يسترجع المؤرخ فيصل فهمي، 77- عاما، وهو ابن العقيد فهمي سعيد- أحد ضباط ثورة مايس العام 1941 ذكرى فيضان العام 1831، الذي غرقت فيه بغداد من شمالها الى جنوبها، ويومها كانت بغداد
مسورة، يمتد سورها الاول من الباب الشرقي الى الباب المعظم، من جانب الرصافة اذ يبلغ عدد سكان الرصافة قرابة ضعفي سكان جهة الكرخ التي يمتد سورها هي الأخرى، من الجعيفر وخضر الياس
والصالحية، وبالرغم من عدم وجود احصائية لسكان بغداد الا ان التقديرات تحدد بنحو 700 /800 ألف نسمة تقريبا، خلال فترة الفيضان الأخير في العهد العثماني، العام 1831م، الذي أنتشر
فيه مرض الطاعون وأستمرت آثاره الى مابعد 12عاما من انتهاء الفيضان!
حكاية سدة
كلما فاضت بغداد، زاد الشعور بالقلق والحيرة لوالي بغداد، حسين ناظم باشا، وظل يتساءل على الدوام : لماذا لم يحفظ أهالي بغداد من الغرق!؟
فعمد الى بناء السدة العام 1910م وسميت باسمه، واعتبر حينها أكبر انجاز هندسي، لم يستخدم في بنائه أي نوع من المكائن والمعدات –بحسب مايرويه المؤرخ فيصل فهمي سعيد – الذي تحدث
بمحبة عن ناظم باشا، وذكر:
ان الوالي ناظم باشا اقام في بغداد 11 شهراً فقط، انجز خلالها بناء السدة بسواعد البغداديين، يساعدونهم بتنظيم العمل وتأمين الطعام وتوفيرالحماية لهم، العسكر والجندرمة المرابطون
معهم، بعدما ناشدهم ودعاهم للقيام بأكبر حملة طوعية وطنية، وترك حق المساهمة لكل من يجد في نفسه القدرة الصحية والبدنية على المشاركة في بنائها.
تقع السدة اقصى حي الصليخ حاليا، عند منطقة عشيرة النداوات تقريبا، وتمتد الى الجنوب عند معسكر الرشيد،في منطقة (الهنيدي) وبنيت بحجر الكلس مع نوع من الكتل الطينية المتماسكة
(الطين الحري)، أما ارتفاع السدة فيتراوح مابين 6 /7 أمتار، واستمر العمل لأكمال بنائها حوالي 9 أشهر فقط، ويعد هذا البناء أكبر انجاز، وبمثابة معجزة، قياسا بحسابات الوضع العراقي
بشكل عام في ذالك العصر.
حي الكسرة
يروي المؤرخ فيصل، ان مدير المزرعة الملكية، ويدعى توفيق المفتي، يقطن في محلة نجيب باشا (الكسرة حاليا) وهو من أصل سوري، وشقيق لزوجة رئيس وزراء الحكومة العراقية، علي جودت
الأيوبي في العام 1926، وقد شيد مدير المزرعة عدة أنابيب لسقي منطقة الصرافية في حالة انخفاض مستوى مياه دجلة، مايسمونه البغداديون (صيهود)، وفي حالة ارتفاع منسوب المياه يسمونه
(خنياب)، فيتم خلاله غلق أفواه الأنابيب باستخدام الحجر والقماش وما شاكل ذلك بحيث عندما ترتفع المياه، لاتنفذ منه، ولما حدث الفيضان، دعا توفيق المفتي جميع الفلاحين العاملين
بامرته، لفتح فوهات الأنابيب، فأظهر المزارعون رفضهم واستياءهم لقراره، لكنه أصرعلى طلبه وأجبرهم على فتح منافذ الأنابيب، فانفلتت المياه من الفتحات (هذه الحالة يسمونها البغداديون
- النابور-) وابتلعت مساحة كبيرة من الكلس الطيني المطل على ضفاف دجلة، وتدفقت المياه الى محلة نجيب باشا لتصل سيولها الى سدة الصرافية المتميزة بارتفاع أرضها عن مستوى انخفاض
منطقة الباب المعظم، ومنذ ذلك اليوم شاعت تسميتها عند الأهالي (بالكسرة)، جراء فيضان العام 1926، وقد شيد فيها في ما بعد، البلاط الملكي وشارع الزهاوي.
