نضوج الرؤية التحررية في المجتمعات الانسانية
دراسة في فلسفة نهاية التاريخ
آراء الكاتب
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.co.uk
http://al-muammal.blogspot.com
توطئة في المنظور
الثوري:
يتشكل المنظور الثوري في ذهنية الافراد والمجتمعات وفق آليات تنبع من الحاجة المستمرة للتغيير باعتبارها جزء من الانفعلات الفكرية
والوجدانية التي تمثل بعض عناصر الشخصية الفردية التي تلقي ضوئها على التأسيس لشخصية المجتمع. كما انه قد يمثل ردا على حالة الانحراف الفردي والجمعي في المجتمعات الاكثر سعة والتي
تكشف عن تباين فكري واجتماعي واقتصادي كبير. فالمجتمعات عادة تكتسب شخصيتها من ذهنية الشخصية الفردية وبالذات ذهنية الافراد الذين حملون رؤية عقلية متقدمة، وهذا ما ظهر منذ بدايات
التاريخ حيث ان الذي يقود العقل الاجتماعي بالاتجاه الرصين هم الانبياء والرسل وأوصياهم كافراد تمثلت بهم خلاصة المثل العليا.
ذكرنا في دراسات سابقبة ان رد (هابيل) عليه السلام برفض المساس باخيه (قابيل) كان يمثل شكلا ثوريا في رفض سلبية التفكير ومنهج العنف الذي
قاده قابيل كأول قاتل بشري في جنس بني آدم.
أما بالنسبة للديانات السماوية فانها قد قادت حركة تغييرية متقدمة مثلت منهجا عقلانيا في مقارعة الظلم وفي تحقيق الغايات الالهية في
تفسير العلاقات بين الانسان والخالق وبين الانسان وبقية الوجودات، وهذا ما اشرنا اليه بشكل مفصل في دراساتنا في فلسفة التشريع الاسلامي.
باعتبار اننا نتحدث في هذه المرحلة من حركة التاريخ الكوني مما يعني اعترافنا بوجود تاريخ كوني ووجودي سابق، وما خلق آدم عليه
السلام وهبوطه إلا مرحلة من مراحله وشكلا من اشكال الخلق اللامتناهي. وفي ضوء هذا المعنى قال الله عزوجل:
"وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ
فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".
(1) |
فالفساد كان قد وقع على الارض مما اوجد حاجة كونية لخلق مخلص أو مجموعة من المخلصين يقودون عملية التغيير وفق المنهج الالهي. ومن هنا فان
اي منهج تغييري او اصلاحي وفق الفكر الوضعي سوف لا يكتب له الدوام والاستمرار ولن يكون قادرا على تأسيس نظرية منهجية قادرة على تقديم اصلاح شمولي وجذري كما انه لن يكون قادراً على
استنهاض الوعي الجمعي للمجتمع البشري.
النبوات رسالات اصلاحية:
إتخذت النبوات منذ البداية موقفا تأسيسيا من الحياة وفق المنظور الالهي، فالدعوة الى الله تمثل منهجا لتنظيم العلاقة بين المخلوق والخالق
من جانب، باعتبارها القانون الاول الذي يؤسس لمنظومة العلاقات اللامتناهية، ولتشكيل منهجاً لفهم القيم العليا للوجود.
فحدد هذه العلاقة بالتقوى كقيمة علوية هي نتاج لتراكم معرفي على المستويات الانسانية والفكرية والاخلاقية تتبع منهج التوحيد فقال عزوجل:
"لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ".
(2)
"وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
أَفَلاَ تَتَّقُونَ ".
(3) |
من هنا تصبح الدعوة الى الله منهجا في استنهاض الوعي الفردي والجمعي لتحقيق مسيرة الخروج من ضحالة المثل الدنيا الى حقيقة المثل العليا
كما ذكرنا في العديد من دراساتنا السابقة، وإذا كانت التقوى تمثل تراكما معرفيا باتجاه الحق فانها بدورها لا يمكن ان تتحقق إلا بتنامي الحقيقة الواعية تناميا مطردا يتم من خلال تكريس
الانسان لنفسة للانقياد الى الله وفق الشروط الالهية.
