ان الواثق من نفسه لا يتزعزع ايمانه او
يقينه او موقفه، أوقع على الموت ام وقع الموت عليه، التف الناس حوله ام تركوه وحيدا، نصره المجتمع ام خذله؟ حقق نصرا ماديا ام
لم يحقق؟ فالنصر، في المفهوم الزينبي، هو نصر الارادة التي يجب ان تكسر، وليس النصر المادي، ولذلك لم يجانب الحقيقة من قال (ان
في عاشوراء انتصر الدم على السيف) الدم بما يمثل من رمزية معنوية وروحية وعاطفية تميل الى الحق اين ما مال، على السيف بما يمثل
من رمزية مادية دنيوية غشومة ظالمة تميل مع الباطل ومع اغراءات الطاغوت وترغيباته وترهيباته اينما مالت.
ان اعظم درس نتعلمه من العقيلة زينب عليها
السلام هو الوقار عند الهزائز، وعدم فقدان الاتزان
والتوازن، والذي ينتجه الصبر الذي ينتجه اليقين والثقة
وعمق الايمان.
لماذا ترانا نفقد توازننا في اول مواجهة مع
الظالم؟ بل لماذا ترانا نفقد توازننا بمجرد ان نختلف مع بعضنا؟ لماذا ننجر الى الباطل في اول خطأ يرتكبه الاخر بحقنا؟ لماذا
ننهار امام ابسط اغراء يقدمه الطاغوت او امام اول تهديد نسمعه منه؟ لماذا لا نتعلم كيف نحافظ على تماسكنا عند الخلاف والاختلاف؟
لماذا نلجأ، مع كل اختلاف في وجهات النظر، الى سياسة التسقيط والشتائم وكشف الاسرار ونشر الغسيل وتجبين بعضنا البعض الاخر؟.
لماذا لا نتعلم من زينب الكبرى عليها
السلام كيف نضبط ردود افعالنا عند الخلاف والاختلاف، فلا يجرنا باطل الاخر الى ان نخرج من الحق؟.
لقد عشنا في العراق مؤخرا مثلان لهذا الانهيار القيمي والاخلاقي،
الاول عندما اختلفنا في الراي بشان بعض
الشعائر الحسينية، بين مؤيد ومخالف، وهذا امر طبيعي جدا، وهو ليس بجديد في الساحة الشيعية، ولكن الجديد المخزي هو ان لا
يكتفي الطرفان بفتاواهم او بالكلام المؤيد او المخالف، وانما يستخدما الارجل والايدي والتنابز بالالقاب والسباب والشتائم
وغير ذلك مما يتنافى والوعي الحسيني الذي يرفض استخدام القوة لفرض الراي او اجبار الاخر على الاقتناع بما لا يؤمن به، فكلنا
نعرف بان الحسين السبط عليه السلام ظل يحاور القوم الى آخر لحظة في يوم عاشوراء، فرفض البدء بقتال وهو على يقين بان من
يقاتله سيخلد في نار جهنم، الا انه، بهذه الاخلاقيات والمناقبيات، اراد ان يعلمنا كيف نتعامل مع بعضنا وكيف نتحمل بعضنا
البعض الاخر وكيف نختلف وكيف نتفق وكيف نجتمع وكيف نفترق، فلماذا يتحول الاختلاف في وجهات النظر في اطار مدرسة واحدة الى
صراع والى اشتباك بالايدي والالسن؟ الا يكفينا ما نحن فيه من ازمات لنفتعل ازمات جديدة؟ الا يكفينا تحديات خارجية تهدد
كياننا وانتماءنا وهويتنا لنفتعل لانفسنا تحديات داخلية تذهب بريحنا وارادتنا ووحدتنا وقوتنا وتماسكنا اذا ما استمرت او
تكررت لا سامح الله؟.
ان على مراجع الدين وعلى الفقهاء
والعلماء، وان على المثقفين ان يحتووا الخلافات لا ان يصنعوها، وان عليهم ان يستوعبوا الساحة من اجل توحيدها وتنظيمها لا ان
يفعلوا ما يفرقها اكثر او يمزقها اكثر؟.
ان اخشى ما اخشاه هو ان يتحول الفقيه
الى سيف بيد الهمج الرعاع يهددون به من يختلف معه في الراي بالقتل والويل والثبور، لان مثل هذا السيف سيكرس الاستبداد
بنوعيه، الا وهما الاستبداد السياسي والاستبداد الديني، وهذا من اخطر ما يتعرض له المجتمع، اي مجتمع، فما بالك بالمجتمع
العراقي المسكون بالازمات والتحديات وكل انواع الاستبداد، بدءا من البيت والى السلطة السياسية مرورا بالمدرسة والشارع ومحل
العمل والجامعة والمسجد وغير ذلك.
فيا ايها العلماء والفقهاء والمراجع
والمثقفين وحملة الاقلام، رفقا بالعراقيين، فانهم اليوم بحاجة الى من يداوي جراحهم ويضمد نزيفهم لا ان يصب الملح على الجراح
ويعمق النزيف، بفتاوى اكل عليها الدهر وشرب، وبآراء لم تغن او تسمن من جوع.
