Home 

 

ابو الفضل العباس

نسبه الوضّاح

 

ليس في دنيا الأنساب نسب أسمى، ولا أرفع من نسب أبي الفضل فهو من صميم الأسرة العلوية، التي هي من أجلّ وأشرف الأسر التي عرفتها الإنسانية في جميع أدوارها، تلك الأسرة العريقة في الشرف والمجد، التي أمدّت العالم العربي والإسلامي بعناصر الفضيلة، والتضحية في سبيل الخير، وما ينفع الناس، وأضاءت الحياة العامة بروح التقوى، والإيمان، وهذا عرض موجز للأصول الكريمة التي تفرّع قمر بني هاشم، وفخر عدنان منها.


الأب 

أمّا الأب الكريم لسيّدنا العباس (عليه السلام) فهو الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وباب مدينة علمه، وختنه على حبيبته، وهو أول من آمن بالله، وصدّق رسوله وكان منه بمنزلة هارون من موسى، وهو بطل الإسلام، والمنافح الأول عن كلمة التوحيد، وقد قاتل الأقربين والأبعدين من أجل نشر رسالة الإسلام وإشاعة أهدافه العظيمة بين الناس، وقد تمثلت بهذا الإمام العظيم جميع فضائل الدنيا، فلا يدانيه أحد في فضله وعلمه، وهو - بإجماع المسلمين _ أثرى شخصية علمية في مواهبه وعبقرياته بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو غنّي عن البيان والتعريف، فقد استوعبت فضائله ومناقبه جميع لغات الأرض… ويكفي العباس شرفاً وفخراً أنّه فرع من دوحة الإمامة، وأخ لسبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله).


الأم 

أمّا الأم الجليلة المكرّمة لأبي الفضل العباس (عليه السلام) فهي السيدة الزكية فاطمة بنت حزام بن خالد..، وأبوها حزام من أعمدة الشرف في العرب، ومن الشخصيات النابهة في السخاء والشجاعة وقرى الأضياف، وأما أسرتها فهي من أجلّ الأسر العربية، وقد عرفت بالنجدة والشهامة، وقد اشتهر جماعة بالنبل والبسالة منهم:

1- عامر بن الطفيل:

وهو أخو عمرة الجدة الأولى لأمّ البنين، وكان من ألمع فرسان العرب في شدّة بأسه، وقد ذاع اسمه في الأوساط العربية وغيرها، وبلغ من عظيم شهرته أن قيصر إذا قدم عليه وافد من العرب فإن كان بينه وبين عامر نسب عظم عنده، وبجّله وأكرمه، وإلا أعرض عنه.

2- عامر بن مالك:

وهو الجدّ الثاني للسيّدة أمّ البنين، وكان من فرسان العرب وشجعانهم ولقّب بملاعب الأسنّة لشجاعته الفائقة، وفيه يقول الشاعر:

يـــلاعب أطـراف الأسـنة عامر        فــراح لــــه حظّ الكتائب أجمع

وبالإضافة إلى شجاعته فقد كان من أباة الضيم، وحفظة الذمام ومراعاة العهد، ونقل المؤرّخون عنه بوادر كثيرة تدلّل على ذلك.

3- الطفيل:

وهو والد عمرة الجدّة الأولى لأمّ البنين كان من أشهر شجعان العرب، وله أشقّاء من خيرة فرسان العرب، منهم ربيعة، وعبيدة، ومعاوية، ويقال لأمّهم (أمّ البنين) وقد وفدوا على النعمان بن المنذر فرأوا عنده الربيع بن زياد العبسي، وكان عدوّاً وخصماً لهم، فاندفع لبيد وقد تميّز من الغيظ فخاطب النعمان:

نحــــن بـــــنو أمّ البــــنين الأربـعة

 

يـــا واهـب الخير الجزيل من سعة

المطـــــعمون الجــــفنة المـدعدعة

 

ونحن خــــير عــــامر بن صعصعة

إليــــك جــــاوزنا بــــلاداً مســـبعة

 

الـــضاربون الهام وســط الحيصعة

مهــــلاً أبـــيت الـــلعن لا تأكل معه

 

تخــبر عــــن هــــذا خبيراً فاسمعه

       

فـتأثّر النعمان للربيع، وأقصاه عن مسامرته، وقال له:

 تكثر علـــيّ ودع عــــنك الأبــاطيلا

 

شـــرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا

 فــــما اعـــتذارك في شيء إذا قيلا

 

قد قيـــــل ذلــــك إن حــقاً وان كذبا

 

ودلّ ذلك على عظيم مكانتهم، وسموّ منزلتهم الاجتماعية عند النعمان فقد بادر إلى إقصاء سميره الربيع عن مسامرته.