فيضانات أخرى
ويقول فيصل، أنه بحلول ربيع العام 1942 وتحديدا»، ليلة 26 / 27 آذار، حدث فيضان آخر، كان من النوع المدمر، حيث فاضت دجلة، وفاضت معها ديالى بالكامل، وخلال ساعات قليلة، كسرت سيول
المياه من منطقة (الهنيدي) وغرق معسكر الرشيد والرستمية للمرة الثانية، ولم تتخذ أي تحوطات في حينها، وعلى أثرها تحولت الكلية العسكرية وكلية الأركان وبعض قطعات الجيش العراقي الى
الكرادة الشرقية، بالقرب من منطقة (السبع قصور) على الضفة الشرقية المرتفعة من نهر دجلة، أما الفلاحون ومربو الجاموس القادمون، بحسب مايسمونها العاصمة، فكان غالبيتهم يرعون
حيواناتهم من الأغنام والجاموس أو مانسميه (الحلال) في حفرة طويلة ممتدة على طول السدة، وهو نهير بعرض صغير للمياه الآسنة، تصب فيه مياه الفيضانات المتكررة، وقد عرف باسم (شطيط أو
نزيزة)، وفي ذلك العام هاجر المزارعون الى منطقة (الشاكرية)، وبقي الفيضان لأكثر من نصف شهر تقريباً.
أما فيضان العام 1946، فيعده فيصل، من النوع المدمرأيضاً، بعدما اجتاحت سيول المياه غالبية رصافة بغداد، وتدفقت من الصليخ الى داخل أحياء الوزيرية والباب المعظم والفضل والشيخ عمر
والنهضة، المحمية بسدة ناظم باشا، وبلغت المياه صوب منطقة الهنيدي أيضاً عند معسكر الرشيد وصولاً الى بغداد الجديدة، التي كانت في ذلك العام، حديثة العهد بالسكان، وشيّد فيها عدد
قليل من البيوتات، قبل أن يشتريها (عبد المجيد السامرائي) صاحب الجامع الكبير، الذي مازال حاضراً في مركز بغداد الجديدة.
أمّا فيضان العام 1950، فقد اجتاح عدداً من مناطق بغداد التي لم يطالها الفيضان في العقود السابقة له، وكانت تعد من المناطق الآمنة، كونها أكثر ارتفاعاً عن بقية الأحياء البغدادية
المطلة على ضفاف دجلة _بحسب المؤرخ فيصل_ وأضاف بحديثه عن ذلك الفيضان:
- خلال ذلك العام، غرقت منطقة الكرادة الشرقية من جانب الجادرية والزوية، يومها، كان يقيم فيها، أحد التجار، من وجهاء العوائل البغدادية، ويدعى ناجي الخضيري، صاحب أملاك وبساتين
الخضيري المعروفة في الكرادة حتى يومنا هذا، ذلك الرجل دعا الأهالي الى (عونة)، وفوراً استجاب لنخوته أهالي الكرادة، مثلما كان هناك أيضا قاض يدعى سلمان بيات، الذي خرج هو الآخر
يعاونه الكراديون، فقاموا ببناء السدود الترابية على حد ماوصلت اليه مياه نهر الخير.
مجلس ألأعيان
جلسة طارئة
ويستذكرالمؤرخ فيصل الأحداث التي سبقت الفيضان، إذ يقول: كان أحد أعضاء مجلس الأعيان ويدعى، نصرت الفارسي،الذي ينحدر من عائلة عراقية معروفة، (لقبت بالفارسي كونها عرفت بالتدوين عن
الفارسية) زار تركيا في أواخر شهر كانون الأول العام 1953، فأبلغه أحد المسؤولين هناك، أن كمية هائلة من الثلوج المذابة على جبال تركيا التي تصب في أعلى دجلة، بخلاف الكميات
الطبيعية التي تسقط بحلول نهاية كل عام، وبحسب ماتشير اليه التقارير الرسمية التركية، التي أكدت حدوث فيضان كبيرفي تركيا والعراق، ولما عاد نصرت الى بغداد وحضر جلسة مجلس الأعيان
يوم 20 كانون الثاني من العام 1954، أوضح ما أخبره به المسؤولون الأتراك وأكد مخاوفهم، ودعا الى حضورعاجل لوزير الزراعة، عبد الغني دلي للحضور الى مجلس الأمة وعقد جلسة طارئة، في
عهد وزارة حكومة محمد فاضل الجمالي للمرة الثانية في ذلك الوقت، وبحسب الدستور الملكي، فان مجلس الأمة يتكون من مجلس النواب المنتخب، ومجلس الأعيان الذي يختار فيه الملك تعيين
أعضائه، كان نصرت الفارسي ملحا بطلبه خلال اجتماع مجلس الأعيان، وأكد للحضور:
أريد من وزير الزراعة، أن يوضح لي استعداداته، لأنني جئت من تركيا وأخبرت بأن هناك ذوباناً غير طبيعي للثلوج في جبال تركيا، ربما تغرق بغداد لاسمح الله.
