Back Home Next

أخلاقيّات إدارة الاختلاف المذهبيّ الإسلاميّ
أدب التوافق والاختلاف
السيد جعفر فضل الله
http://arabic.bayynat.org.lb/news/nachatat_15122010.htm
 


هل نحتاج إلى أدب التّوافق والاختلاف كقضيّة من قضايا الوحدة الإسلاميّة، أو أنّ أدب الاختلاف هو قضيّة حياة؟

ربّما تكون القضيّة الأساس الّتي ينبغي أن نطرحها هي: ما هي القواعد الّتي ينبغي أن تحكم الإنسان في إدارة الاختلاف الّذي وجد مع الإنسان، ولن ينتهي ما دامت الحياة الاجتماعيّة على وجه الأرض، إلا ما رحم ربّك؟..

إنّ اعتبار الاختلاف بين النّاس سنّةً إلهيّة، كما أشار تعالى إليه بقوله: {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}[هود : 118]، يدفعنا إلى وعي وظيفتنا تجاه الاختلاف بطريقةٍ أخرى غير الّتي اعتدنا عليها.

ووعي هذه الوظيفة يقوم على إدراك مسألة النّسبيّة في الحقائق الّتي يدركها الإنسان؛ بمعنى أنّ الحقيقة الّتي يدركها الإنسان، تمثّل قناعته الّتي حصل عليها من خلال عمليّة التّفكير عبر معطيات محدّدة، ولكنّ ذلك لا يمنع من أن تتبدَّل إلى قناعةٍ أخرى إذا توفّرت معطياتٍ جديدة.

وهذا لا يعني تعدّد الحقيقة، بل يعني تعدّد القناعة مع تبدّل المعطيات.. والإنسان في الحياة لا يتحرّك وفق الحقائق المطلقة، بل وفق القناعة بما يمثّل الحقيقة لديه، وهو ما قد يصيب به الواقع والحقّ، وقد يخطئ به كلّ ذلك.

وبهذا المعنى، لا تعني نسبيّة الحقائق الاعتراف بشرعيّة كلّ الآراء والاختلافات النّاتجة من الفكر المتنوّع؛ فهذا منافٍ للقناعة بوحدة الحقيقة في ذاتها.. ونحن لسنا بحاجةٍ إلى هذا النّوع من التّسويات لضبط حركة الاختلاف، كما يحلو للكثير من المنظّرين لمسألة التعدّدية أن يسلكوا هذا المنهج..

هذا كلّه يؤسّس بشكلٍ غير مباشرٍ للاعتراف بوجود آخر، يختلف عنه في جانب من الجوانب، ويشترك معه ـ لا محالة ـ في جوانب أخرى، تتّصل بقضيّةٍ خاصّةٍ أو عامّة.

وهذا يعني أنّ نزوع الإنسان نحو الحقيقة المطلقة، محكوم بالحوار مع الآخر، سواء الحوار المباشر، أو عبر محاولة تحقيق التجرّد الموضوعيّ للنّفس تجاه المؤثّرات الذاتيّة الخاصّة، والانفتاح على الآخر من خلال فكره ونتاجه..

إلى هنا، نستطيع أن نستخلص أنَّ إدارة الاختلاف ضرورة حياتيّة إنسانيّة، وليست خياراً تفرضه مرحلة دون أخرى، أو ظروف معيّنة..

بتعبيرٍ آخر: نفس فكرة وجود مختلف في الحياة، يفترض الانفتاح عليه، وبذل الجهد في كيفيَّة إدارة هذا الاختلاف من أجل تحويله إلى مجال غنىً.

وهنا تلعب القيم الإسلاميَّة الدَّور الأساس، إذا أردنا الحديث عن أخلاقيَّات إدارة الاختلاف مع الآخر؛ إذ إنَّ مبرّر طرح الأخلاق في أيّ أمرٍ، إنّما يرتكز إلى مبدأ ضرورة إدارة الاختلاف.