4- عروة بن عتبة:

وهو والد كبشة الجدّة الثانية لأم البنين، وكان من الشخصيات البارزة في العالم العربي، وكان يفد على ملوك عصره، فيكرّمونه، ويجزلون له العطاء، ويحسنون له الوفادة(1).

هؤلاء بعض الأعلام من أجداد السيّدة الكريمة أمّ البنين، وقد عرفوا بالنزعات الكريمة، والصفات الرفيعة، وبحكم قانون الوراثة فقد انتقلت صفاتهم الشريفة إلى السيّدة أمّ البنين ثم منها إلى أبنائها الممجدين.

 

قران الإمام بأمّ البنين:

ولما ثكل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بوفاة بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله) وريحانته سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء(عليهماالسلام) ندب أخاه عقيلاً، وكان عالماً بأنساب العرب أن يخطب له امرأة قد ولدتها الفحول ليتزوّجها لتلد غلاماً زكياً شجاعاً لينصر ولده أبا الشهداء في ميدان كربلاء(2) فأشار عليه عقيل بالسيّدة أمّ البنين الكلابية فإنّه ليس في العرب من هو أشجع من أهلها، ولا أفرس، وكان لبيد الشاعر يقول فيهم: (نحن خير عامر بن صعصعة) فلا ينكر عليه أحد من العرب، ومن قومها ملاعب الأسنّة أبو براء الذي لم يعرف العرب مثله في الشجاعة(3)، فندبه الإمام إلى خطبتها، وانبرى عقيل إلى أبيها فعرض عليه الأمر فأسرع فرحاً إليها فاستجابت باعتزاز وفخر، وزفّت إلى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد رأى فيها العقل الراجح، والإيمان الوثيق وسموّ الآداب، ومحاسن الصفات، فأعزّها، وأخلص لها كأعظم ما يكون الإخلاص.


••
رعايتها لسبطيّ النبيّ (صلى الله عليه وآله):

وقامت السيّدة أمّ البنين برعاية سبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانتيه وسيّدي شباب أهل الجنّة الحسن والحسين (عليهما السلام)، وقد وجدا عندها من العطف والحنان ما عوّضهما من الخسارة الأليمة التي مُنيابها بفقد أمّهما سيّدة نساء العالمين فقد توفّيت، وعمرها كعمر الزهور فقد ترك فقدها اللوعة والحزن في نفسيهما.

لقد كانت السيدة أم البنين تكنّ في نفسها من المودّه والحبّ للحسن والحسين(عليهما السلام) ما لا تكنّه لأولادها الذين كانوا ملء العين في كمالهم وآدابهم.

لقد قدّمت أم البنين أبناء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، على أبنائها في الخدمة والرعاية، ولم يعرف التاريخ أن ضرّة تخلص لأبناء ضرّتها وتقدّمهم على أبنائها سوى هذه السيّدة الزكيّة، فقد كانت ترى ذلك واجباً دينياً لأن الله أمر بمودّتهما في كتابه الكريم، وهما وديعة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وريحانتاه، وقد عرفت أمّ البنين ذلك فوفت بحقّهما وقامت بخدمتهما خير قيام.


••
مكانتها عند أهل البيت:

ولهذه السيّدة الزكية مكانة متميّزة عند أهل البيت(عليهم السلام)، فقد أكبروا إخلاصها وولاءها للإمام الحسين (عليه السلام)، وأكبروا تضحيات أبنائها المكرمين في سبيل سيّد الشهداء (عليه السلام)، يقول الشهيد الأول وهو من كبار فقهاء الإمامية:

(كانت أمّ البنين من النساء الفاضلات، العارفات بحقّ أهل البيت(عليهم السلام)، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودّتهم، ولها عندهم الجاه الوجيه، والمحلّ الرفيع، وقد زارتها زينب الكبرى بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الأربعة، كما كانت تعزّيها أيام العيد..)(4).