لم تحظ تحذيرات نصرت ومخاوفه، بردة فعل أو اهتمام من المسؤولين، الا بعد مرور شهر تقريبا»، عندها أصبح الموقف حرجا»، ففي يوم 22 شباط، حضر وزير الزراعة، عبد الغني دلي، الى مجلس
الأعيان وطمأن الحضور وبين لهم ان هناك تحضيرات واستعدادات لبناء السدود ومعالجة الفيضان، ولما حل شهر آذار، أرتفع منسوب المياه وصار بحسب اللهجة الدارجة (خنياب)، وقد سافر الملك
فيصل الثاني الى باكستان، في منتصف شهر آذار وذهب معه ضمن الوفد المرافق له، وزير الزراعة عبد الغني دلي، وفي يوم 21 آذار، بدأ دجلة ينذر بفيضانه، عندها توافدت البرقيات العاجلة من
موظفي دائرة الري في الموصل الى وزارة الزراعة، مفادها، أن مناسيب مياه دجلة هناك، قد سجلت زيادات غير طبيعية يومياً، وتدعوهم لاتخاذ التدابير اللازمة لاستقبال المياه ومنع حدوث
فيضان، الاّ أنّ المسؤولين في وزارة الزراعة، لم يعيروا اهتماما يتناسب مع حراجة الموقف، ويوضح فيصل، أنه على النقيض من المسؤولين العراقيين، فأن مدير الري العام، المستر هاردي،
البريطاني الجنسية، كان واقفاً على السدة في منطقتنا بالوزيرية في ذروة الفيضان، وسنأتي على أحداث ذلك اليوم المثير لاحقاً، وقد بين هاردي للمسؤولين خطورة الموقف، عندما كان يراقب
الشاخص الكبير، أوما يطلق عليه مقياس، يؤشر مستوى ارتفاع المياه، وهو مشيد قرب ساعة القشلة وسوق السراي، في جانب الرصافة، كان المقياس يشير إلى درجة 32 في يوم 24 آذار، وهذا يعني
أن المياه بلغت مرحلة الخطر، وفي اليوم الذي تلاه، أرتفعت المياه لتبلغ درجة 35، وهذا يشير الى أن المياه، أصبحت بمستوى مدمر، وعلى أثرها، أجتمع مجلس الوزراء واستدعى وزير الزراعة
الذي كان يومها خارج العراق مع وفد الملك فيصل، فبعثوا له ببرقية عاجلة يوم 24 آذار، تطلب منه العودة بأقرب وقت الى بغداد، لأن وضع دجلة بلغ فوق مستوى التهديد بالخطر، وبات من
المؤكد أندلاع فيضان في بغداد! وبالفعل عاد الوزير الى العراق يوم 25 آذار، وعقد أجتماع (طارئ) لمجلس الوزراء حضره وزير الدفاع، حسين مكي خماس، الذي أنيط به صلاحية اختيار آمر
فيضان، وبدوره اختار (أمير اللواء) مدير الهندسة العسكرية في الجيش العراقي، خليل جميل، آمرا» للفيضان، وأبرق رسالة له، حيث كان في جولة تفتيشية وتفقدية في احدى قطعات الهندسة
العسكرية المرابطة في جنوب العراق، ولما وصلته البرقية، حضر الى بغداد بواسطة طائرة الهليوكوبتر نوع (سيكورسكي موديل 555) المستوردة حديثا» للعراق عام 1951 وكان لها دور في فيضان
بغداد.
