بسم الله الرحمن الرحيم
لعلَّ الأحاطة بالحديث عن تاريخ ونشوء وتطور الحوزة العلمية تعّد من الأمور العسيرة لما لها من السعة والعمق... ولا شك في أنَّ بذور نشوء الحوزة العلمية ابتدء من زمان الغيبة الكبرى
للإمام الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف) ونعني بالنشوء أنَ المدرسة بلغت أوجها ونضجها الخاص وكمالها المرحلي في هذا الزمان بالخصوص إلى يومنا هذا، ولابأس بالأشارة العابرة
المجملة عن تاريخ مدارس الفقه الشيعي حسب توالي العصور.
تاريخ مدارس الفقه الشيعي:
-
مدرسة المدينة المنورة: واستمرت الى اوساط القرن الثاني وهي مرحلة حياة الامام الصادق (عليه السلام).
-
مدرسة الكـوفة: ظهرت من اوساط القرن الثاني (مرحلة حياة الامام الصادق (عليه السلام) واستمرت الى الربع الاول من القرن الرابع (الغيبة الكبرى).
-
مدرسة (قم والري): ظهرت من الربع الأول من القرن الرابع واستمرت إلى النصف الأول من القرن الخامس (أيام السيد المرتضى وشيخ الطائفة الطوسي) أعلى الله مقامهما.
-
مدرسة بغـداد: وظهرت من النصف الأول للقرن الخامس إلى احتلال بغداد من قبل المغول سنة 656هـ.
-
مدرسة الحلّـة: وظهرت من إحتلال بغداد، واستمرت الى حياة الشهيد الثاني عام 965هـ.
ولكل مدرسة من هذه المدارس طريقتتها الخاصة وأبعادها الفكرية المختصة بها ولكن المهم هو الاتحاد في الهدف، فالمدارس الشيعية وعلماء الشيعة أهدافهم واحدة وإن اختلفت الآراء والمشارب
والطرق الاستدلالية.
ولعلَّ النكتة التي وجدت في الحوزة العلمية مفقودة في غيرها من المدارس والأماكن التي يرتادها طلبة العلم من المسلمين.فقد يدرس الإنسان في الجامعات والمعاهد وغيرهما لكنه لا يجد
الطبيعة التي درجت عليها الحوزة العلمية، أي روح البحث والنقاش للوصول إلى الحقيقة التي هي الهدف الأسمى لكل إنسان.
والذي يهمنا في البحث هنا عن المدارس ليس هو الزمن الأول ولا الثاني (أي مدرسة المدينة المنورة ومدرسة الكوفة) لأنهما في مرأى ومسمع من المعصوم عليه السلام، ولكن الذي يهمنا في البحث
عن تاريخ الحوزة العلمية وتطورها هو ما كان بعد غياب المعصوم عن مرأى ومسمع عامة الناس خارجاً وإن كان موجوداً حقيقة، وهذا يتضح من خلال ما نذكره في العصر الثالث.
العصرالثالث:
مدرسة قم والري:
يبتدء هذا العصر من الغيبة الكبرى سنة 329هـ، والربع الأول من القرن الرابع إلى النصف الأول من القرن الخامس.
في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة والبحث إلى مدينتّي (قم والري)
─بعد الكوفة لهجرة الكثير من العلماء إليها نتيجة الظلم والتعسف الذي مارسه العباسيون عليهم─ كان لهما أكبر
الأثر في تطوير (الفقه الشيعي) فقد كانت (قم) منذ أيام الائمة عليهم السلام بلدة شيعية ومدينة من أمهات المدن الشيعية وموضع عناية خاصة من أهل البيت عليهم السلام. وقد كانت (الري) في
هذا التاريخ بلدة عامرة بالمدراس والمكاتب وحافلة بالعلماء والفقهاء والمحدثين.
وقد كان أحد أسباب إنتقال مدرسة أهل البيت عليهم السلام من العراق إلى ايران هو الضغط الشديد الذي كان يلاقيه فقهاء الشيعة وعلماؤهم من العباسيين، فقد كانوا يطاردون من يظهر التشيع
بمختلف ألوان الأذى والتهمة فالتجأ فقهاء الشيعة وعلماؤهم إلى (قم) و(الري) ووجدوا في هاتين البلدتين ركناًَ آمناً يطمئنون إليه في نشر فقه أهل البيت عليهم السلام وحديثهم.
"قـم" مركز البحث الفقهي:
ويظهر أن قم آوان عصر الغيبة وعهد نيابة النواب الأربعة كانت حافلة بعلماء (الشيعة) وفقهائها ومركزاً فقهياً كبيراً من مراكز البحث الفقهي. وقد بلغ النشاط الفكري في التأليف والبحث
الفقهي وتدوين الأحاديث وجمعها وتنسيقها غايته في هذه الفترة، فقد خلفت لنا هذه الفترة ثروة فكرية صحيحة وضخمة من أهم ما أنتجته مدارس الفقه والحديث الشيعي في تاريخها.
ولكي يلمس القاريء حدود هذه المدرسة وضخامتها نشير إلى أسماء بعض الفقهاء والمحدثين اللامعين من هذه المدرسة، من الذين عاشوا خلال هذه الفترة.
علي بن إبراهيم: وعلي بن ابراهيم القمي شيخ الكليني في الحديث كان ثقةً في الحديث ثبتاً معتمداً صحيح المذهب، سمع
فأكثر وصنف كتباً، له قرب الأسناد وكتاب الشرائع وغيره.
الكليني: وهو محمد بن يعقوب، كان معاصراً لعلي بن الحسين بن بابويه والد الشيخ الصدوق، وتوفيا في سنة واحدة وهي
المعروفة عند الفقهاء بـ(سنة موت الفقهاء) وهي سنة 329هـ، وأكبر أثر تركه الكليني من بعده هو موسوعته الحديثية الكبرى (الكافي) في الأصول والفروع، وكان تأليف الكافي أول محاولة
لجمع الحديث وتبويبه وتنظيم أبواب الفقه والأصول.
ملامح هذه المدرسة:
وأولى هذه الملامح وأهمها التوسعة في تدوين الحديث وجمعه.
ومن أهم ذلك الموسوعتين الحديثيتين اللتين خلفتها هذه المدرسة وهما (الكافي) و(من لا يحضره الفقيه)
ومع ذلك فقد كان البحث الفقهي في هذه الفترة يقضي مراحل نموه الأولية ولم يقدَر له بعد أن يبلغ حد المراهقة، فكانت الرسائل الفقهية في هذه المدرسة لا تتجاوز عرض الأحاديث من غير تعرض
للمناقشة والاحتجاج وتقرر لآراء بحثها وتفريع فروع جديدة عليها.