إنّ زيارة حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) وشريكة الإمام الحسين (عليه السلام) في نهضته زينب الكبرى(عليهاالسلام) لأمّ البنين، ومواساتها لها بمصابها الأليم بفقد السادة الطيبين من أبنائها، مما يدلّ على أهميّة أمّ البنين وسموّ مكانتها عند أهل البيت(عليهم السلام).


مكانتها عند المسلمين:

وتحتلّ هذه السيّدة الجليلة مكانة مرموقة في نفوس المسلمين، ويعتقد الكثيرون إلى أنّ لها منزلة عظيمة عند الله، وأنّه ما التجأ إليها مكروب، وجعلها واسطة إلى الله تعالى إلا كشف عنه ما ألمّ به من المحن والخطوب، وهم يفزعون إليها إن ألمّت بهم كارثة من كوارث الزمن أو محنة من محن الأيّام، ومن الطبيعي أن تكون لها هذه المنزلة الكريمة عند الله، فقد قدّمت في سبيله أفلاذ أكبادها، وجعلتهم قرابين لدينه.


الوليد العظيم 

وكان أوّل مولود زكيّ للسيّدة أمّ البنين هو سيّدنا المعظّم أبو الفضل العباس (عليه السلام)، وقد ازدهرت يثرب، وأشرقت الدنيا بولادته وسرت موجات من الفرح والسرور بين أفراد الأسرة العلوية، فقد ولد قمرهم المشرق الذي أضاء سماء الدنيا بفضائله ومآثره، وأضاف إلى الهاشميين مجداً خالداً وذكراً ندياً عاطراً.

وحينما بشّر الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا المولود المبارك سارع إلى الدار فتناوله، وأوسعه تقبيلاً، وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية فأذّن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، لقد كان أوّل صوت قد اخترق سمعه صوت أبيه رائد الإيمان والتقوى في الأرض، وأنشودة ذلك الصوت.

(الله أكبر…).

(لا إله إلا الله).

وارتسمت هذه الكلمات العظيمة التي هي رسالة الأنبياء، وأنشودة المتّقين في أعماق أبي الفضل، وانطبعت في دخائل ذاته، حتى صارت من أبرز عناصره، فتبنى الدعوة إليها في مستقبل حياته، وتقطّعت أوصاله في سبيلها.

وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل (عليه السلام)، قام الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بحلق شعره، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين (عليهما السلام) عملاً بالسنّة الإسلامية.


سنة ولادته 

أفاد بعض المحقّقين أن أبا الفضل العباس (عليه السلام) ولد سنة (26 هـ) في اليوم الرابع من شهر شعبان(5).


- تسميته:

سمّى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وليده المبارك (بالعباس) وقد استشفّ من وراء الغيب أنه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام، وسيكون عبوساً في وجه المنكر والباطل، ومنطلق البسمات في وجه الخير، وكان كما تنبّأ فقد كان عبوساً في ميادين الحروب التي أثارتها القوى المعادية لأهل البيت (عليهم السلام)، فقد دمّر كتائبها وجندل أبطالها، وخيّم الموت على جميع قطعات الجيش في يوم كربلاء، ويقول الشاعر فيه:

عبــست وجـوه القوم خوف الموت

 

والعـــبّاس فــــيهم ضــاحك متبسّم

 


- كنيته:

وكنّي سيّدنا العبّاس (عليه السلام) بما يلي:

1- أبو الفضل:

كنّي بذلك لأنّ له ولداً اسمه الفضل، ويقول في ذلك بعض من رثاه:

أبى الفـــضل إلا أن تــــكون لــه أبا

 

أبا الفضل يا مـــن أسّس الفضل والإبا

 

وطابقت هذه الكنية حقيقة ذاته العظيمة فلو لم يكن له ولد يسمّى بهذا الاسم، فهو - حقّاً - أبو الفضل، ومصدره الفياض فقد أفاض في حياته ببرّه وعطائه على القاصدين لنبله وجوده، وبعد شهادته كان موئلاً وملجأً لكل ملهوف، فما استجار به أحد بنيّة صادقة إلا كشف الله ما ألمّ به من المحن والبلوى.

