فقد الطب وفقد العراق علما من أعلامه ورائداً من رواده وعموداً من أعمدته، بانتقال الاستاذ الدكتور فرحان باقر الى جوار ربه في الثامن عشر من
تشرين الاول من عام 2017 .
لم يكن انتقاله الى بارئه مفاجئة لنا حيث كنا جميعا نتوقع ذلك لما كان يعانيه من مرض عضال في السنوات الاخيرة وكونه نزيل المستشفى في أبوظبي منذ منتصف الشهر الرابع من هذا العام.
كان لي شرف الاتصال الهاتفي به خلال رقوده في المستشفى. وبالرغم من مرضه وصعوبة حياته في المستشفى كانت معنوياته عالية ويتمتع بذاكرة كاملة وحملني تحياته وتمنياته لكل أعضاء المجتمع
الطبي العراقي وقد بلغت رسالته الى العديد من الزملاء في حينها.
لقد ملأت أخبار نعيه الآفاق في مواقع التواصل الاجتماعي والرسائل الالكترونية وغيرها إذ تحفل بسيل من التفاصيل الخاصة بحياته المهنية الشامخة
بالعظاء العلمي المتميز وإنجازاته الثرة في ميدان الطب والمجتمع العراقي وخارجه ولاسيما ماوثقه الأخ الدكتور سعد الفتال.
ولئن أعجز عن أن اضيف الى ماذكر من مناقبه أرى لزاما علي أن أساهم مع الزملاء إيفاءا بالعلاقة الحميمة التي ربطتني به طوال العقود الماضية. العلاقة التي بدأت بين طالب واستاذه في ستينات
القرن الماضي وحتى صعود روحه الطاهرة الى السماء.
شرفني في العام 2008 بتكليفي لكتابة تقديم لكتابه "حكيم الحكام من قاسم الى صدام" ولئن أبدع في اختيار عنوانه فقد سرد التجربة الطبية الفريدة
عبر حقب متعاقبة من الرعاية الطبية لحكام العراق الذين عاصرهم المتميزة بالالتزام بالنهج المهني الطبي الذي لم يتشوه بالتيارات السياسية تلكم الفترة التي استغرقت عقودا أربعة. وحينما
تصفحت تراثنا الطبي وجدت أن بعضا من أساطين الطب قد حمل لقبا خاصا مثل ابن زهر "طبيب السلاطين" في العهد الاندلسي والرازي "طبيب الخلفاء" في العهد العباسي.
وقد لاحظت في كتابه توثيقا لحوادث تاريخية مهمة في مسيرة العراق السياسية إذ سردها ووثقها بكفاءة عالية كما ضمتها علاقاته وخدماته الى شرائح
مجتمعية أخرى لاتقل أهمية عن الحكام. وهكذا شعرت بالإحراج لذلك الطلب فإنه يعز علي أن أرد طلبه من جهة ومن جهة ثانية أخشى أن لاأوفيه حقه. ولكني امتثلت لطلبه فكتبت ثلاث صفحات فيها تاريخ
وانجازات الاستاذ فرحان.
طلب مني ثانية أن أنوب عنه في حفل توقيع كتابه الآخر " لمحات من الطب المعاصر في العراق " والذي عقد في مكتبة الحكمة في واشنطن في العام 2011 .
والكتاب إضافة موسوعية للمكتبة الطبية العربية في التاريخ والسيرة. استعرض فيه تاريخ الطب في وادي الرافدين منذ فجر التاريخ ومرورا بالعصر الذهبي العربي الاسلامي والعهد العثماني
وانتهاءا بتاريخ الطب العراقي المعاصر. كتبه بخبرة من عاصر الاحداث ووثقها فيه كشاهد عيان ومن ساهم فيه. وقد وثق أحداثا ذات أهمية سياسية مرتبطة بالمسيرة الطبية.