منهجـيّة التدريس في الحـوزة
طريقة التدريس في الحوزة لا تُعرف على حقيقتها إلا إذا عُرفت ما هي رسالة الحوزة.
إن الحوزة تحمل في عنقها أمانة سماوية. وإن الله عزَّ وجّل قد أقامها حارساً ومناصراً ومدافعاً عن هذه الأمانة وهي الدين وشريعة سيد المرسلين، فمن دخل الحوزة العلمية يجب أن يدخلها
بهذا القصد وبهذه النية ومن تخرج منها يجب أن يعمل ويتجه إلى هذا القصد، وليُعلم ليس هذا الكلام مختصاً بمدرسة دون أخرى بل هو عامٌ شاملٌ الحوزة العلمية بكل مؤسساتها وإلاّ كان تاجراً
لا عالماً ومنافقاً لا مؤمناً، ومن هنا كان التدريس في النجف الأشرف بالمجان فلا الأستاذ يقبض أجراً ولا التلميذُ يتكلف شيئاً تنزيها للدين عن الكسب والاتجار وعن أية وسيلة تجر منفعة
دنيوية.
ولعل سؤالاً يقفز إلى ذهن القارئ وهو:
كيف يؤمَن المدرس في النجف مورد معيشته إذا كان الأمر كذلك؟
وهو سؤال مشروع وفي محله.
والجواب عنه: إن مورد المدرس في الحوزة العلمية بصورة عامة يعتمد على ما تصله من مراجع وعلماء الدين هناك
─والتي تتجمع لديهم من الحقوق الشرعية─ لا بعنوان الأجر على التدريس وإنما
بعنوان آخر وهو باعتباره مستحقاً يتكفله بيت مال المسلمين وكذا الحال في الطالب.
ولعل من عاش قريباً من جو الحوزة العلمية يدرك أن العديد من طلبة وأساتذة المدارس الدينية في النجف الأشرف وقم المقدسة في الماضي والحاضر كانوا وما زالوا مثالاً للزهد والقناعة
والمنعة بصورة من الصعب بمكان أن تجد لهم مثيلاً في كافة أنحاء المعمورة، فنجد كثيرا من المقربين لهؤلاء
─سواءً كانوا من ذويهم أو ممن يشاركهم الدرس والتدريس─ لا يعرفون شيئاً عن
فقرهم وحاجتهم، حتى لكأنهم هم المعنيون بقوله تعالى: {يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ}(البقرة/273).
طريقة التدريس:
إن الكيفية المتبعة في التدريس في الحوزة العلمية بصورة عامة آنذاك هي واحدة في جميع مراكز الشيعة
─وإن اختلفت بعض الشيء في زماننا الحالي─ وليس هي على شاكلة الطرق المتبعة في الأنظمة
التربوية التي نألفها هذه الأيام.
فهي دراسة لا تعتمد على أساس نظام الصفوف وهي فردية تتم على شكل حلقات تمارس اليوم كما بدأت منذ عهد الشيخ الطوسي، وليس هناك نظام للامتحانات أو لمنح الشهادات كما هو متعارف عليه
اليوم في الكثير من المدارس الحديثة، وإنما يترك للطالب اختيار الكتاب الذي يريد دراسته، والأستاذ الذي يتلقى من علومه، وحتى مكان الدرس وزمانه فإنه يتم الاتفاق عليه بين التلميذ
والأستاذ.
ولقد شهدت الحوزة العلمية خلال العقود الأربعة الماضية دعواتٍ لتطوير هذه الطرائق في التدريس فيما وجدنا في المقابل إصراراً على ضرورة إبقاء الأسلوب في الدراسة كما هو. وبين هذا
الاتجاه وذاك وقف فريق يدعو للجمع بين الأسلوبين.
الاختلاف في الإبقاء على أسلوب الدراسة كما هو:
فالقائلون بضرورة الإبقاء على أسلوب وكتب ومناهج الدراسة في الحوزة:
كانوا يرون في طابع الحرية الذي يسود في أنظمتها سواء في اختيار الطالب لأستاذه، أم الكتاب الذي يدرسه مما ينمي ملكته ويقوي من شخصيته العلمية، وكانوا يعزون إلى هذا النظام ما عرف به
طالبها من حرية فكرية في ميادين المناقشة والجدال، مع قدرة على التحرر من جميع مسابقاتهم الفكرية إذا اتضح من خلال المناقشة مجافاتها للحق الذي يهدفون إليه.
وكانت أقوى حججهم على سلامة هذا الأسلوب الدراسي هو أن عطاء هذا النوع من الدراسة في الحوزة العلمية لا يعدله عطاء في أي مركز آخر أو مؤسسة أخرى بل في أي جامعة، ويكفي ما يكون من عطاء
أن تخرّج عنها مئات المجتهدين من أمثال الشيخ الأنصاري والإمام الشيرازي الكبير وغيرهم ممن وصلوا بعمق تجاربهم وصلابة إيمانهم الى أرفع المراكز القيادية في الأمة الإسلامية.
أما الآخرون:
فكانوا يرون في هذا النوع من الدراسة شيئاً من انعدام المسؤلية وكثرة الادعاء وتطويل المسافات على الطلاب، وربما قصّر في الكثير منهم شوطه على الاستمرار في مواصلة الدراسة للتعقيد
السائد في بعض كتبها، بالإضافة إلى ما يرون من ضرورة تطعيم معارفها بما جدَّ من ثقافات ومعارف قد يكون لبعضها أكبر العلائق برسالة العالم الديني في هذا العصر.
المراحـل الدراسيّة في الحوزة العلميّة
تتم الدراسة في الحوزة العلمية في ثلاث مراحل هي:
دراسة المقدمات وتقوم مقام الدور الإبتدائي في الأنظمة التربوية.
دراسة السطوح وتقوم مقام الدور المتوسط.
دراسة الخارج وتقوم مقام الدراسات العالية.
وسنوضحها بشكل مختصر.
المرحلة الأولى: دراسة المقدمات:
يقتصر الطالبُ في الدور الأول على دراسة النحو والصرف والعلوم البلاغية والعروض والمنطق والفقه وأصول الفقه وبعض النصوص الأدبية.
ومن الكتب الدراسية المتعارف عليها في هذه المرحلة هي:
* في النحو والصرف:
الأجرومية: لمؤلفها عبد الله بن يوسف بن أحمد بن هشام المتوفى عام 761هـ/1359م.
قطر الندى وبل الصدى: لابن هشام الأنصاري.
ألفية ابن مالك مع شرحها: ولها أكثر من شرح منها شرح ابن مالك، وقد شرح أرجوزة أدبيه وتسمى في الأوساط العلمية شرح ابن الناظم (أي الناظم للأرجوزة) ولعله أفضلها. ومنها شرح ابن
عقيل الهُذلي.