وأما تفسيرنا الفلسفي والتاريخي للنبوات والرسالات فنقول: "أنها نهضات ذات مصدر الهي لدفع
الفساد عن الارض ولأستنهاض الوعي الجمعي للجماعات البشرية من نسل نبي الله آدم عليه السلام". (4)
فموقف شعيب (ع) من السلوك الاجتماعي والاقتصادي في قومه يمثل دعوة لأصلاح العلاقات الاجتماعية والانسانية من جانب والاقتصادية من جانب
آخر:
" وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم أعبدوا الله مالكم من إله غيره قد جائتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل
والميزان ولا تبخسوا الناس أشيائهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين "
(5) |
لا شك ان موقف نبي الله شعيب (ع) كان موقفا اصلاحيا في الدعوة الى الله وتنظيم الحياة الانسانية بشكل سليم. وبما ان النبوات قد أسست
للعديد من السبل الاصلاحية فهي اولى بالاتباع كمنظومة عقائدية تنحو نحو اعادة ترتيب العلاقات بين عالمي الوجود والتكوين.
طغيان الموروث الملكي:
في ضوء القانون الوضعي لشرعية الحكم، فان الحاكم يكتسب شرعيته من المجتمع بأعتبار انه يمثل نتاجا لعملية الانتخاب (في الظروف الطبيعية
لانتخابات نزيهة)، غير ان طغيان فكرة الموروث الملكي في الحكم جعل الجميع ملوكا وحكام جمهوريات يطمحمون في البقاء الى ما لا نهاية، ومن هنا فقد بدأ الكثير من الحكام ومنذ اكثر من نصف
قرن يتصرفون كملوك وأباطرة على الرغم من ان البعض منهم شارك في انهاء الانظمة الملكية في بلدانهم بشكل أو بآخر.
ومن اجل ذلك دعونا في الكثير من دراساتنا السابقة الى إدخال مناهج علم النفس والسلوك في الدراسات التاريخية والبيلوغرافية لتسليط الضوء
على الشخصيات التاريخية وبالتالي يمكن التأسيس لمناهج حديثة في فلسفة التاريخ وخاصة التاريخ الاسلامي.
لا شك أن السلوك الانساني المرتكز على نظرة الخلود يتصف بالكثير من الاشكال النرجسية، بل يمثل شكلا من الانغلاق على الذات، وقد تبدو هذه
النظرة في الاتجاه الاول في علم النفس كحالة طبيعية تمثل نتاجا مستمرا في الرغبة في البقاء والديمومة، لكنها في الجانب الاهم تعني تخليا عن التفاعلات الاجتماعية في سبيل الحفاظ على
الكينونة الآنية للانسان، فمحاولة الخلود تعني الانفصال عن المجتمع والتخلص من كل الظروف المؤدية الى الفناء والتي هي في الغالب نتاج التفاعلات الاجتماعية، وهذا بدوره سيعني إنكفاءاً
على الذات. فالملوك المعاصرين هم ابعد ما يكون عن الواقع الاجتماعي، وتنحصر علاقاتهم في الدائرة التي تديم استمرارية البقاء في السلطة وهي الدائرة الاضيق،
المجتمع وقضية الوعي التحرري:
إذا كانت الحرية حق الهي تلطف به على عباده وفق شروط العلاقة بين المخلوق والخالق بإعتبارها عملية تكاملية تنحو نحو تحقيق سعادة البشر،
فأنها من جانب آخر قضية تتعلق بالوعي كموقف عقلي، وبالنزعة الانسانية نحو الاستقلال من جانب نفسي، وإذا كان مفهوم التحرر يتفق ومصطلح اللاسلطوية (6)، فهو لا يعني الفوضى (7) أو
العدمية، وفي تقديري ان هذه التصنيفات هي
نتاج للانظمة الحاكمة نفسها وهي بالتالي لاتعني حقيقة الفوضى المخربة، كما أرادت الدكتاتوريات توصيفها لنا، بل تعني عدم الالتزام بمنظومة الحكم الدكتاتوري الذي اطلق على اتباع
اللاسلطة بالفوضويين. وقد تنبه فلاسفة الغرب المعاصرين (الليبراليين الجدد أو اليمين الجديد) لهذه القضية فحاولوا الاستفادة من هذا المعنى من خلال تقديم نظرية (الفوضى الخلاقة).