اما المثل الثاني، فهو ما شهدته محافظة
الانبار عندما استغل بعض السفهاء حماس الجماهير ليدس انفه الطائفي في مسيرة الاحتجاج التي نظمها الاهالي مؤخرا.
ان التظاهر والاحتجاج والمسيرات
السلمية، كلها امور مندوبة اليوم في العراق الجديد، بل انها حقوق دستورية لكل مواطن عراقي يحاول التعبير عن رايه باية وسيلة
سلمية مناسبة، فليس في مسيرة الاحتجاج التي نظمها اهالي الرمادي اي ضير او ضرر لا على العراق ولا على شعب العراق، ولكن...
لماذا يجب ان تقفز الشعارات الطائفية
فجأة في وسط الاحتجاجات؟ لماذا لم يكتف المحتجون بالشعارات الوطنية؟ لماذا تركوا غربان الطائفية من الموتورين والحاقدين ومن
لف لفهم يرفعوا شعارات الطائفية البغيضة؟ لماذا تثيرنا الاجواء المشحونة فترى حتى عقلائنا ينجرون خلف الطائفية من حيث ارادوا
او لم يريدوا؟.
متى سنتعلم كيف نتعامل مع الازمات
السياسية بعيدا عن الطائفية والتمييز المذهبي والاثني؟ لماذا نعتبر خطأ المسؤول الشيعي خطأ الطائفة برمتها، وخطا المسؤول
السني خطأ الطائفة برمتها وخطا المسؤول العربي او الكردي خطا المكون باجمعه؟ لماذا هذا التعميم المنبوذ؟ اولم يقل رب العزة
{ولا تزر وازرة وزر اخرى}؟.
ان هذه اللغة لا تخدم العراق ابدا،
ويكذب من يدعي انه بمثل هذه الشعارات يعبر عن حرصه على العراق وشعبه ومستقبل اجياله.
ان مثل هذا عدو نفسه وعدو العراق
والعراقيين على حد سواء، ولذلك يجب على العراقيين ان لا ينجروا خلف امثاله من اجل ان لا يقعوا في الفخ، وذلك يتطلب ان نحافظ
على اتزاننا ووقارنا عند الخلاف والاختلاف، وعند التعبير عن قناعاتنا.
على العراقيين ان يعزلوا مثل هذه العناصر الطائفية المتشنجة، لنحمي البلاد والعباد من خطر الانزلاق الى التازيم الطائفي
مرة اخرى، فلقد جرب العراقيون ذلك من قبل فلم يحصدوا الا الندم آخرا، وما سياسات الطاغية الذليل صدام حسين الطائفية والعنصرية
ببعيدة عنا، ويتوهم من يتصور ان بامكانه العودة بالعراق الى سابق عهده فيعيد عقارب الزمن العراقي الى الخلف بمثل هذه التحشيدات
الطائفية والشعارات غير الوطنية، التي توظف العواطف النبيلة للشارع ليركب الموج بمجذاف الطائفية والعنصرية والتمييز.
لنستحضر الوطن ولنفعل ما نشاء ونقول ما
نشاء ونرفع من الشعارات ما نشاء، فليكن اتفاقنا وطنيا واختلافنا وطنيا وشعارنا وطنيا واحتجاجنا وطنيا، فذلك كله يخدم البلاد في
اطار الدستور والقانون.
ان من يوظف الخطاب الطائفي للتحريض ولاثارة
الفتنة من خلال استخدام الكلمات النابية التي يترفع القلم الشريف عن ذكرها انما يصف نفسه، وانا اربأ بنفسي هنا عن ذكر اوصافه.
تعالوا نتعلم من زينب عليها السلام كيف
نتعامل مع المحنة باخلاق راقية وادب جم وخطاب يقطر طهارة وايمانا بالقضية المقدسة، فالتسافل في الخطاب يضيع على المرء حقه مهما
كان الحق معه، لان الراي العام ينظر الى خطاب الرجال قبل ان يتفحص مواقفهم، ولذلك حرصت السيدة زينب عليها السلام على ان تظل
متماسكة منذ اللحظة الاولى التي اعقبت استشهاد اخيها سيد شباب اهل الجنة وحتى آخر لحظة من حياتها، فكم مرة حاول الطاغوت
(المنتصر ماديا) ان يستفزها لتنطق بما لا يقبله الذوق والعقل السليم، الا انها في كل مرة كانت تستوعب تحديه وتعيده حجرا تلقمه
به فيتراجع القهقري مخذولا مذموما.
قال لها طاغية الكوفة، عبيد الله بن زياد،
بعد ان وصلت اليها مع قافلة السبايا شامتا: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فردت {انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو
غيرنا} فقال لها الطاغية: كيف رايت صنع الله باخيك واهل بيتك؟ فاجابته بوقار وادب جم {ما رايت الا جميلا، هؤلاء قوم كتب الله
عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم، فانظر لمن يكون الفلج يومئذ، هبلتك امك يابن مرجانة}.