مغني اللبيب: لابن هشام (صاحب القطر)، يدرس بعض الطلبة هذا الكتاب للتوسع في المصطلحات النحوية والتعمق في النحو، وقد عنت بعض الجهات المختصة في الحوزة فهذّبت هذا الكتاب لعدة
أسباب -تجدها في مقدمة مغني اللبيب وسمته مغني الأديب- وهو كتاب نافع ومهم جدّاً.
* في البلاغة والمعاني والبيان:
المطّول: فالبعض من الطلبة يدرس المطول لمسعود بن عمر بن عبد الله التنفتازاني المتوفى عام 791هـ/1388م.
جواهر البلاغة: والبعض يدرس جواهر البلاغة لأحمد بن إبراهيم الهاشمي، وهو من أدباء مصر توفي فيها عام 1362هـ/1943م.
البلاغة الواضحة: ويدرسها البعض، وهي من الكتب الواضحة بمعنى الكلمة وقد اختُصرت في الفترة الأخيرة وهذبت.
* في المنطق:
الحاشية: لملاّ عبد الله.
تحرير القواعد المنطقية في شرح الرسالة الشمسية: لقطب الدين الرازي المتوفي عام 766هـ/1365م.
كتاب المنطق: وقد استعاض الطلاب في الفترة الأخيرة عن هذين الكتابين بكتاب المنطق للشيخ المظفر، وهو أحد علماء النجف توفي عام 1283هـ/1961م.
* في الفقه:
المختصر النافع في فقه الإمامية: للمحقق الحليّّ المتوفى عام 676هـ/1177م.
شرايع الإسلام في مسائل الحلال والحرام: للمحقق الحليّّ أيضاًً.
الرسالة العمليّة: وقد تدرس في الفقه في هذه المرحلة مجموعة فتاوي المجتهد الأعلى وقت الدراسة والتي يعبر عنها (بالرسالة العملية).
* في أصول الفقه:
معالم الأصول: لنجل الشهيد الثاني المتوفى عام 1011هـ/1602م.
أو دروس في علم الأصول: للسيد الشهيد محمد باقر الصدر (رحمه الله).
أو أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر: صاحب كتاب المنطق المتقدم ذكره.
وقد يجمع بعض الطلبة بين أكثر من كتاب في آنٍ واحدٍ.
المرحلة الثانية: دراسة السطوح:
في الدور الثاني يتفرغ الطالب لدراسة الكتب الاستدلالية الأصولية والفقهية والفلسفية.
وأسلوب الدراسة المتعارف عليه في هذا الدور هو أن يحصل الاتفاق على الكتاب المتخص بهذا الفن أو ذاك. فيقرأ الأستاذ مقطعاً من الكتاب ثم يشرح الموضوع بما يزيل عنه الغموض والإبهام، ثم
يستعرض بعض النقوض التي ترد عليه ويستمع بعد ذلك لما يثيره الطلبة من تعليقات، فيصحح آرائهم إذا كانت بحاجة إلى التصحيح، أو يتنازل عندها إذا كانت آراؤهم جديرة بذلك.
وتتسم هذه المرحلة الدراسية بالطابع الاستدلالي.
ومن الكتب التي تدرس في هذه المرحلة:
* في الفقه:
الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: الأصل للشيخ محمد بن جمال الدين مكي العاملي. المشهور بالشهيد الأول, استشهد عام 786هـ/1384م. والشرح للشهيد الثاني زين الدين الجبعي
العاملي المشهور بالشهيد الثاني المستشهد عام 965هـ.
المكاسب: للشيخ مرتضى بن محمد أمين التستري الأنصاري المتوفى عام 1281هـ/1882م. وهو ثلاثة أقسام "المكاسب المحرمة، والبيع، والخيارات".
* في الأصول:
كفاية الأصول: للشيخ محمد كاظم الخراساني المعروف بالأخوند المتوفى عام 1329هـ/1908م.
الرسائل (فرائد الأصول): للشيخ الأنصاري صاحب المكاسب.
حلقات الأصول: وقد اعتيد أخيراً دراسة الحلقات للسيد الشهيد محمد باقر الصدر.
* في الفلسفة:
تجريد الاعتقاد: لنصير الدين الطوسي المتوفى عام 672هـ/1273م.
فلسفتنا: للسيد الشهيد محمد باقر الصدر.
بداية الحكمة ونهاية الحكمة: وقد اعتاد الطلاب في العقدين الأخيرين على دراسة بداية الحكمة ونهاية الحكمة للسيد محمد حسين الطباطبائي (صاحب التفسير القيم الميزان).
المرحلة الثالثة:
مرحلة البحث الخارج:
سميت المرحلة الثالثة بمرحلة البحث الخارج لأن الدراسة فيها تتم خارج نطاق الكتب التي يعتمدها الأستاذ في تحضير مادته في مرحلة البحث الخارج. ينتقل الطالب في الجامعة النجفية إلى
الدور الأخير من حياته الدراسية، بعد أن وقف على هذه الآفاق الرحبة من الفكر الإسلامي.
مسئولية الطالب في هذه المرحلة:
في هذا الدور الدراسي، تقع مسؤلية التحضير والإعداد على الطالب نفسه، من غير أن يتقيد بمصدر علمي خاص فيقوم الطالب─بنفسه قبل أن يحضر المحاضرة─ بإعداد مادة المحاضرة من فقه وأصول أو
تفسير، ثم مراجعة أقوال العلماء في هذه المادة أو تلك وما يمكن أن يصلح دليلاً لها، وبما يمكن أن يناقش به هذا الدليل، ثم يحاول الطالب أن يستخلص لنفسه رأياً خاصّاً في هذه المسألة.
فإذا فرغ من هذا الإعداد حضر البحث الخارج، والبحث الخارج حلقات دراسية يقوم برعايتها كبار علماء الحوزة العلمية وقد يكون هناك أكثر من حلقة في نفس الوقت، فيختار الأستاذ بحثاً فقهياً
أو أصولياًَ أو بحثاً في تفسير القرآن أو في الحديث النبوي يلقيه على شكل محاضرات وقد تكون للأستاذ (المجتهد) محاضرتان في اليوم، فتخصص المحاضرة الصباحية للفقه مثلاً وتكون مادة أصول
الفقه موضوعاً للمحاضرة المسائية أو العكس وهناك من الأساتذة المجتهدين من يقتصر على هذه المادة او تلك.