طائرات سيكورسكي
ويشير المؤرخ فيصل فهمي سعيد الى ان العراق أستورد ثلاث سمتيات من نوع سيكورسكي، جاءت تسميتها نسبة الى مخترعها، العالم سيكورسكي، ودخلت الخدمة الفعلية في القوة الجوية العراقية
ولأول مرة، خلال أيام الفيضان، لما بلغ ذروته، حلقت السمتيات الثلاث فوق سماء الجهة الشرقية من بغداد، خلف السدة، وهبطت هناك لنجدة بعض القرى، من سكان الصرائف والبيوت الطينية،
وأنقذت مايقارب 17 الى 25 شخصا من نساء وأطفال وشيوخ، بعدما أقلتهم الى الأماكن الآمنة، وكان أحد أصدقائي من طياري السيكورسكي المشاركين في حملة الأنقاذ.
ثم يعود بحديثه عن آمر فيضان بغداد:
أول ماشرع به آمر اللواء، خليل جميل، آمر الفيضان، قرار أعلان حالة الطوارئ، وفرض أنذار -ج- لكل القطعات العسكرية التي خصصت تحت أمرته، والتي وزعها على طول سدة ناظم باشا، الممتدة
من أقصى الصليخ حالياً، الى نهاية معسكر الرشيد قرب الزعفرانية، وخصوصا» في الأماكن المهددة منها، لرفع مستوى الأسداد وسد المنافذ، ثم قام بتسيير قطار (الفالكونات) الذي كان ينقل
حمولة كميات كبيرة من الرمل والسمنت من معامل السدة الى جانب الكرخ عبرسكة القطار المشيدة على الجسر الحديدي، أو ماعرف بعدها بجسر الصرافية، فخصص آمر اللواء جميل حمولة القطار
لمعالجة السدود في الأماكن المهددة، وجلب الحفارات واللوريات، التي قامت بتعبئة تلول الرمال وأطنان السمنت، ووضتعها قرب السدة، كما أحضر موظفي البلدية والري بواسطة اللوريات أيضاً
أ كياس الجنفاص، والحصران المصنوعة من جريد النخل والباريات المصنوعة من القصب مع الأعمدة الخشبية ونسميها (المردي)، وتثبيتها بشكل مائل، لتصد أمواج سيول المياه لمنعها من جرف
أكياس الرمل وأبتلاع رمالها، فوزعت المواد على أفراد الجيش المرابطين على السدة، الذين تواصل عملهم على طول ساعات الليل والنهار، أيام الفيضان.
طلبة الجامعات
كان العمل شاقا، وقد شارك فيه وبشكل طوعي، غالبية طلبة الكليات من جامعة بغداد، ومنهم طلبة كليات، التجارة والحقوق والأداب والعلوم، الذين بلغ تعدادهم أكثر من 1500 طالب، جاءوا الى
قاطع السدود في الوزيرية، وتواصل عملهم، ثلاثة أيام متواصلة من يوم 26 الى 28، آذار، وليس هذا غريباً عن ما عرف به العراقيون في شهامتهم وغيرتهم على بلدهم.
مجلس الوزراء
ويقول فيصل، أن مجلس الوزراء عقد اجتماعاً، وبحضور رؤساء الوزراء السابقين وبينهم، صالح جبر وصادق البصام وآخرون، ولما قرروا إخلاء بغداد، علق صالح جبر موضحاً:
أن أهل الكرخ مضيافون، وممكن كل واحد منهم يستضيف ببيته عائلة، من أهل الرصافة.
ثم علق صادق البصام:
ولهذا لابد أن نخلي الرصافة.
لكن وزير الداخلية سعيد القزاز، أعترض على مقترح الاخلاء، وأوضح مبيناً أنه لايوجد في بغداد سوى جسرين هما، جسر المأمون (الشهداء)، وجسر الملك علي (الصالحية)، فصوت مجلس الوزراء
بموافقته، ومنح القزاز صلاحية كاملة بحرية التصرف بموضوع الاخلاء في كل الأحوال.
حقي الشبلي
وبين فيصل، أن كل مادار من حوارات وسجالات وقرارات في جلسة مجلس الوزراء، نقلها القزاز الى مسامع الأديب والفنان حقي الشبلي، الذي عيّن بالوكالة، مديراً لأذاعة بغداد في الأيام
الحرجة الأولى للفيضان - بحسب ما أشار اليه المؤرخ فيصل فهمي - وتحدث عن الموقف الوطني للشبلي والقزاز، ولقائه بهما في الصالحية، في مبنى دار الأذاعة العراقية مساء يوم 26 آذار عام
1954، حيث كان يعمل محرراً صحفياً للأخبار في قسم (الانصات) وصادف في يومها، أن وجّه القزاز خطابه الى الشعب العراقي.