فالكتاب يعتبر بحق سجلا أمينا لتاريخ الطب العراقي المعاصر. وأخيرا في العام 2014 كلفني عبر الهاتف بتمثيله في مؤتمر الأطباء العراقيين
الامريكان بتلاوة رسالة
شخصية منه على المؤتمرين يحييهم فيها ويذكرهم بتاريخ جمعيتهم.
سأقتصر في تأبين أستاذنا الخالد على بعض مما قدمه للمجتمع الطبي العراقي في داخل العراق وخارجه.
| صدرت له في الستينات من القرن الماضي طبعة جديدة لكتاب "الطب الباطني" لمؤلفه ديفدسن. كان ذلك الكتاب المنهجي رفيقنا في
الدراسة. ذكر الكتاب في موضوع داء السكر "بأن هناك مراكز طبية قليلة في العالم استحدثت عيادة خاصة لمرض السكر ورعاية المصابين به". لقد كان فخرنا واعتزازنا بوجود هذه العيادة التخصصية
في وطننا والتي كان قد بدأها الاستاذ فرحان في المستشفى الجمهوري. وهي بالتأكيد من أوائل العيادات في الوطن العربي إن لم تكن الأولى. |
| خلال الإقامة في المستشفى الجمهوري كان شعورنا نحن الاطباء المقيمين بالترقب والرهبة في صباح كل يوم خميس، على ما أذكر،
من يوم ندوة الوفيات، حيث يقدم كل طبيب مقيم أمام جمع من الاساتذة حالات الوفيات التي حصلت في ردهته ويبدأ النقاش بل "المحاكمة" العلمية الدقيقة لحالة المتوفى وطريقة علاجه واستنباط
الدروس من تلك الحالة. وكان الاستاذ فرحان يصول ويجول فيها، وهو الذي استحدثها في العراق. وأذكر أن في إحدى الندوات عندما ناقشنا حالة وفاة بجلطة قلبية كنت قد قدمتها طلب مني بعد
الانتهاء من النقاش أن أحاول أن أسجل له التغيرات التي تحدث في تخطيط القلب عند مريض بذبحة صدرية خلال فحص الجهد. وكان حظي كبيرا في اليوم التالي حين راجعنا مريض مصاب بها حين تمكنت
من تسجيل ذلك وقدمت له وباعتزاز لوحة كاملة فيها نماذج من تخطيط القلب الطبيعي للمريض مصحوبة بنماذج من التغيرات الحادة بعد إجراء فحص الجهد والتي أظهرت الإقفار )قلة ورود الدم(
القلبي وعودة التخطيط الى حالته الطبيعية بعد الجهد. واستخدم الاستاذ فرحان تلك اللوحة لتدريس التغيرات التي تنذر بالاصابة بالجلطة القلبية. ومازلت أحتفظ بنسخة من ذلك التخطيط
لحد الآن. |
| كان للسنين التي قضاها بعد التخرج مباشرة كمعيد في الفسيولوجي أثرا بالغا في رغبته في البحث العلمي العميق وربط العلوم
السريرية بالعلوم الطبية الأساسية خلال عمله الطبي. ومن ذلك اهتمامه بالجهاز التنفسي وأمراضه، حيث استحدث مختبر الفحوصات التنفسية السريرية في المستشفى والذي كان مثالا للعلاقة
التطبيقية بين العلمين الطبيين السريري والاساسي. |
| كان الرائد في استحداث الندوة السريرية الباثولوجية CPC في المستشفى الجمهوري، حيث يجتمع اساتذة الطب الباطني والجراحة وعلم
الآمراض لمناقشة الحالات المعقدة والتي تم إجراء العمليات الجراحية لها وخضعت للتحليل النسيجي الكامل. |