شـهادة
الاجـتهاد
عندما يبلغ الطالب مرحلة الاجتهاد، ويطمئن الأستاذ إليه في البحث والاستنباط وصياغة الدليل والجمع بين الأحاديث ووجوه الرأي ومناقشة الأقوال يشهد له بالاجتهاد، فينتقل الطالب بعد قطع
هذه المرحلة الطويلة التي تستغرق مما يقارب الربع قرن، يستقل بالاجتهاد وإبداء الرأي والتوجيه، وخلال هذه الأدوار يتعاطى الطالب أطرافاً من الثقافات الأخرى التي لا تتصل برسالته في
الصميم، كما لا تكون غريبة كذلك عن حقول اختصاصه كالحساب والفلك والنجوم إن شاء ذلك وإن اعترض أخيراً عن دراستها بظروف ليس محل ذكرها الآن.
أهمية استمرار الطالب في المذاكرة:
إنَ الحوزة العلمية تبلغ بالطالب المجد إلى الاجتهاد ومعرفة الشريعة أصولاًَ وفروعاً من مصادرها. وهذه المعرفة تهيئه وتمده بالطاقة الكافية لتفهم الحياة والآراء والفلسفات قديمها
وجديدها، والحكم لها أو عليها، على شرط أن يستمر في قرآءة الكتب المتنوعة ويتذاكر(إن أمكن ذلك) بعد أن يترك المكان الذي درس فيه وأما إذا ترك الدرس والمذاكرة فيصير بالأمي أشبه وتذهب
جهوده أيام دراسته سدى، ولا يمر أمد حتى يصبح ذهنه جامداً متحجراً
(وليس هذا من مختصات الحوزة العلمية فحسب بل هو شأن كل علم) بعد نموه وانطلاقه وهكذا شأن جميع المتعلمين وحملة
الشهادات حتى المتخصصين منهم سواءً تخرجوا من الحوزة العلمية أو من غيرها.
بنـاء الشّخصيّة فكريّاً وقياديّاً
وإذ إنتهينا من عرض لمنهجية الدراسة في الحوزة العلمية يجدر بنا أن نشير باختصار شديد إلى ما لهذه المنهجية من أثر في بناء شخصية الطالب فكرياً وقيادياً.
إن مناهج وطرق التدريس في الحوزات العلمية والتي تشكل سمعة ملازمة للدارسة فيها يمكن أن تشكل في ظروف التحولات الفكرية والسياسية والعامة منهجاً مهّماً لمعالجة القضايا المعاصرة،
وتبرز قادة دين سياسيين في آنٍ معاً يشكّلون ظاهرة تاريخية لتجديد الفكر والممارسة الإسلامية.
الشخصيات البارزة من العلماء الأعلام في الحوزة العلمية:
فقد برزت في الحوزة
العلمية شخصيات فذّة من العلماء والأعلام والمراجع الكرام نذكر في هذا البحث بعضاًَ منهم لا على سبيل العدّ والحصر، بل تيمناً بذكر أسمائهم وتعظيماً لحقهم وإكراماً لمواقفهم الفذة
تجاه الأمة الإسلامية، فمن هؤلاء الأعلام الذين برزوا من عصر الغيبة الكبرى إلى يومنا هذا بعد الذين تعرضنا لذكرهم، وكان آخر من ذكرنا الشيخ الطوسي قدس سرّه، وأما الذين جاؤا بعده:
المحقق الحليّّ: أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن (602- 676) هـ.ق. ومن أشهر مؤلفاته: "شرايع الإسلام والمختصر النافع". ولهما شروح عديدة وقيمّة أمثال: "جواهر الكلام في شرح
شرايع الإسلام" (43) مجلداً للمحقق الشيخ محمد حسن النجفي، و"رياض المسائل" للسيد علي الطباطبائي وهو شرح للمختصر النافع (20) مجلداًَ.
المحقق الطوسي: نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي المتوفى سنة 672هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "تجريد الاعتقاد".
العلامّة الحليّّ: الحسن بن يوسف بن علي المطهّر المتوفى سنة 726هـ.ق. من أشهر مؤلفاته: "تذكرة الفقهاء" (20) مجلداً، "قواعد الأحكام" وغيرهما الكثير.
فخر المحققين: وهو ابن العلاّمة الحلّي المتوفى سنة 771هـ. من أشهر مصنفاته: "إيضاح الفوائد في شرح إشكالات الفوائد" (4) مجلدات.
الشهيد الأول: أبي عبد الله محمد بن مكي العاملي المستشهد سنة 786هـ. من أشهر مؤلفاته: "اللمعة الدمشقية"، و"القواعد والفوائد".
ابن فهد الحليّّ: جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن فهد الحليّّّ المتوفى سنة 841 هـ. من أشهر مؤلفاته: "المهذَب البارع في شرح المختصر النافع" (5) مجلدات.
المحقق الثاني: الشيخ علي بن الحسين الكركي المتوفى سنة 941 هـ. من أشهر مصنفاته: "جامع المقاصد في شرح القواعد" (13 جزءاً).
الشهيد الثاني: زين الدين بن علي الجبعي العاملي المستشهد سنة 966 هـ. من أشهر مصنفاته: "الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية"، و"مسالك الإفهام في شرح شرايع الإسلام" (15 مجلداً).
المقدّس الأردبيلي: المولى أحمد بن محمّد الشهير بالمقدّس الأردبيلي، المتوفى سنة 993هـ.ق. من أشهر مؤلفاته: "مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان" (14) مجلداً.
الفيض الكاشاني: محمد محسن المتوفى سنة 1091هـ. من أشهر مؤلفاته: "الوافي والصافي ومفاتيح الشرايع" وغير ذلك.
الحر العاملي: محمد بن الحسن المتوفى سنة 1104 هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "وسائل الشيعة" البالغ (30) مجلداً.
العلامّة المجلسي: المولى محمد باقر بن المولى محمد تقي المجلسي المتوفى سنة 1111هـ. من أشهر مصنفاته: "الموسوعة الكبيرة الموسومة بـ(بحار الأنوار الجامعة لدرر الأخبار)"
البالغة أكثر من (100) مجلداً .
البحراني: الشيخ يوسف البحراني، المتوفى سنة 1186هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "الحدائق الناضرة في احكام العترة الطاهرة" البالغة (25) مجلداً.
مير سيد علي: المحقق السيد علي الطباطبائي، المتوفى سنة 1213هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "رياض المسائل".
السيد محمد جواد الحسيني العاملي: المتوفى سنة 1226هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة في بيان الأحكام بالدلائل" البالغ (20) مجلداً.
النَّراقـي: المولى أحمد بن المولى محمد مهدي النراقي المتوفى سنة 1244 هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "مستند الشيعة في أحكام الشريعة" في (19) مجلداً.
كاشف الغطاء: جعفر بن خضر بن يحيى المتوفى سنة 1228هـ.ق. من أشهر مصنفاته: كتابه "كشف الغطاء".
