Back Home Next

سقوط عرش الآلهة

دراسة في فلسفة نهاية التاريخ

آراء الكاتب

بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي

dr-albayati50@hotmail.co.uk

http://al-muammal.blogspot.com

توطئة:

يقدم الترابط الوجودي بين الانسان ككيان متفرد وكمخلوق يمتلك اصلا يعكس ارتباطه بالتكوين الوجودي للارض من موقف المنشأ (الخلقة)، ومن جانب التلازم وبين نشأته واستمراره عليها، نوعا من التكامل بين الانسان والارض، وهو تكامل نفس وعقلي اضافة للشكل الوجودي من ناحية ان البناء المادي للانسان يعتمد على مادة الارض، ومن هنا يصبح من العسير على الانسان التخلي عن هذه العلاقة والانفصال عن اصله الارض ما لم يمتلك وعيا حسيا عاليا بكون ان الوجود المادي ما هو إلا وعاء للوجود الروحي والنفسي. 

من هنا ايضا ندرك مسألة تشبث اصحاب النزعة المادية بالبقاء الى ما لا نهاية لا نهم اعتبروا الوجود المادي فوق الوجود الروحي والعقلي. فاذا كانت الرغبة بالخلد قضية نفسية وطبيعة انسانية فانها في منظور العديد من اصحاب النزعة المادية في الحكم، قضية أصيلة غير قابلة للتغيير، ولا يمكن التفاوض عليها.

ولعل الحكام العرب (ملوكا وامراء ورؤساء) يمثلون اصدق موقف لهذه النظرة، ففي الوقت الذي تتبنى فيه الامة موقفا تحرريا يتطلع للمستقبل من خلال التأكيد على المثل العليا، نجد الحكام العرب بلا استثناء يتشبثون بمثل متدنية حاولوا على الدوام تبنيها كمثل عليا ومن هنا فهم لم يرتقوا فوق سطح الضحالة الفكرية. 

مخلوق أم آلهة:

قال تعالى في اصل خلقة الانسان:

"ألذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الانسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين". السجدة/7-8.

 وقال:

 "قال ما منعك إلا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين" الاعراف/12.

ويقول ايضا في تأكيد ضئآلة منشأ الانسان:

"من نطفة اذا تمنى". النجم/46.

ويقول ايضا:

"ألم يك نطفة من مني يمنى". القيامة/37.

فالغاية هنا تبيان حالتين:

  1. الاولى: ضئآلة أصل الانسان، 

  2. الثانية: طبيعة نشأته وتطورها.

والله عزوجل يبين هذه الحالة لكي يدرك الانسان حجمه وأصله فلا يتكبر، فارتباط الانسان بالطين يقدم رؤية فلسفية في ضئألة مادة الخلق ليدرك انه من جوهر بسيط وعليه ان يدرك معنى ذلك ادراكا واعيا يؤسس لموقف فلسفي من الحياة، فالتقدم والغنى والتنامي الحضاري والفكري لا يمثل انفصالا عن التكوين الاصلي للانسان بقدر ما يمثل القدرة التي وهبها الله له في تطوير البناء الحياتي والوجودي في ضوء التفاعل مع المحيط ووفق منهج العلاقات الترابطية والتكافلية في الحياة.

إن ضئالة شأن المادة التي خلق الله منها الانسان الاول (آدم عليه السلام) لا تختلف عن ضئالة المني الذي جعل منه سلالة بني آدم، مما يعني ان على الانسان ان ينشأ وعيا في فهوم نشأته مما لا يسمح له بالتجاوز على هذه الطبيعة التكوينية التي ارادها الله لتكون تأصيلا لحقيقة الانسان التكوينية.

إن التجاهل المتعمد للحقيقة التكوينية للانسان صنعت تباينا بين طبيعته التكوينية ومنهجه في علم السلوك، فالانسان الذي يتجاهل الاصل التكويني له يحاول على الدوام السعي في مجال الخلود والاستمرار بالحياة الى ما لا نهاية، وهو بذلك سيتجاوز كل المعايير الانسانية والاخلاقية والفكرية في سبيل الحصول على الخلود الدنيوي ناسيا ان الدنيا كعالم محدد لا تنطبق عليه معايير الخلود، بل ان مسيرة الحياة الدنيوية منذ البدء لم تكن لتعني بالخلود او لتقدم دليلا عليه. فالخلود يعني الغياب الكلي للعوامل المؤدية الى الفناء، في حين ان كل ما يحيط بالحياة يمثل عنصرا من عناصر الفناء، وبالتالي فلا خلود في اي جانب من جوانب الحياة إلا ما نسميه بالخلود المعنوي (استمرار الافكار والنظم والمناهج العقلية والاخلاقية بشرط ان تكون وفق المعيارية الالهية. 

من هنا جاءت المعيارية الالهية في في تبيان علاقة الانسان بالخالق تعالى شأنه ففي قوله:

"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن اكرمكم عند الله أتقاكم". الحجرات/13.

نلاحظ هنا ان التوصيف لعلاقة الانسان بالخالق يتخذ موقفا روحيا وعقلانيا واخلاقيا بعيدا تماما عن الشكل المادي للعلاقة، فالله عزوجل لم يحدد علاقته بالمخلوق من وفق اطر الفلسفة المادية (المال، الجمال، القوة، الكثرة) ولكنه تعالى حددها وفق التكامل الروحي للانسان مرورا بكل القيم الالهية العليا (الاسلام، الايمان، الاخلاص، التقوى)، فالمثل العليا فالاسلام ليس دينا فقط بل هو منظومة للمثل العليا وهي تتكامل في مراتبها وصولا الى الايمان وهذا يتكامل في مراتبه وصولا للاخلاص وهكذا تستمر اشراقات المثل العليا في مساراتها العلوية. 