2- أبو القاسم:

كنّي بذلك لأنّ له ولداً اسمه (القاسم) وذكر بعض المؤرّخين أنّه استشهد معه يوم الطفّ، وقدّمه قرباناً لدين الله، وفداءً لريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله).


- ألقابه:

أمّا الألقاب التي تضفى على الشخص فهي تحكي صفاته النفسية حسنة كانت أو سيّئة، وقد أضيفت على أبي الفضل (عليه السلام) عدّة ألقاب رفيعة تنمّ عن نزعاته النفسية الطيبة، وما اتصف به من مكارم الأخلاق وهي:

1- قمر بني هاشم:

كان العبّاس (عليه السلام) في روعة بهائه، وجميل صورته آية من آيات الجمال، ولذلك لقّب بقمر بني هاشم، وكما كان قمراً لأسرته العلوية الكريمة، فقد كان قمراً في دنيا الإسلام، فقد أضاء طريق الشهادة، وأنار مقاصدها لجميع المسلمين.

2- السقّاء:

وهو من أجلّ ألقابه، وأحبّها إليه، أما السبب في إمضاء هذا اللقب الكريم عليه فهو لقيامه بسقاية عطاشى أهل البيت(عليهم السلام) حينما فرض الإرهابي المجرم ابن مرجانة الحصار على الماء، وأقام جيوشه على الفرات لتموت عطشاً ذرية النبيّ (صلى الله عليه وآله)، محرّر الإنسانية ومنقذها من ويلات الجاهلية… وقد قام بطل الإسلام أبو الفضل باقتحام الفرات عدّة مرّات، وسقى عطاشى أهل البيت، ومن كان معهم من الأنصار، وسنذكر تفصيل ذلك عند التعرّض لشهادته.

3- بطل العلقمي:

أمّا العلقمي فهو اسم للنهر الذي استشهد على ضفافه أبو الفضل العباس (عليه السلام)، وكان محاطاً بقوى مكثّفة من قبل ابن مرجانة لمنع ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيّد شباب أهل الجنّة، ومن كان معه من نساء وأطفال من شرب الماء، وقد استطاع أبو الفضل بعزمه الجبّار، وبطولته النادرة أن يجندل الأبطال، ويهزم أقزام ذلك الجيش المنحطّ، ويحتلّ ذلك النهر، وقد قام بذلك عدّة مرّات، وفي المرّة الأخيرة استشهد على ضفافه ومن ثمّ لقّب ببطل العلقمي.

4- حامل اللواء:

ومن ألقابه المشهورة (حامل اللواء) وهو أشرف لواء، إنّه لواء أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد خصّه به دون أهل بيته وأصحابه، وذلك لما تتوفر فيه من القابليات العسكرية، ويعتبر منح اللواء في ذلك العصر من أهمّ المناصب الحسّاسة في الجيش وقد كان اللواء الذي تقلّده أبوالفضل يرفرف على رأس الإمام الحسين (عليه السلام) منذ أن خرج من يثرب حتّى انتهى إلى كربلاء، وقد قبضه بيد من حديد، فلم يسقط منه حتى قطعت يداه، وهوى صريعاً بجنب العلقمي.

5- كبش الكتيبة:

وهو من الألقاب الكريمة التي تمنح إلى القائد الأعلى في الجيش، الذي يقوم بحماية كتائب جيشه بحسن تدبير، وقوّة بأس، وقد أضفي هذا الوسام الرفيع على سيّدنا أبي الفضل، وذلك لما أبداه يوم الطفّ من الشجاعة والبسالة في الذبّ والدفاع عن معسكر الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد كان قوّة ضاربة في معسكر أخيه، وصاعقة مرعبة ومدمّرة لجيوش الباطل.

6- العميد:

وهو من الألقاب الجليلة في الجيش التي تمنح لأبرز الأعضاء في القيادة العسكرية، وقد قلّد أبو الفضل (عليه السلام) بهذا الوسام لأنّه كان عميد جيش أخيه أبي عبدالله، وقائد قوّاته المسلّحة في يوم الطفّ.

7- حامي الضعينة:

ومن الألقاب المشهورة لأبي الفضل (عليه السلام) (حامي الضعينة).