محمد حسن النجفي: المتوفى سنة 1266 هـ.ق. من أشهر مصنفاته: كتابه "جواهر الكلام في شرح شرايع الإسلام" البالغ (43) مجلداً.
الشيخ الأعظم: مرتضى بن محمد أمين المتوفى سنة 1281هـ.ق. من أشهر مصنفاته: كتاب "المكاسب وفرائد الأصول".
النوري الطبرسي: الميرزا حسين النوري الطبرسي المتوفى سنة1320 هـ.ق. من أشهر مصنفاته: كتاب "مستدرك وسائل الشيعة".
الآخوند الخراساني: الشيخ محمد كاظم الخراساني، المتوفى سنة 1329هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "كفاية الأصول".
آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي (قدس سره): المتوفي سنة 1337هـ. من أشهر مؤلفاته: "العروة الوثقى وحاشية المكاسب وكتاب التعادل والترجيح ورسالة في اجتماع الأمر والنهي
ورسالة في الظن المتعلق بأعداد الصلاة وكيفية الاحتياط ورسالة في منجزات المريض وأجوبة المسائل".
آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني: ابن السيد محمد ابن السيد عبد الحميد
الموسوي البهبهاني الأصل الأصفهاني المسكن، النجفي الهجرة والمدفن، توفي سنة 1365هـ.
الإمام الحكيم: آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سرّه) توفي سنة 1390هـ.ق. من أشهر مصنفاته: "مستمسك العروة الوثقى- فقه إستدلالي-" (14) مجلداً، و"حقائق الأصول"
وغيرها.
آية الله العظمى الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني (قدس سره الشريف): المتوفى سنة 1409 هـ.ق. قائد الثورة الإسلامية في إيران. من أشهر مؤلفاته: "الأربعون حديثاً وتقريرات في
الفقه الأستدلالي وتقريرات في الأصول والحكومة الاسلامية والآداب المعنوية للصلاة" وغيرها.
آية الله العظمى السيد الخوئي: المتوفى سنة 1413هـ.ق. من أشهر مؤلفاته: "بحوث في شرح العروة الوثقى ومعجم رجال الحديث والبيان في تفسير القرآن".
آية الله العظمى السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره الشريف): المستشهد سنة 1399هـ. من أشهر مؤلفاته: "في الفقه الاستدلالي بحوث في شرح العروة الوثقى" (لم يكمل) و"دروس في
علم الأصول" التي مرّ ذكرها وكتاب "فلسفتنا وإقتصادنا والأسس المنطقية للاستقراء" وغيرها.
وهناك فقهاء ومراجع كرام يطول المقام بذكرهم رحم الله الماضين منهم وحفظ الباقين.
تاريخ حوزة النجف الأشرف
http://holynajaf.org/arb/html/hawzailem/mtn.php?file=1/index-0.html
في عام (448 هـ ) نزح إلى مدينة النجف الأشرف من بغداد كبيرُ علماء الشيعة في ذلك العهد، الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (قدس سره )، إثر فتنة طائفية أثارها السلجوقيون في مفتتح
حكمهم في العراق، وكان من آثارها الهجوم على دار الشيخ الطوسي، ونهب كتبه وإحراق كرسيّه الذي كان يجلس عليه للتدريس، وإحراق مكتبات أخرى .
فكان ارتحال الشيخ الطوسي إلى النجف، بداية عهد جديد في حياة هذه المدينة التي أخذت منذ ذلك العهد تتحول من مدينة ومزار إلى جامعة كبرى .
ويبدو أنّه كان للنجف قبل الشيخ الطوسي شأن علمي، وكان يقصدها الناس للدراسة على علمائها المجاورين فيها، فمنذ أوائل القرن الثالث للهجرة نرى أسماء علمية بارزة تُنسب إلى النجف، مثل :
شرف الدين بن علي النجفي، وأحمد بن عبد الله الغَروي، وابن شهريار ...، كما أن هناك إجازات علمية تحمل اسم النجف .
ثمّ نرى أن المؤرخين يذكرون أن عضد الدولة البُوَيهي حين زيارته للنجف سنة 371 هـ، وزّع أموالاً على الفقهاء والفقراء، ومعنى هذا أنّه كان فيها جمهور من الفقهاء خَفِيَت عنّا أخبارهم،
وضاعت فيما ضاع من أخبار النجف الكثيرة، ومعنى هذا أيضاً، أنّه كان قبلهم فيها فقهاء، وظل بعدهم فيها فقهاء .
ولكي يشير المؤرخون إلى وجود الفقهاء فيها حين زيارة عضد الدولة، لابد من أن يكون هؤلاء الفقهاء حصيلة دراسات متصلة من عهدٍ لا نستطيع تحديده تحديداً دقيقاً، لقلة ما بأيدينا من
المصادر .
على أنه من البديهي، أن تكون النجف بعد ابتداء شأنها كمدينة، قد ابتدأت في نفس الوقت تَرِث الكوفة علمياً ودراسياً، فكونُها ضاحيةً من ضواحي الكوفة، وكونها أضحت مهوى قلوب المؤمنين،
وموضع هجرتهم، وكونُ الكوفة صاحبة ذاك الشأن العلمي الرفيع، كل ذلك أهّل النجفَ لوراثة تدريجية انتهت أخيراً إلى ذَوَبان الكوفة في النجف ذوباناً تاماً .
لذلك كان من الطبيعي أن يكون للنجف شأن علمي دراسي، قبل رحيل الشيخ الطوسي إليها، ولكن الشأن تبلور بوصول الشيخ، وتطور إلى تنظيم، جعل منها مقصد الطالبين من كل مكان .
ولا يفوتنا أن الشيخ لم يهاجر إليها وحده، فمن المعلوم أنّه كان له في بغداد حلقة تتلقى العلم عليه، تتلوها حلقات تتلقى العلم على تلاميذه .
ومن المؤكد أن جُلّ هؤلاء (إن لم يكونوا كلّهم) قد انتقلوا بانتقال الشيخ، ونظّموا أمر الدرس تنظيماً دقيقاً، دخلت فيه النجف في طور جديد، من أهمّ أطوارها .
بعد الشيخ الطوسي:
ويستمر ذلك حتّى القرن السابع الهجري، وإذا بمدينة الحلة تغدو هي البديل من النجف، وإذا بها مقرّ كبار علماء الشيعة ومقرّ تدريسهم، على أن النجف ظلت محتفظة بطابعها العلمي، وظل فيها
من العلماء والفقهاء، من يملأون فيها فراغاً لابد من إملائه .
ويبدو من الغرابة بمكان، أن يتحول التدريس من النجف إلى الحلة، وأن يستبدل العلماء المقام في الحلة بالمقام في النجف، ويتراءى أن التعليل الصحيح لذلك، هو جفاف الحياة في النجف وقسوة
العيش فيها، لا ماء ولا شجر، بل حَرور متصل معظم الشهور، لا يلطفه ظل ولا يخففه نسيم .