ومن هنا فان الاسلام كوحده فكرية لا يمثل فقط حقيقة العلاقة بين الانسان والله ولكنه يمثل مبتدأ العلاقة، ولكن قيمته تنتفي إذا أغرق مفهومه في الضحالة الفكرية عند البعض، او اذا تم تماهت فكرته مع الشكل المادي ولهذا قال عزوجل:

"قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من اعمالكم شيئا أن الله غفور رحيم". الحجرات/14.

فالقرآن العزيز يدحض الفكرة القائلة بوجوب طاعة الحاكم المسلم والامتثال لاوامره بدون نقاش حتى وان افسد وقتل الشعب او سلبهم حقوقهم وانتهك حرماتهم، فالاسلام بحد ذاته لا يمثل قيمة كافية بوعي الحقيقة الالهية والاكتفاء بالمنظور الاسلامي كمنظور عام لا يغني، فلا يمكن لأسلام مادي ان يمثل الحقيقة الالهية بل هو سيمثل قناعا يختفي خلفه فساد الحكام وبطانتهم. واذا اراد هؤلاء ان يكونوا مسلمين حقيقيين فعليهم الانتقال فعليا الى القيم والمثل العليا للاسلام والارتقاء بالفكرة في عقولهم وسلوكهم الى مرتبة الايمان على الاقل. 

إن محاولة الملوك والحكام في البقاء الى ما لا نهاية لا يمثل فقط رغبة مستديمة في الخلود والاستمرار في السلطة، ولكنه من جانب واقعي يمثل عملية هروب الى الامام خوفا من العقاب الآني الذي تطالب به شعوبهم متجاهلين ان ذلك لا يجدي نفعا امام العقاب الالهي المنتظر. 

لا شك ان رغبة الملوك والحكام بالاستمرار في السلطة يمثل من جانب آخر تماهيا مع موقف مدعي الالوهية من الملوك والاباطرة على مسار حركة التاريخ، ويمكن اعتبارها حالة فرعونية ترفض الانكفاء او الايمان بامكانية الفناء.

 سقوط العروش:

يتأسس الموقف الفلسفي لوجود الانسان من فكرة حقيقة وجوده وعلاقته بالوجودات الاخرى عبر التساؤل الاكثر تحديدا: " هل الانسان خالق أم مخلوق "؟ والجواب فان لم يكون خالقا لهذا الوجود فهو بالتأكيد (مخلوق) وبالتالي فكل ما هو مخلوق او ما نسميه (محدث) بضم الاول، يعني بالتأكيد انه فان وغير خالد. فالتبدل والتحول من طبيعة السنن الدنيوية والبقاء والخلود من سنن الاخرة، فحتى عيسى والخضر والياس سيموتون حين يشاء الله ليبعثوا من جديد ليوم الحساب. 

كان يفترض ان يكون الإيمان بهذه الفكرة كاف وحده لأن يتعلم الانسان كيفية التعامل مع الحياة! لكن هيهات فالنزعة في الاستمرار تتجاوز حدود العقل وبالتالي ستبقى لدى البعض رغبة لا متناهية في البقاء خاصة ممن يصل الى السلطة، ومن هنا نجد تلك الدهشة القاتلة والناتجة عن ترسخ فكرة الخلود في نفوس وعقول الحكام عندما تحين لحظة السقوط، فالشاه وصدام مبارك وبن علي والقذافي وكل حكام الخليج وقعوا وسيقع الباقي منهم تحت وطأة التعجب حد الرفض في لحظة السقوط.

ولذلك يمكن اعتبار (بلقيس) وعرشها مثالا واقعيا على تردي فكرة الخلود الدنيوي، فبلقيس التي ارادت لعظمة عرشها حتى ضرب الله به مثلا ان يكون عنوانا لقوتها وجبروتها ومنظومتها في السلطة، لكن الله عزوجل اراد ان يكشف تفاهة هذه العظمة المزعومة امام القدرة الالهية الموهوبة لبعض عباده، فعفريت الجن كان سيأتي به في فسحة نهار من الزمن، والذي عنده علم من الكتاب جاء به في طرفة عين!! فأي عظمة لبلقيس وعرشها وما تمثله؟!

لا شك ان ضحالة التفكير المادي والارتباط اللامتناهي بالرغبات الدنيوية قد استلب القيم العليا في ذهنية الملوك والامراء والحكام، واحل محلها قيما سفلى لم تتمكن من تقديم تفسير عقلاني لعلاقة الملوك وعروشهم بالحياة.

يقول الحق سبحانه:

 "قل اللهم ماللك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيثء قدير". آل عمران/26.

ويقول ايضا:

 "وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون". الانبياء/34.

فلا ملك (بضم الميم) سيبقى ولا هم مخلدين في الدنيا، فيا عجبا من ضحالة تفكيرهم وجهالة منطقهم ولذا فلا عجب من نهايتهم وسوء منقلبهم.

...............................

·        تمثل هذه الدراسة جزءا من مخطوطة بحوث لكتاب بنفس العنوان للباحث البياتي، وفيه يحلل الظروف التاسيسية المؤدية الى فكرة الخلود وتشبث الحكام بالسلطة والتحولات الدكتاتورية.

 

 Back Home Next