يقول السيّد جعفر الحلّي في قصيدته العصماء التي رثاه بها:

حـامي الضعينة أين منه ربيعة        أم أيــــن مـــن عليا أبيه مكرم

وانّما اضفي عليه هذا اللقب الكريم لقيامه بدور مشرّف في رعاية مخدرات النبوة وعقائل الوحي، فقد بذل قصارى جهوده في حمايتهنّ وحراستهنّ وخدمتهنّ، فكان هو الذي يقوم بترحيلهنّ، وأنزالهنّ من المحامل طيلة انتقالهنّ من يثرب إلى كربلاء.

ومن الجدير بالذكر أن هذا اللقب أطلق على بطل من شجعان العرب وفرسانهم وهو ربيعة بن مكرم، فقد قام بحماية ظعنه، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً(6).

8- باب الحوائج:

وهذا من أكثر ألقابه شيوعاً، وانتشاراً بين الناس، فقد آمنوا وأيقنوا أنه ما قصده ذو حاجة بنية خالصة إلا قضى الله حاجته، وما قصده مكروب إلا كشف الله ما ألمّ به من محن الأيام، وكوارث الزمان، وكان ولدي محمد الحسين ممن التجأ إليه حينما دهمته كارثة ففرّج الله عنه.

إنّ أبا الفضل نفحة من رحمات الله، وباب من أبوابه، ووسيلة من وسائله، وله عنده الجاه العظيم، وذلك لجهاده المقدّس في نصرة الإسلام، والذبّ عن أهدافه ومبادئه، وقيامه بنصرة ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى استشهد في سبيله، هذه بعض ألقاب أبي الفضل، وهي تحكي بعض معالم شخصيته العظيمة وما انطوت عليه من محاسن الصفات ومكارم الأخلاق(7).


ملامحه 

أمّا ملامحه فقد كان صورة بارعة من صور الجمال، وقد لقّب بقمر بني هاشم لروعة بهائه، وجمال طلعته، وكان متكامل الجسم قد بدت عليه آثار البطولة والشجاعة، ووصفه الرواة بأنه كان وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهم(8) ورجلاه يخطان في الأرض(9).


تعويذ أمّ البنين له: 

واستوعب حب العباس قلب أمّه الزكيّة، فكان عندها أعزّ من الحياة، وكانت تخاف عليه، وتخشى من أعين الحسّاد من أن تصيبه بأذى أو مكروه، وكانت تعوذه بالله، وتقول هذه الأبيات:

أعيــــذه بـــــــالــــواحـد

 

 مــــن عــــين كلّ حاسد

قـــــائــــمـــهم والــقاعد

 

مســـــلمــهم والــجاحد

صــــادرهـــم والــــوارد

 

 مـــولدهم والوالد(10)

      

       مع أبيه

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يرعى ولده أبا الفضل في طفولته، ويعنى به كأشدّ ما تكون العناية فأفاض عليه مكوّنات نفسه العظيمة العامرة بالإيمان والمثل العليا، وقد توسّم فيه أنه سيكون بطلاً من أبطال الإسلام، وسيسجّل للمسلمين صفحات مشرقة من العزّة والكرامة.

كان الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يوسع العباس تقبيلاً، وقد احتلّ عواطفه وقلبه، ويقول المؤرّخون: إنّه أجلسه في حجره فشمّر العبّاس عن ساعديه، فجعل الإمام يقبّلهما، وهو غارق في البكاء، فبهرت أمّ البنين، وراحت تقول للإمام:

(ما يبكيك؟)

فأجابها الإمام بصوت خافت حزين النبرات:

(نظرت إلى هذين الكفّين، وتذكّرت ما يجري عليهما..)

 

وسارعت أمّ البنين بلهفة قائلة:

(ماذا يجري عليهما؟)..

فأجابها الإمام بنبرات مليئة بالأسى والحزن قائلاً:

(إنّهما يقطعان من الزند..)

وكانت هذه الكلمات كصاعقة على أمّ البنين، فقد ذاب قلبها، وسارعت وهي مذهولة قائلة:

(لماذا يقطعان؟)..

وأخبرها الإمام (عليه السلام) بأنّهما إنّما يقطعان في نصرة الإسلام والذبّ عن أخيه حامي شريعة الله ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأجهشت أمّ البنين في البكاء، وشاركتها من كانت معها من النساء لوعتها وحزنها(11).