يروي المؤرخ فيصل أحداث ظهيرة ذلك اليوم، قائلاً: - كنت أقوم بواجبي في المشاركة بالحملة الوطنية، قرب بيتنا في الوزيرية، مع أصدقائي وزملائي من طلبة الكليات، نعاون أفراد الجيش،
نعبئ الأكياس بالرمل ونرصها، ونحمل الحصران ونثبت المرادي، كان العمل شاقاً ماسبّب للكثير منا خدوشاً وشقوقاً دموية في راحة أيدينا، وقبل أن يصيبني الأرهاق والتعب وأنزل من السدة،
سمعت من خلفي صوت عدد من الرجال يتهامسون فتوقفت عن العمل ونظرت الى الخلف، واذا بالوصي عبد الآله قد حضر بسيارته المكشوفة، وقد جاء بصحبة أحد المرافقين له من الشخصيات السياسية،
يدعى عبد الله المضايفي مع أحد الوزراء، وكذلك حضر المستر هاردي بسيارته أيضاً، ولما وقف قليلاً يراقب طريقة العمل، قبض يده اليمنى ورفعها مشيراً بأبهامه بقوة صوب الحضور،ثم قال
بالأنكليزية - GOOD - وتعني جيد، ليؤكد ان طريقة العمل في معالجة السدود تتم بأسلوب سريع ومتقن. كنت أعمل مع أصدقائي البالغ عددهم نحو أحدَ عشرَ شخصاً تقريباً، جميعهم زملاء دراسة
من كلية الحقوق، وبقربي أحد أصدقائي الحميمين، يدعى لؤي يونس بحري، ووالده أحد الشخصيات المعروفة عالمياً وهو السائح يونس بحري، وصديقي مازال حياً، ويعمل أستاذاً في أحدى الجامعات
الأمريكية.
فيما كان وزير الداخلية سعيد القزاز حضرهو الآخر بمفرده، وقد بدت واضحة على وجهه علامات الارهاق والتعب خلال حواره الهادئ مع الضباط والمراتب، وحينها لأول مرة أرى رجلاً يحمل سترته
على كتفه ويرتدي قميص (نص ردن)، ثم صعد الى السدود، ودنا من أحد أصدقائي، العاملين في الطابور، وقد بدا واضحاً على راحة كفه، تسيل منها قطرات الدماء، أثر مشقة العمل الجماعي في رفع
المرادي وتثبيتها مع رص أكياس الرمل لرفع مستوى السدود، مثلما أصيبت كفي أيضاً ببعض الشقوق الدموية ولكن بنسبة أقل منه، فنظر اليه القزاز وتوجه صوبه ولما صار بقربه، رفع يده اليمنى
وطبطب على كتف صديقي ثم قال له مبتسماً – الله يبارك بيكم يا ابني ويخليكم لهذا البلد. ثم نزل ورحل، وذهبت الى بيت الحاج ناجي الزيدي، الذي يقع منزله على مسافة من السدة، بمقربة من
شارع الزهاوي وأكاديمية الفنون الجميلة، وهو والد الطبيبين المعروفين في العراق، احدهما الجراح خالد ناجي، والآخر الطبيب أسماعيل ناجي، كان والدهما سخياً وكريم النفس للغاية، وعلى
مدى الأيام الصعبة من الفيضان، كان بيته مضيفاً للزائرين، ويعد مأدبة لوجبات الطعام على طول ساعات النهار داخل حديقة منزله، (ويعزم عليها) كل أهالي الوزيرية، ويبعث بوجبات أيضا الى
الطلبة والعساكر المرابطين على السدود، أضافة الى أيوائه أكثر من أربع عوائل من نساء وأطفال، ومنهما عائلة، أخي وأختي، وأيضاً، من الذين خرجوا من بيوتهم التي طالها الفيضان.
من قصائد الشاعرة نازك عن فيضان عام 1954، تتصورالشاعرة عاشقاً وتسميه، النهر العاشق، قالت:
راكضا عبر حقول القمح لا يلوي خطاه |
|
أين تمضي إنه يعدو علينا |
طائراً كالريح –نشوان- يداه |
|
باسطا في لمعة الفجر ذراعيه الينا |
أين نعدو وهو قد لف يديه |
|
سوف تلقانا وتطوي رعبنا أنّى مشينا |
إنه يعمل في بطء وحزم وسكينة |
|
حول أكتاف المدينة |
قبلا طينية غطت مراعينا الحزينة |
|
ساكبا من شفتيه |