ان سبب تمردنا على القيم عند الخلاف والاختلاف هو التزمت والتعصب في الراي والموقف، وانعدام الوسطية والتوازن، واحتكار
الحقيقة، ولذلك نلاحظ ان الاسلام حث على الوسطية في القول والفعل، ودعا الى عدم احتكار الحقيقة باي شكل من الاشكال، وربما لهذا
السبب لا زال علماء المسلمين وفقهاءهم ومراجعهم يذيلون فتاواهم بعبارة (والله اعلم) والتي تشير الى ان الفتوى تحتمل الخطأ
والصواب، انما الواجب على الفقيه ان يبذل كل جهده المعرفي ويستفرغ كل طاقته العلمية للوصول الى افضل الآراء، من دون ان يعني ذلك
انه الحق والصواب بعينه، فما بالك بالحق المطلق؟.
ان اعظم قاعدة يجب ان نستذكرها دائما ونحن
نتحاور ويناقش بعضنا بعضا ونفتي وندلي براي، هو قول الله عز وجل في محكم كتابه الكريم {وانا او اياكم لعلى هدى او في ضلال مبين}
هذه القاعدة القرآنية التي تنفي الحق المطلق لاي انسان، كما انها تلغي فكرة احتكار الحقيقة من قبل احد، اي احد، هي التي يجب ان
تحكم علاقاتنا وتفاوتنا في الاراء والافكار والمتبنيات، من اجل ان لا يستعلي احد على احد ابدا، ظنا منه بانه يمتلك ناصية الحق
وغيره على باطل، ولذلك يجب قتاله حتى يفئ الى امر الله عز وجل.
ان من واجب الفقيه ان يبدي رايه الشرعي فقط
وليس عليه ان يفرضه على الاخرين، خاصة عامة الناس الذين لا يرجعون اليه بالتقليد، ومن المعلوم فان الفقيه الحاذق هو الذي يوظف
ادوات العلم والمعرفة عندما يناقش رايا او مسالة، بعيدا عن الاستهزاء والسباب والتهجم، لان كل ذلك له مردود عكسي على عملية
التاثير على الراي العام، اما ان يوظف او اتباعه، لا فرق، السلاح الابيض مثلا او التهديد والوعيد لفرض راي فقهي معين، فذلك ليس
من الانصاف في شئ كما انه ليس من الدين والعلم في شئ.
لقد اخبر مستشارو الامام امير المؤمنين علي
بن ابي طالب عليه السلام، وهو وقتها الخليفة المطاع والمبسوط اليد، اخبروه بان جماعة من المسلمين يؤدون صلاة التراويح جماعة في
مسجد الكوفة، فارسل لهم ولده السبط الحسن بن علي عليهما السلام ليمنعهم من ذلك قائلا له {أخبرهم بان امير المؤمنين يقول لكم بان
هذا الفعل حرام لا ينبغي لمؤمن فعله} فلقد حرم رسول الله (ص) اداء صلاة التراويح جماعة.
ذهب اليهم الحسن السبط عليه السلام ونقل
لهم راي الحاكم الاعلى في بلاد المسلمين، فكانت ردة فعلهم ان صرخوا بصوت عال وهبوا هبة رجل واحد قائلين (وا سنة عمراه) في اشارة
منهم الى ان الخليفة هذا يريد ان يمنعهم من سنة تعودوا عليها كان قد استنها لهم الخليفة الثاني.
عاد الحسن عليه السلام الى امير المؤمنين
عليه السلام ونقل له الموقف، فقال {دعهم وشانهم} فهو لم يبعث جماعته بالسكاكين لتخريب الصلاة في المسجد، كما انه لم يهدد باغلاق
المسجد اذا استمر المسلمون بذلك، او انه هدد بتدمير المسجد على رؤوس من فيه اذا ما كرروا الفعل الحرام في رايه الشرعي، ابدا،
بالاضافة الى انه عليه السلام لم يهدد احدا بالقتل او الاغتيال او اي شئ من هذا القبيل، اذا تمردوا على قراره ورايه الشرعي، لان
كل ذلك ليس من وسائل التغيير الاجتماعي ابدا، ونحن، اتباع مدرسة اهل البيت عليهم السلام، انما اختلفنا مع
مدرسة الصحابة، فيما اختلفنا، في هذه النقطة على وجه الخصوص، الا وهي ان العنف والاكراه والجبر والقتل والارغام ليست من ادوات
نشر الاسلام ابدا، وانها ليست من ادوات التغيير الاجتماعي باي شكل من الاشكال، وهي الادوات التي ظل يمارسها الامويون حتى تحولت
الى (دين) يتعبد به من جاء من بعدهم الى اليوم، فترى التيارات السلفية التكفيرية تتعبد بمثل هذه الادوات لفرض رايها واتجاهاتها
وافكارها على الاخرين، فيقتلون زوار الحسين عليه السلام لمنعهم من السير اليه في الاربعين، ويفجرون السيارات المفخخة لارعاب
المؤمنين من محبي اهل البيت عليهم السلام للحيلولة دون اقامة الشعائر الحسينية، وهكذا.