| بدأ بما يسمى بالدورة السريرية الكبرى Grand Rounds حيث كانت تناقش العديد من الحالات المهمة والنادرة التي تواجه اطباء
الأمراض الباطنية خلال الاسبوع والتي تحتاج الى استشارة جماعية أو إنها حالات نادرة يتوجب اطلاع الجميع عليها. |
| من المشهود له بالريادة أيضا هو تصميمه على تثبيت دستور عراقي للادوية عملا بما هو موجود في كل دول العالم المتقدم. فقد صدر
دستور الادوية العراقي تحت إشرافه في الخمسينات والستينات. |
| كان من أوائل الذين استخدموا الزرع المختبري في حالات الالتهابات الذي كان في بداياته لمعرفة أفضل المضادات الحيوية التي تفيد
في علاج الحالات الالتهابية وعدم الاعتماد على الحدس في علاج الحالة. |
| في الستينات وخلال وباء الكوليرا الذي هجم على العراق كان له السبق في تنظيم الخدمات اللازمه للتعامل مع المرض والمصابين. |
| أصيب الكثير من العراقيين في السبعينات بالتسمم بالزئبق فكان هو من الرواد الذين قدموا خدمات طبية ومتابعات علمية وبرامج
للتعامل مع الحدث بأفضل أسلوب. |
| ساهم مساهمات متميزة في الجمعية الطبية العراقية في الستينات من القرن الماضي وما بعدها في الحفاظ عليها كجمعية طبية علمية
مستقلة عن الجو السياسي العارم الذي كان يسود نقابة ذوي المهن الطبية. |
| تميز في المجال البحثي كتميزه في المجالات الاخرى، فقد نشر نتاج بحوثه القيمة في أفضل المجلات العالمية والمحلية. ومن الجدير
بالذكر القول أنه الوحيد من الباحثين العراقيين الذي نشر له بحث في مجلة "علوم" الاميركية الذائعة الصيت. |
| في مجال الخدمات الطبية في العيادات الخاصة كان له قصب السبق في إرساء قيم جديدة على المجتمع الطبي العراقي في الممارسة
الطبية غير الحكومية. فلقد كان الاول في استحداث أسلوب تحديد عدد المرضى المراجعين في العيادة وزيارة المريض لعيادته بموعد مسبق. |
| كان من الداعين والمتحمسين في بداية الثمانينات لتطبيق نظام التفرغ الطبي )بما لذلك النظام ولما عليه( بهدف تفرغ الطبيب
الجامعي لرفد عمله المهني بالعمل الاكاديمي وتوفير الوقت له لإجراء البحوث لتطوير المعرفة . |
| بعد تقاعده المبكر دعته عدة جهات طبية وأكاديمية في الوطن العربي وخارجه ليساهم في قيادة مؤسسات اكاديمية ومهنية عديدة، ولكنه
استقر مابين الولايات المتحدة ودولة الامارات الشقيقة. |
| في الولايات المتحدة ومع نفر من الخيرين من زملائه الاطباء العراقيين الامريكان عرض في عام 1997 فكرة جمع شمل الاطباء
العراقيين في أميركا لتقوية ارتباطهم ببعضهم وبالوطن الأم وتقديم ما يمكن من الخدمات والاستشارات للزملاء في العراق في مجال التعليم الطبي والخدمات الصحية.