بإعتبار أن وجود مجتمع لا يخضع للسلطة سيؤدي الى حالة من العدمية تقود الى محاولة تقديم منظور جديد عبر تراكم تجريبي غير منضبط يقود الى حالة من التوازن بعد تلاشي عناصر التناقض.
غير ان المفهوم الاسلامي للتحرر كقضية فكرية وانسانية وكفعل سياسي يتناقض فلسفيا مع الفوضى أو العدمية، وقد وجدت من خلال دراساتي أن
الفكر الاسلامي ينظر للتحرر باعتباره عملية لاعادة تشكيل الوعي الجمعي ولتطوير منظومة الحكم بعيدا عن المفاهيم السلبية للسلطة لعدة من الاعتبارات منها:
الاول: ان الله عزوجل ينفي العبث واللهو
عن نفسه وعن علية الوجود:
"
لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ "
(8)
" أفحسبتم أنما خقلناكم عبثا وانكم الينا لا ترجعون " (9) |
الثاني: أنه تعالى حمل الانسان مسؤولية
العمل وإعمار الارض وفق الشروط الالهية:
" وقل إعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون
الى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون " (10) |
وفي هذا الجانب فانه يمكن اعتبار نهضة الامام الحسين عليه السلام عملا تحرريا بإعتبارها حركة ضد الظلم والفساد ومركزية السلطة، وأنها
مثلت استيعابا كليا للفكر الاسلامي، حيث استطاع الحسين (ع) من خلالها تجسيد العلاقة بين الانسان والعقيدة في عصر سعت فيه السلطة الى ترييف الاصالة الاسلامية.
أتباع الوعي السلبي:
لا شك ان السلطات الحاكمة تساهم بشكل أو آخر في تعميق إشكاليات الوعي الجمعي من خلال استغلال نفوذها في في نشر الوعي السلبي عبر تبنيها
لمجموعة من القيم والمثل المنحطة وإيهام المجتمعات بانها قيم عليا كما تفعل السعودية والدول العربية على الخليج الفارسي، فالحركة الوهابية كحركة منحرفة عن الاصالة الرسالية قد قدمت
صورة مشوهة عن الاسلام وتبنت مثلاً دنيوية واعتبرتها اصيلة، في حين أنها حاربت في المقابل المثل العليا ومنعت من التعاطي معها او ممارستها، ولعل تهديمها للاثار النبوية والرسالية في
مكة والمدينة ومنعها من ممارسة الشعائر الالهية، يقدم صورة واقعية عن عقلية الحركة الوهابية ومحاولتها افشاء هذه الفكرة اجتماعيا مما يعني نشر الوعي السلبي. (11)
من هنا نفهم علة تكاتف قوى اتباع الوعي السلبي ممثلة بالنظام السعودي من اجل تقويض التدافع الايجابي للوعي الاسلامي المعاصر ولاجهاض
الثورات الشعبية المتتابعة، فالنظام السعودي الوهابي يدافع عن ثوار ليبيا، ويحرض على الثورة في سوريا، وفي المقابل يقتل ابناء الجزيرة ويقمع ثورتهم ويرسل الجيوش لقمع القورة السلمية
في البحرين مما يعكس تناقضا في الوعي وتباينا في فهم المنظور الثوري، وهذا يقدم دليلا على طبيعة منهجها التكفيري المنحط.