وخلدت أمّ البنين إلى الصبر، وحمدت الله تعالى في أن يكون ولدها فداءً لسبط رسول الله (صلى الله عليه وآله) وريحانته.


نشأته 

نشأ أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) نشأة صالحة كريمة، قلّما يظفر بها إنسان فقد نشأ في ظلال أبيه رائد العدالة الاجتماعية في الأرض، فغذّاه بعلومه وتقواه، وأشاع في نفسه النزعات الشريفة، والعادات الطيّبة ليكون مثالاً عنه، وأنموذجاً لمثله، كما غرست أمّه السيّدة فاطمة في نفسه، جميع صفات الفضيلة والكمال، وغذّته بحبّ الخالق العظيم فجعلته في أيّام طفولته يتطلّع إلى مرضاته وطاعته، وظلّ ذلك ملازماً له طوال حياته.

 

ولازم أبو الفضل أخويه السبطين ريحانتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن والحسين سيّدي شباب أهل الجنّة فكان يتلقّى منهما قواعد الفضيلة، وأسس الآداب الرفيعة، وقد لازم بصورة خاصة أخاه أبا الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فكان لا يفارقه في حله وترحاله، وقد تأثّر بسلوكه، وانطبعت في قرارة نفسه مثله الكريمة وسجاياه الحميدة حتى صار صورة صادقة عنه يحكيه في مثله واتجاهاته، وقد أخلص له الإمام الحسين كأعظم ما يكون الإخلاص وقدّمه على جميع أهل بيته لما رأى منه من الودّ الصادق له حتى فداه بنفسه.

 

إنّ المكونات التربوية الصالحة التي ظفر بها سيّدنا أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) قد رفعته إلى مستوى العظماء والمصلحين الذين غيّروا مجرى تاريخ البشرية بما قدّموه لها من التضحيات الهائلة في سبيل قضاياها المصيرية، وإنقاذها من ظلمات الذلّ والعبودية.

 

لقد نشأ أبوالفضل على التضحية والفداء من أجل إعلاء كلمة الحقّ، ورفع رسالة الإسلام الهادفة إلى تحرير إرادة الإنسان، وبناء مجتمع أفضل تسوده العدالة والمحبة، والإيثار، وقد تأثر العباس بهذه المبادئ العظيمة وناضل في سبيلها كأشدّ ما يكون النضال، فقد غرسها في أعماق نفسه، ودخائل ذاته، أبوه الإمام أمير المؤمنين وأخواه الحسن والحسين(عليهم السلام)، هؤلاء العظام الذين حملوا مشعل الحرية والكرامة، وفتحوا الآفاق المشرقة لجميع شعوب العالم وأمم الأرض من أجل كرامتهم وحرّيتهم، ومن أجل أن تسود العدالة والقيم الكريمة بين الناس.


انطباعات عن شخصيّته 

واحتلّ أبو الفضل (عليه السلام) قلوب العظماء ومشاعرهم، وصار أنشودة الأحرار في كلّ زمان ومكان، وذلك لما قام به من عظيم التضحية تجاه أخيه سيّد الشهداء، الذي ثار في وجه الظلم والطغيان، وبنى للمسلمين عزّاً شامخاً، ومجداً خالداً.

وفيما يلي بعض الكلمات القيّمة التي أدلى بها بعض الشخصيات الرفيعة في حقّ أبي الفضل (عليه السلام).


1- الإمام زين العابدين:

أمّا الإمام زين العابدين فهو من المؤسسين للتقوى والفضيلة في الإسلام، وكان هذا الإمام العظيم يترحّم - دوماً - على عمّه العبّاس، ويذكر بمزيد من الإجلال والإكبار تضحياته الهائلة لأخيه الحسين وكان مما قاله في حقّه هذه الكلمات القيّمة:

رحم الله عمّي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله بجناحين، يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وان للعبّاس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه عليها جميع الشهداء يوم القيامة..)(12).

