.
17- عيون
اخبار الرضا ص 245.
18- الطبرسي
د 8 ص 203
Back
to Subject-Page