وهنا لا بدَّ من البحث عن مرجعيّةٍ إسلاميّةٍ جامعةٍ تحدّد لنا القيم الّتي نقيس على أساسها سلوكنا الاجتماعيّ، ونبني على أساسها مناهجنا التربويّة في هذا المجال.

هذه المرجعيّة هي القرآن الكريم بالدّرجة الأولى. ولسنا هنا نستبعد السنّة الشّريفة؛ لأنّها تمثّل المشترك الثّاني؛ ولكنّ القرآن الكريم يمتاز بعصمة نصّه، بينما السنّة قد تعاني من اختلافات معايير إثبات الصّدور، بما يعيدنا إلى الاختلاف المرجعيّ.. فعلى الأقلّ نقول: ينبغي أن تُطرح مرجعيّة القرآن كمرجعٍ أوّل، يتمّ من خلاله طرح ما ورد في السنّة كتأكيداتٍ للخطّ العامّ الّذي نكتشفه من خلال القرآن.

ولا بدَّ من الإشارة هنا، إلى أنَّ المرجعيَّة السَّائدة لدى الفريقين من المسلمين، السنّة والشّيعة، هي مرجعيّة نتاج العلماء؛ حتّى إنّنا نقرأ القرآن من خلال نتاجهم، وكذلك المشهورات.. ومن الواضح أنّ النتاج ذاك هو نتاجٌ مأزومٌ في ما خصّ إدارة الاختلاف؛ وفي الأزمة، لا بدّ من أن نرجع إلى المرجعيّة الأساس لنقيس عليها واقعنا، كما نقيّم على أساسها نتاجهم، مما قد نوافقهم في بعضه، ونختلف معهم في بعضٍ آخر.

وسأطرح عدّة نقاطٍ سريعةٍ كتطبيقات:
 

  1. الابتعاد عن مذهبة القيم الأخلاقيّة
    لو تأمّلنا في تعاملنا الأخلاقيّ، لوجدنا أنّنا بتنا نحصر الأخلاق في دائرة المذهب؛ حتّى حصرنا بعض العناوين العامّة الّتي أتى بها القرآن لتشمل الخاصّة دون العامّة؛ فوجدنا بعض من يقول إنَّ المؤمن يُقصد به المنتمي إلى المذهب الخاصّ تبعاً لتعقيداتٍ اجتهاديّةٍ عديدة، وهذا ما ألقى بظلاله على الممارسة العمليّة، أو وجهتها على الأقلّ..

    المطلوب هو العودة إلى المصطلح القرآنيّ؛ فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: 10]، وفي آيةٍ أخرى يقول: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[الحجرات:14]؛ فالمؤمن هو كلّ من دخل الإسلام عن قناعة، في مقابل المنافقين الّذين دخلوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم.. ولو تأمّلت في واقعنا اليوم، لوجدت أنّ المسلم الشّيعيّ يرى الشّيعيّ غير المتديّن أقرب إليه من السنّي المتديّن، والمسلم السنّيّ يرى السنّيّ غير المتديّن أقرب إليه من الشّيعيّ المتديّن؛ تماماً كما هو منطق أهل الكتاب الّذين حدّثنا عنهم القرآن، أنّهم كانوا يقولون عن المشركين: {هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[النّساء:51].

    أعتقد أنّ المشكلة تبدأ من هنا؛ لأنَّ هذا المنطلق يعطي زخماً كبيراً للبساطة في تحديد القيم الإسلاميّة، بعيداً عن تعقيدات التّاريخ ونتاج العلماء الّذي أخذ كثيراً بآليّات الجدل لتبرير الانقسامات الواقعيّة.. فالمؤمن أخو المؤمن ـ سواء أكان سنّياً أم شيعيّاً أم غيرهما ـ لا يظلمه ولا يشتمه.. وإنّ حرمة دماء المؤمنين ـ إلى أيّ مذهبٍ انتموا ـ وأعراضهم وأموالهم مصانة بوصيّة رسول الله(ص).. وهكذا تنطلق آداب الإسلام في القول الحسن، والدّفع بالّتي هي أحسن، وصون الآخر وحفظه في حضوره وغيبته، ونفسه وأهله وماله، فلا يغتاب بعضنا بعضاً، ولا يسخر قوم من قوم، وما إلى ذلك ممّا يعيد التّماسك إلى المجتمع الإسلاميّ الإيمانيّ، بحيث يكون التوجّه الخاشع إلى الله من خلال الإيمان، هو العنصر الّذي يجمع ولا يفرّق.
     