ولولا كونه فرحان باقر وإجلاله من قبل الجميع لما تمكن من جمع الاطباء بالشكل الذي شمل حتى المتضاددين منهم. واستحدثوا في عام 1998 جمعية خريجي الكليات الطبية العراقية في أميركا وذكر
الاستاذ الدكتور محمود ثامر بأن " الجمعية لم تكن تقوم لولا أفكار وجهود . IMCA وصمود الاستاذ فرحان". وبعدها تطورت في عام 2000 الى مدى أوسع لتصبح االجمعية العراقية للعلوم الطبية
IMSA لتضم العراقيين العاملين في الميادين الطبية في الولايات المتحدة والتي لازالت تزاول نشاطها وجمعها للعاملين في المجال الطبي في الولايات المتحدة. |
| ساهم في العام 2003 بتأسيس الاكاديمية الوطنية العراقية للعلوم والتي ضمت اثنا عشر عضوا مؤسسا كان لي الشرف أن أكون أحدهم. |
| أتذكر أننا التقينا في دبي عند منتصف شهر مايس 2003 . وكان قد جاء من أبو ظبي بهدف زيارة مستشفيات اهلية في دبي. هيأت له مع
زميل لي برنامج زيارة لست مستشفيات أهلية كي نطلع عليها ونتفق على بلورة أفكار للعمل في فتح مستشفى ذات مستوى عال في العراق بعد تغيير النظام تليق بما يستحقه العراق العزيز. كان
أستاذنا أكثرنا نشاطا وحيوية ونقاشا مع مسؤولي تلك المستشفيات. |
| ومن حرصه على الاستمرار في خدمة التعليم والطب في العراق ساهم مساهمة فعالة عام 2008 في أعمال "المؤتمر العلمي العالمي الأول
للكفاءات والخبرات العراقية في المهجر" الذي عقد في بغداد. وكذلك في أعمال "المؤتمر العالمي الأول للتعليم والتطوير الطبي المستمر" الذي عقد في بغداد عام 2009 بدعم من منظمة الصحة
العالمية. |
وحينما أصبح في عمر يتوجب فيه الراحة والاستمتاع بما حققه من نجاحات لم يتوقف، وقد آل على نفسه أن يبقى مثالا في النشاط والحيوية في المجالات
العلمية والاجتماعية وشعلة وهاجة تنير الدرب للاخرين.
وباختصار اتصفت مسيرته بالريادة الطبية والاكاديمية وخدمة المجتمع بكل مايستطيع مدعومة بالمواقف الوطنية ابتداءا من تطوعه للدفاع عن أرض العرب
في فلسطين في عام 1948 ، الى التميز في خدمة ورعاية المرضى في عموم البلاد وإرساء قواعد طبية رائدة واستمرارا في الابداع فهو مثال يحتذى به للطبيب القيادي والاستاذ الاكاديمي في العراق
بل في الوطن العربي كله. وهو بحق ليس فقط "حكيم الحكام" بل حكيم الشعب وحكامه.
ياسيدي أبا أحمد لقد خدمت ووفيت في كل الآفاق التي دخلت فيها وعالجت وأنقذت الالاف من المرضى من الموت ولكن يقضي الله أمراً كان مفعولا وبما
أشار اليه الشاعر:
إِنَّ الطَبيبَ بِطِبهِ وَدَوائِهِ |
لا يَستَطيعُ دِفاعَ مَكروه أَتى |
ما لِلطَبيبِ يَموتُ بِالداءِ الَّذي |
قَد كانَ يُبرِئُ منه فيما قد مَضى |
ذَهَبَ المُداوي وَالمُداوى وَالَّذي |
جَلَبَ الدَواءَ وَباعَهُ وَمَنِ اِشتَرى |
ستبقى وأنت غائبا عنا علما خفاقا ومنارا للأجيال تقتدي بخلقك وبقيمك الطبية والإنسانية وإصرارك على السير في درب الخدمة العامة والتضحية في سبيل إسعاد المجتمع.
رحمك الله أستاذنا وصديقنا وأسعدك سبحانه في رحلتك الأبدية وأسكنك جنة الفردوس وحشرك مع النبيين والصالحين.
نعزي السيدة الفاضلة أم أحمد والمحروسين بالله أحمد وبشرى وريم وسوسن وأسرة آل باقر وكل المحبين من قريب ومن بعيد وندعو الله أن يلهمهم الصبر والسلوان.
وختاما نذكر قول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم:
"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ".
والكل يشهد بأنك أحسنت العمل في حياتك فنسأل الله أن يغفر لك فهو العزيز الغفور.
وإنا لله وإنا اليه راجعون.