ويبدو أنّه من هنا انطلقت فكرة نقل التدريس إلى مدينة الحلّة التي يشقّها نهر الفرات، وتحيط بها الحدائق والبساتين .
وما دامت النجف قريبة، فإن القلوب الظامئة لزيارة قبر الإمام علي (عليه السلام) تستطيع وهي في الحلة، أن تتجه إليه، وتستطيع أن تنتقل بأجسادها بين شهر وشهر للاستمتاع بجواره .
ولكن الأمر ما لبث أن عاد إلى أصله، وعادت النجف دار العلم والتدريس، على أن الحال لم تستقر بها استقراراً تاماً، بل ظلت بين مدّ وجَزْر .. إلى أن جاء عهد وَرِثَت فيه مدينةُ كربلاء
كلا المدينتين : النجف والحلة .
ويبدو أن السرّ في ذلك، هو أن كربلاء تجمع إليها ما في المدينتين؛ ففيها ضريح سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وفيها الظلال والماء .
وظلت كربلاء معهد الشيعة الأكبر، حتّى مطلع القرن الثالث عشر الهجري .
وبانتقال السيّد مهدي الطباطبائي، المعروف ببحر العلوم من كربلاء إلى النجف، استقرّ الأمر في النجف استقراراً كاملاً، كان من أكبر دعائمه شخصية السيّد مهدي نفسه، بما تحلّت به من
سجايا وفضائل، جَعَلت منه عالِماً فذّاً بين العلماء القادة .
ثمّ أعقبه تلميذه الشيخ جعفر كاشف الغطاء، فزاد الأمرُ إحكاماً، وعادت النجف مدرسة الشيعة الكبرى، ومعهدهم الأول، ودار هجرتهم العلمية حتّى اليوم .
يقول الشبيبي : ما زالت النجف من أكبر عواصم العلم للشيعة، وهي أكبرها منذ نحو قرنَين، وما انفكّت من أول ما خُطِّطت، مأوى كثير من فقهاء الشيعة، ومتصوفيهم وزهّادهم، وما عبر عليها
عصر خَلَت فيه من عالم أو أديب، غير أن لها عصوراً معروفة، حَجَّ إليها الناس فيها من أجل التعلم والتفقه، ورأَسَ على رأسِ كل عصر منها، إمامٌ واحد أو أكثر من مشاهير أئمّة الشيعة
ومخرّجيهم، أقدمها عصر أبي جعفر الطوسي، على أثر هجرته إلى النجف، وإقرائه فيها الناسَ وشدهم الرحال إليه في منتصف القرن الخامس .. ثمّ عصر أبي علي الطوسي ابن أبي جعفر، وقد خلف أباه
ثمّةَ في الإقراء، وعاصره جماعة من أصحاب أبيه .. ثمّ عصر عماد الدين الطبري النجفي، تلميذ أبي علي الطوسي في منتصف القرن السادس .
وفي هذا العصر زاحمت الحلةُ السيفيةُ النجفَ من الجهة العلمية، وصارت إليها رحلة الشيعة نحو ثلاثة قرون، ففتر الناس عن الرحلة إلى النجف من تلك الجهة مدة طويلة، أي من منتصف القرن
السادس، حيث عصر ابن إدريس وسديد الدين الحِمْصي في الحِلّة، إلى منتصف القرن التاسع، حيث عصر ابن فهد الحلي فيها، وهو آخر عصورها المشرقة، فكان الشأن الأكبر للحلة في خلال ذلك .
على أن النجف ظهر فيها طوال هذه الفترة طائفة من العلماء المشاهير، سواء كانوا ممن أخرجتهم المدينة، أو ممن جاوروا فيها .
ثمّ لمّا هَرمَت الحلة، وانقضى عهدها العلمي، عادت النجف فاستقلّت مرة أخرى، بالعلم والرحلة إليه، واتصلت أو كادت حلقاتُ عصورها العلمية، من أول القرن العاشر إلى الآن، فكان أولها عصر
الشيخ علي بن عبد العال الكَرَكي المحقق المشهور، ومعاصره الشيخ إبراهيم القَطيفي .. ثمّ عصر الشيخ الأردبيلي الزاهد وصاحبه الملاّ عبد الله اليزدي .. ثمّ عصر الشيخ عبد النبي
الجزائري .. ثمّ عصر الشيخ حسام الدين النجفي، فعصر الشيخ فخر الدين الطريحي .. ثمّ عصر أبي الحسن الشريف ومعاصريه، فعصر الفُتوني، فعصر الطباطبائي، فعصر الشيخ جعفر الكبير، فعصر ابن
الشيخ، فعصر صاحب الجواهر، فعصر الشيخ مرتضى الأنصاري، فعصر تلامذة الأنصاري وغيرهم .. فهذه حلقات هذه السلسلة من العصور الآخِذِ بعضُها بأطرافِ بعض.
الحوزة العلمية... بين بر التاريخ والجغرافيا وبحار السياسة!
http://www.aljamri.org/Archive/wasat_hawza.htm
بني جمرة- قاسم حسين
زرنا إحدى الحوزات القائمة في البحرين، وهي حوزة الإمام زين العابدين (ع) في بني جمرة، لنقف على ما وراء الأبواب، تعرفاً وبحثاُ وحباً في الاستطلاع. ذهبنا مستكشفين لهذا العالم الهادئ
هرباً من السياسة وأخبارها التي لا تسر، فإذا بلعنتها تلاحقنا في ذلك الجامع المنعزل، حيث يعيش سكينة الروح وطمأنينة الإيمان الوقور. هناك تحدثنا إلى مدير الحوزة الشيخ على فاضل
الصددي، بحضور الإداري السيد طالب محمد حسن. في البداية سألنا عن هذا الاسم الشائع من أين جاء، فأجاب الشيخ الصددي:
- ربما أخذ الاسم من فعل: حاز، أي جمع، لأنها تضم الكثير من العلوم.
- ومتى برز هذا الكيان لأول مرة في التاريخ؟
- برزت الحوزة في النجف الأشرف، مدفن الإمام علي (ع) في الكوفة قبل أكثر من ألف عام، ولكن قبلها وجدت حوزة بغداد...
- في بغداد عاصمة العباسيين وجدت حوزة؟
- نعم، أيام الشيخ المفيد، ومن تلامذتها الشيخ الطوسي والشريفان الرضي والمرتضى، في حدود القرن الرابع الهجري. كما كان في بغداد أيضاً الشيخ الطوسي ولكنه ارتحل إلى النجف سنة 449 هـ،
وبوجوده فيها قويت وانتعشت حوزة النجف، مع أن من الأخطاء الشائعة انه هو الذي أسسها.