  2. منطق العدالة
    من الواضح أنّ القرآن الكريم أسّس للعدالة مع الآخر بوصفها ثابتة الثّوابت؛ ولذلك لم يفرّق فيها بين العدل مع الصّديق والعدل مع العدوّ، مع القريب والبعيد، مع المتّفق ومع المختلِف.. هي وظيفة ورؤية وروحيّة تنشأ من الذّات وتنبع منها، ولا تنظر إلى من تتوجّه إليه؛ لأنّ مقابلها هو الظّلم..

    قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[المائدة:8]، وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}[الأنعام:152]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ}[النّساء:135]، وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ}[المجادلة:22].

    نحن في تعاطينا العام مع الآخر، نميل إلى تصديق كلّ ما ينقل عنه من سلبيّات، تاريخيّة وغير تاريخيّة، وإلى تصديق كلّ ما ينقل إلينا من إيجابيات، تاريخيّة وغير تاريخيّة، عن أنفسنا. وأيضاً نميل إلى تكذيب كلّ ما ينسب إلينا من سلبيّات حتى لو كانت ثابتة، وإلى تكذيب كلّ ما ينسب إلى الآخر من إيجابيّات حتى لو كانت ثابتة.. ولذلك بتنا نخاف، كلٌّ في مجاله المذهبيّ، أن نأتي بحديثٍ أو منقبةٍ للآخر، وإذا ذكرنا ذلك عمّينا عن الفاعل؛ مع أنّه مهما كان رأينا في بعض الجوانب، فإن هذا لا يُلغي الجوانب الأخرى.

    ومنطق العدالة يفضي أيضاً إلى إحلال الحسّ العلميّ والموضوعيّة في التّعاطي مع نتاج الآخر العلميّ، على قاعدة حركة الأدلّة والبراهين، على هدى قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:111]. وذلك لأنّ السّائد من طريقة التعاطي مع النّتاج الفكريّ للآخر، أن ننسبه إلى الجهل في ما يخصّ الأمور الّتي نجدها واضحة؛ ولذلك نعمد إلى آليّات الجدل الّتي تستهدف تسجيل النّقاط أكثر ممّا تستهدف البحث العلميّ الرّصين والمستند إلى قواعد علميّة، مع أنَّ البحث العلميّ لا يمكن أن يكون بحثاً علميّاً إذا استبعد الآخر ونتاجه.

    ولذلك رأينا في منهجنا أننا نستبعد المجاميع الحديثيّة الّتي يرويها كلّ فريق، عن النبيّ (ص) أو عن الصّحابة أو التّابعين؛ وهذا الأمر يحتاج إلى توقّف؛ لأنّه مخالفٌ حتّى للقواعد الّتي نتبنّاها في التَّوثيق العامّ؛ فإذا كان المبدأ أنَّ الاتّفاق في المذهب ليس شرطاً في قبول الرّواية، بل وثاقة الرّاوي أو وثاقة المضمون؛ فالمنطق العلميّ يفرض أن نبحث علميّاً كلّ الأحاديث الواردة لدى الطّرف الآخر، بدءاً من أرباب المجاميع الحديثيّة، وصولاً إلى الرّواة أنفسهم؛ وبذلك لا يكون البحث الفقهيّ المقارن مجرّد ترفٍ فكريّ؛ بل هو منهجٌ علميّ يرتكب مخالفةً علميّة في بحثه تسجّل عليه..