وفي لبنان يحاول الحريري الصغير القاء اللوم على ايران عبر تخويف المنطقة من التقدم الايراني العلمي والسياسي والعسكري ويتهم حزب الله
بمحاولته تحويل لبنان لمستعمرة ايرانية لكنه في المقابل وفي خطاب وطني امام تجمع من مؤيدية يقف تحت بوستر كبير بارتفاع عدة طوابق لملك السعودية في محاولة بائسة ليقول ان السعودية من
ورائي، في حين ان المخابرات السعودية ذاتها بدأت تجد في الحريري الصغير ورقة خاسرة، وشخصية هزيلة امام رصانة وتماسك الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. (12)
لقد استطاع نصر الله ان يؤسس وعيا متناميا عبر تراكم الحقائق وصدقية الخطاب السياسي، حتى ان المجتمع الاسرائيلي بات يثق بكلام نصر الله
وبطبيعة تحليلاته او تهديداته على السواء كما تقول صحيفة (يديعوت احرونوت) مقابل اخفاق القيادات الاسرائيلي العسكرية في تقييمها للمواقف الاستراتيجية. وهنا تظهر عناصر مهمة للتقييم:
1-
فشل السعودية في حربها مع الحوثيين على الرغم من التفوق العسكري والتقني.
2-
تهاوي منظومة المال السعودي وفشلها الذريع في فرض الحريري الصغير على الساحة اللبنانية امام قوة استراتيجية حزب الله السياسية والعسكرية.
3-
تكشف طبيعة المنهج الوهابي والعقلية الطائفية في ارسال ما يسمى بدرج الجزيرة لمواجهة الحركة السلمية للشباب البحرين مما يعكس حجم المخاوف السعودية من تنامي
الوعي الثوري في الخليج الفارسي.
4-
ظهور حقيقة التسليح السعودي وطبيعة صفقات الاسلحة بمليارات الدولارات والتي لم تستعمل لمواجهة اسرائيل العدو الاول للعرب والمسلمين واستعملت لمواجهة ابناء
المجتمع العربي في الحرب مع الحوثيين ومواجهة شباب البحرين، وهذا يطرح تساؤلات لا تنتهي عن صفقات الاسلحة السعودية خاصة والخليجية عامة، إذ لم نرى اي مساندة عسكرية للدفاع عن غزة او
لمساعدة حزب الله في حربه مع اسرائيل بل شاهدنا العكس تماما.
5-
في المقابل هناك مواقف حزب الله وايران وسوريا في مواجهة العدوان الاسرائيلي وفي دعم نهضات التحرر العربي ككل.
6-
تخوف السعودية ومن يدور في فلكها من تنامي نزعة الوعي الايجابي وارتباكها في مواجهة هذه المواقف مما يعكس حالة من عدم اليقين وصلت الى حد استعمال العنف
والقتل والرشاوى، وليس آخرا عبر التحريض من خلال فتاوى فقهاء السلاطين.
ووفق هذه الحقائق ندرك تهاوي منظومة الوعي السلبي فالمال السعودي لايمتلك قيمة عليا في منظور تنامي نزعة الوعي الايجابي، والسعودية
العجوز المتصابية غير قادرة على مواجهة الفكر الشاب المتنور، فكل مساحيق التجميل لن تعيد الشباب للوجه الهرم، والسعودية وهي ترأس المنظومة السلبية تخسر في كل ثانية أعواما من عمرها
الافتراضي الذي لم يبقى منه إلا اجزاء من الثانية.
............................
1-
البقرة/30.
2-
الاعراف/59.
3-
الاعراف/65.
4-
البياتي، أ.د. وليد سعيد، فلسفة التاريخ/المقدمة.
5-
الاعراف/85.
6- اللاسلطوية:(Anachism)،
مصطلح سياسي مشتق من اليونانية يعني يعني بدون حاكم أو ملك. وقد تعني مجموعة الاحزاب او التنظيمات التي تسعى لانهاء السلكة المركزية. راجع القاموس السياسي.
7-
الفوضى: (Chaos)،
مصطلح استعمل لاغراض سياسية وصار يعني اللانظامية (Anomie).
المصدر السابق.
8-
الانبياء/17.
9-
المؤمنون/115.
10-التوبة/105.
11-البياتي، أ.د. وليد سعيد. محاضرات حول تدمير الاثار الاسلامية في مكة والمدينة.
12-البياتي، أ.د. ولي سعيد. نهاية التاريخ: 2/215.