- وما هو ارتباط هذه المواقع بالمدينة المنورة مثلاً؟
- كان الإمام الصادق (ع) يبث علومه في مسجد جده رسول الله (ص) بالمدينة، ومن هناك انتشر تلامذته في الأقطار.
- والمدن الأخرى؟
- حوزة الحلّة وكربلاء وسامراء جاءت في فترات لاحقة، فرغم وجود حوزة النجف كان بعض المراجع الدينيين يؤثرون الرحيل إلى مناطق أخرى ككربلاء أو سامراء، فترحل معهم الحوزة، ولكن سرعان ما
تتراجع لصالح الحوزة الأم في النجف، لتبقى مجرد مدارس.
- يعني عندما ينتقل المرجع تنتقل معه ثلاثون أو أربعون أسرة؟!
- نعم، بل بمجرد انتقاله إلى مدينة أخرى تنتقل معه مئات الأسر، إذ يصحبه بعض أو كل تلامذته، فالحوزة ليست كالمدرسة المنتظمة، وانما لكل مرجع تلاميذ، وهؤلاء لديهم تلاميذ يدرسونهم.
- وبالتالي يرتحلون مع زوجاتهم وأولادهم؟!
- نعم، فجهاز المرجعية عندما ينتقل فانه يؤسس هناك مدارس ويقيم صلوات جماعة فتنتعش القرى، لا تتصور أنها 20 أو 30 عائلة، فبعض المراجع ربما لديهم مائتا تلميذ.
- إذا أردنا أن نتوقف عند المحطات الرئيسية في تاريخ الحوزة...
- هناك فترة محمد ابن إدريس سبط الشيخ الطوسي (جده لأمه) في النصف الثاني من القرن السادس حيث نشطت الحركة العلمية في (الحلّة) بوجوده.
- والطبرسي؟
- لم يكن لامعاً على مستوى الحوزات وانما شهرته في مجال التفسير.
- وبعده؟
- وفي منتصف القرن السادس الهجري عادت الحركة العلمية إلى النجف الأشرف، واستمرّت حتى منتصف القرن الثاني عشر حيث انتقلت إلى
(كربلاء) لوجود الآغا محمد باقر المعروف بالوحيد البهبهاني،
ومعاصره آنذاك هو الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق.
- وبعدهما؟
- في أوائل القرن الثالث عشر عادت الحركة العملية النجف الأشرف ثالثة على يد السيد محمد مهدي الطباطبائي المعروف "بحر العلوم".
- وما سر هذه التسمية؟
- اسمه السيد محمد مهدي ولقب بذلك لسعة علمه، ولثقله المرجعي والعلمي، وله مؤلفات في الرجال وغيرها، إضافة إلى رصيده الروحي المنقطع النظير.
- وبعد بحر العلوم؟
- صاحب الجواهر، محمد حسن النجفي،(القرن 13 هـ).
- وما هو الجواهر؟
- جواهر الكلام هو دورة فقهية لجميع أبواب الفقه، في 43 مجلداً (وأشار إلى مجلدات خلفه في المكتبة)، وكانت شرحاً لشرائع الإسلام. ثم تأتي مرحلة الشيخ مرتضى الأنصاري صاحب الثقل
المرجعي، والذي اختير بإشارة من صاحب الجواهر مع انه لم يكن من تلامذته. ولازالت مؤلفاته تدرس حتى الآن في الحوزات. ومن تلامذته البارزين محمد كاظم اليزدي (صاحب العروة الوثقى) ومحمد
كاظم الخراساني (صاحب كفاية الأصول)، وكانا على طرفي نقيض في قضية المشروطة والمستبدة في إيران.
- أي أن السياسة فرقتهما...وبعد الكاظمين؟
- بعدهما برز مراجع كثيرون، فمن تلامذة الخراساني: النائيني والأصفهاني والعراقي، وكل منهم يعتبر مدرسة أصولية، وعلى أيدي الثلاثة درس الإمام الخوئي.
- خليجياً... أين تقف الحوزة؟
- أبرز الحوزات خارج إيران والعراق كانت في البحرين، حيث ارتحل إليها بعض العلماء كوالد الشيخ البهائي المدفون في مقبرة (أبو عنبرة) شمال البلاد القديم، وقد جاءها من الحج وآثر البقاء
فيها على الرجوع إلى موطنه جبل عامل.
- وما هي منزلة حوزة البحرين؟
- تميزت البحرين بوجود علماء أكثر مما برزت كحوزة، من هؤلاء السيد هاشم التوبلاني (صاحب تفسير البرهان)، والشيخ ميثم البحراني (شرح نهج البلاغة). ومرت بالبحرين أسماء ثلاثة من العلماء
البارزين: الشيخ يوسف صاحب الحدائق النضرة، وابن أخيه الشيخ حسين العصفور، والشيخ عبدالله الستري، الذين نجد صداهم حتى الآن.
- وما هي العلاقة التي حكمت الحركة العلمية بالخارج؟
- كانت علاقة تكميلية، فأنت تدرس هنا ثم تكمل دراستك العليا في قم أو النجف، أو تبدأ بالهجرة إلى هناك. فالعلاقة علاقة تكامل.
- وأين تقف حوزة "زين العابدين" في بني جمرة اليوم؟ وما هو تاريخها؟
- طبعاً تأسست هذه الحوزة في العام 1985 على يد سماحة العلاّمة المجاهد الشيخ عبدالأمير الجمري(سلّمه الله).
- ولماذا سميت بهذا الاسم؟
- لأنها أقيمت في جامع يحمل الاسم نفسه.
- وكم من الطلبة ينتسبون إليها؟
- قبل الأحداث كان ينتسب إليها حوالي مائة شخص بين طالب وأستاذ، ولكن بعد الأحداث تناقص العدد، ويبلغ عدد منتسبيها الآن 62 شخصاً، كما أنه يوجد لدينا عدد آخر بعنوان المستفيدين
(بمعنى أن الحوزة لا تتكفل برعايتهم رعاية تامة باعتبار الميزانية) وربما بلغ عددهم عشرة أشخاص وباب التسجيل موصد.
- ولماذا أوصدتم باب الالتحاق؟
- بسبب الجانب المالي، فميزانيتنا الشهرية 11 ألف دينار، ونحن نعتمد على الحقوق الشرعية. فإذا كان الوارد لا يغطي ميزانية الحوزة عليك أن تتوقف.كما أن الحوزة قد يكون نظرها مدى حاجة
المجتمع واكتفائه في عدد الطلبة.