    وللمناسبة؛ نعتقد، نحن المسلمين الشّيعة، أنّه ليس لدينا كتب صحاح؛ بل لدينا كتب جمع أصحابها الأحاديث الّتي منها الصّحيح والضّعيف، ومنها المسند والمرسل، والثّابت والمكذوب.. ونعتقد أنّ الجهد العلميّ في التّوثيق، لا بدّ من أن يتّجه إلى البحث السنديّ في الرّواية، إضافةً إلى البحث المضمونيّ؛ وأهمّ عناصره، أن لا يخالف الحديث كتاب الله عزّ وجلّ.. هذه نقطة جديرة بالتأمّل لدى المسلمين جميعاً؛ بمعنى: هل إنّ توثيق صاحب الكتاب، يؤدّي إلى مشاركته في وجهة نظره في التَّوثيق.. هي مجرَّد نقطةٍ لإثارة التأمّل وبحثها في مجالٍ آخر.
     

  3. عدم إضاعة العنوان الجامع
    لقد حدّثنا الله تعالى عن إبراهيم (ع) قائلاً: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ}[الحجّ:78].. ولذلك يجب علينا كمسلمين، أن لا نضيّع العنوان الإسلاميّ في مداولاتنا؛ فنحن لسنا شيعةً ولا سنّة، نحن مسلمون.. والشّيعيّة والسنّيّة منهج وطريق إلى الإسلام..

    وهذا الأمر هو الّذي يدفعنا إلى وعي موقعنا من التحدّيات الكبرى الّتي تواجهنا كمسلمين؛ والعالم اليوم تداعى إلينا كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، ليس من قلّة، بل إنّنا كثير؛ فنحن مليار ونصف مليار مسلم في العالم؛ ولكنّنا "غثاءٌ كغثاء السيل" كما قال رسول الله(ص)، وبعض المسلمين يرى في تهديد المسلمين الآخرين تهديداً بعيداً عنهم، فهل إنّه إذا توجّهت حركة السياسة الاستكباريّة إلى المسلمين الشّيعة، سيكون المسلمون السنّة بمنأى عنها، وإذا توجّهت إلى المسلمين السنّة، سيكون المسلمون الشّيعة بمنأى عنها وعن تأثيراتها؟!.. لقد توحّدنا على فلسطين، مع أنّ المجاهدين ينتمون إلى المذهب الآخر، وتوحّدنا على المقاومة في لبنان، مع أنَّ عنوانها العريض اليوم ينتمي إلى المذهب الآخر.. وعندما ضُرب العراق، ألقت مفاعيل الاحتلال السلبيّة فيه ظلالها على كلّ الواقع الإسلاميّ، وعندما ضربت أفغانستان كذلك، وإذا ما ضربت إيران فكذلك..

    هل يفرّق المستكبرون والمحتلّون اليوم بين مقاومةٍ سنّيةٍ للاحتلال ومقاومةٍ شيعيّة؛ أمّ أنّ الجميع في سلّة واحدة؟!

    أيّها الأخوة والأخوات: عندما حدَّد حلف شمال الأطلسي عدوَّه المفترض بعد انهيار الاتحاد السّوفياتي، كان هو الإسلام.. هل نتوقَّع أنَّ مراكز الدّراسات تتحرَّك لدى الغرب منذ ذلك الوقت كما تتحرَّك مراكز الدّراسات في عالمنا العربيّ والإسلاميّ؟! أمّ أنَّ الوجهة يحدِّدها القادة السياسيّون، لتبدأ مراكز الدِّراسات بإعداد الخطط والأبحاث، والّتي رأينا أنَّ كلّ الوقائع تشير إلى أنّ الهدف هو تفتيت هذا العالم الإسلاميّ، الّذي يؤمن بالله وحده إلهاً، وبمحمّد نبيّاً، ولا يهمّ الغرب المستكبر إذا كنا نرى أنّ عليّاً هو الخليفة أو أبا بكر.. المهمّ عندهم أن لا ننطلق في الواقع بقيم الإسلام، لنواجه المستكبرين على هدي قوله تعالى: {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113]، وعلى هدى قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}[الأنفال:25].

    مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
    التاريخ: 9 محرّم 1432 هـ الموافق: 15/12/2010 م

     

 Back Home NextBack to Home Pagego to top of page