- وهل هناك تنسيق بينكم وبين الجامعات في الخارج؟
- هناك تنسيق مع بعض الجامعات في قم، إذ تقبل شهادتنا لديهم، بل يأخذون نتائج الطالب وبدون تحديد مستوى أو امتحان ليواصل الدراسة هناك اعتماداً على قوة التحصيل العلمي ورقابته في
حوزتنا.
- وما هو دور الشيخ الجمري؟
- كان هو مؤسس الحوزة ومديرها على مدى عشر سنوات (85-95)، وكان مدرساً للسطوح العليا.
- أشرتم إلى الأحداث وتأثيرها على أعداد الطلبة... فإلى أي مدى تأثرت الحوزة؟
- لم تؤثر عليها في البدء، فقط اعتزل الشيخ الحوزة بسبب انشغاله وبقي له دور المدرس والمشرف. ولكن أثناء الأحداث دوهمت الحوزة بتاريخ 1/4/1995 وأغلقت أبوابها بالشمع الأحمر وكسرت
الأبواب ومزقت بعض الكتب، وكتب الشيخ بالذات، وكتبت عليها كلمات نابية، ورميت كل هذه الكتب التي تراها في المكتبة على الأرض حتى فترة المبادرة. طوال تلك الفترة لم نفتحها، ثم بعد
السجن الأخير للشيخ (قبل الميثاق) فتحت وأعيد تسجيل الطلبة لتنتظم فيها الدراسة من جديد.
- (هنا استدرك السيد طالب قائلاً): من الاعتقال الأول في 1/4/1995 حتى فترة المبادرة 25/9/1995) ثم فتحت، حتى السجن الثاني للشيخ بداية العام 1996، بعدها أغلقت مرة أخرى حتى فك الحصار
عن منزل الشيخ واستمر فتحها بصورة رسمية حتى الآن.
- وانتم هل دخلتم المعتقل؟
- نعم.
- ولماذا؟
- بسبب القرب من الشيخ، فالأسئلة الأولى كانت: ما هي أسرار الشيخ. والتعذيب الذي نالنا بسبب ما أسموه "أسرار الشيخ".
- ولكن الشيخ الذي في قلبه على لسانه، وكل ما كان لديه يصرح به في خطبه، فأية أسرار هذه؟
- مع ذلك، كان المحققون يتوجسون، وكانوا يعتقدون أن الشيخ يقول شيئاً ويخفي شيئاً آخر، لقد طالني التعذيب الجسدي المرهق لأنهم كانوا يريدون مني أن أقول أنّ الشيخ كان يحّرض على
الحرائق، (هنا استدرك السيد طالب قائلاً) بل عرضت صور على التلفزيون كاعترافات على أن الشيخ كان يحرض على ذلك من أناس عاديين لم تكن تربطهم علاقة بالشيخ الجمري، كانوا يأتون إليه
كمستمعين لمجلس حسيني يقيمه أسبوعياً في مجلسه.
- ألم يؤثر غياب الشيخ عنكم؟
- فقط توقفت الحوزة في فترتي اعتقاله. أما في فترة علاجه فاستمرت رغم مرورها بظروف مالية سيئة.
- وماذا تتوقعون من الشيخ وهو الآن في أزمة صحية ؟ (قالا بنبرة عرفان الطالب للأستاذ):
- وجوده يكفي كعزٍّ لنا، فالشيخ كان وكيلاً, وإمام جماعة ومؤسس للحوزة كما أسلفنا، وكل هذه النتاج من فضل الله ومن فضل الشيخ، نتمنى أن يستعيد عافيته ويعود ليدرس ولا عُدمنا وجوده.
- وأين النساء في الحوزة؟
- الحوزة كلها رجالية.
- أليس هناك مشروع للمستقبل؟
- نحن نلاقي صعوبات، ولكن يتفرع عن الحوزة مكتبة تاريخ وتراث البحرين، وهي في بداياتها الآن، وأعلنا عن تنظيم مسابقة عن تاريخ البحرين في مارس الماضي، وهي عبارة عن مسابقة بحثية
تاريخية لها شروط ومحاور، ولجنة تحكيم من أساتذة ودكاترة، مع رصد 3 جوائز (1000، 750، 500 دينار)، إلى جانب 4 جوائز تقديرية، كلها من التبرعات وليست من الحقوق الشرعية، ووصل عدد
المشاركين إلى 20 شخصاً، وآخر موعد لاستلام المشاركات 30 يوليو.
- وما هي شروط الالتحاق في الحوزة؟
- أن يكون المتقدم خريج ثانوية عامة بنسبة لا تقل عن جيّد، حسن السيرة والسلوك، وأن يلتزم بالإنضباط في الحضور وعدم التخلّف والغياب، ويوجد في قانون الحوزة بعض الضوابط منها أن لا
يتكرّر غياب الطالب أكثر من 18 يوماً دون عذر مقبول وبعده يتم فصله مضافاً إلى أنّ الحوزة ملتزمة بإجراء امتحانات دورية للطلبة.
- وهل حدث مثل ذلك؟
- نعم.
- كمؤسسة اجتماعية، ما هو تعاطيكم مع الصندوق الخيري مثلا؟
- الحوزة برجالاتها محل استرشاد للصندوق الخيري، نعم توجد لجنة للحقوق الشرعية بمكتب الشيخ الجمري تتعاون مع مختلف الصناديق الخيرية، من حيث توثيق المعلومات والتصديق على الرسائل، وقد
تحيل علينا بعض الصناديق بعض الطلبات.
- وهل لديكم قدرة على توفير الطلبات؟
- في الغالب ليس للجنة الحقوق الشرعية احتياطي.
- وما هو الدور الذي تقوم به الحوزة اجتماعياً؟
- الهمّ الأكبر للحوزة تخريج كفاءات علمية كالإرشاد والتبليغ ولمعاضدة بقية النخب في النهوض باحتياجات المجتمع، وكثير من الطاقات العلمية التي تجدها في المجتمع هي من نتاج الحوزة، كما
يوجد لدى الحوزة ليلة أو ليلتين تستقبل فيها المراجعين من الناس وتتابع قضاياهم وتسهم في حلّ مشاكلهم ومن الواقع تمثِّل الحوزة مركزاً هامّاً للمراجعين على شتّى الأصعدة.
- وما هي آفاق المستقبل أمام الخريج؟
- بعضهم يعمل مبلغاً، أو مدرساً، وكثير من أنشطة المجتمع تكون على عاتق طلبة العلوم المتخرّجين من الحوزة، كما أنّ الحوزة بصدد تخريج كوادر قادرة على عمل مشاريع فكرية،وكل هذا يعتمد
على روافد الحوزة في المستقبل.
- وهل تعطونم شهادة؟
- نحن لا نعطي شهادة، نعم يمكن لإفراد المجتمع الإستفهام المباشر عنه