 

وألمّت هذه الكلمات بأبرز ما قام به أبو الفضل من التضحيات تجاه أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد أبدى في سبيله من ضروب الإيثار وصنوف التضحية ما يفوق حدّ الوصف، وما كان به مضرب المثل على امتداد التاريخ، فقد قطعت يداه الكريمتان يوم الطفّ في سبيله، وظلّ يقاوم عنه حتى هوى إلى الأرض صريعاً، وان لهذه التضحيات الهائلة عند الله منزلة كريمة، فقد منحه من الثواب العظيم، والأجر الجزيل ما يغبطه عليه جميع شهداء الحقّ والفضيلة في دنيا الإسلام وغيره.


2- الإمام الصادق:

أمّا الإمام الصادق (عليه السلام) فهو العقل المبدع والمفكّر في الإسلام فقد كان هذا العملاق العظيم يشيد دوماً بعمّه العبّاس، ويثني ثناءً عاطراً ونديّاً على مواقفه البطولية يوم الطفّ، وكان مما قاله في حقّه:

(كان عمّي العبّاس بن علي (عليه السلام) نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أخيه الحسين، وأبلى بلاءً حسناً، ومضى شهيداً..)(13).

وتحدّث الإمام الصادق (عليه السلام) عن أنبل الصفات الماثلة عند عمّه العبّاس والتي كانت موضع إعجابه وهي:

 

أ - نفاذ البصيرة:

أمّا نفاذ البصيرة، فإنها منبعثة من سداد الرأي، وأصالة الفكر، ولا يتّصف بها إلا من صفت ذاته، وخلصت سريرته، ولم يكن لدواعي الهوى والغرور أي سلطان عليه، وكانت هذه الصفة الكريمة من أبرز صفات أبي الفضل فقد كان من نفاذ بصيرته، وعمق تفكيره مناصرته ومتابعته لإمام الهدى وسيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد ارتقى بذلك إلى قمّة الشرف والمجد، وخلدت نفسه العظيمة على امتداد التأريخ، فما دامت القيم الإنسانية يخضع لها الإنسان، ويمجّدها فأبو الفضل قد بلغ قمّتها وذروتها.

ب - الصلابة في الإيمان:

والظاهرة الأخرى من صفات أبي الفضل (عليه السلام) هي الصلابة في الإيمان وكان من صلابة إيمانه انطلاقه في ساحات الجهاد بين يدي ريحانة رسول الله مبتغياً في ذلك الأجر عند الله، ولم يندفع إلى تضحيته بأي دافع من الدوافع المادية، كما أعلن ذلك في رجزه يوم الطفّ، وكان ذلك من أوثق الأدلة على إيمانه.

ج - الجهاد مع الحسين:

وثمّة مكرمة وفضيلة أخرى لبطل كربلاء العباس (عليه السلام) أشاد بها الإمام الصادق (عليه السلام) وهي جهاده المشرق بين يدي سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسيّد شباب أهل الجنّة، ويعتبر الجهاد في سبيله من أسمى مراتب الفضيلة التي انتهى إليها أبو الفضل، وقد أبلى بلاءً حسناً يوم الطفّ لم يشاهد مثله في دنيا البطولات.

د - زيارة الإمام الصادق:

وزار الإمام الصادق (عليه السلام) أرض الشهادة والفداء كربلاء، وبعدما انتهى من زيارة الإمام الحسين وأهل بيته والمجتبين من أصحابه، انطلق بشوق إلى زيارة قبر عمّه العبّاس، ووقف على المرقد المعظّم، وزاره بالزيارة التالية التي تنمّ عن سموّ منزلة العبّاس، وعظيم مكانته، وقد استهلّ زيارته بقوله:

(سلام الله، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصديقين والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح عليك يا ابن أمير المؤمنين..).

 

لقد استقبل الإمام الصادق عمّه العباس بهذه الكلمات الحافلة بجميع معاني الإجلال والتعظيم، فقد رفع له تحيات من الله وسلام ملائكته، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، والشهداء، والصدّيقين، وهي أندى وأزكى تحيّة رفعت له، ويمضي سليل النبوّة الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته قائلاً:

(وأشهد لك بالتسليم، والتصديق، والوفاء، والنصيحة لخلف النبيّ المرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالم، والوصي المبلّغ والمظلوم المهتضم..)

وأضفى الإمام الصادق (عليه السلام) بهذا المقطع أوسمة رفيعة على عمّه العباس هي من أجلّ وأسمى الأوسمة التي تضفى على الشهداء العظام، وهي:

أ- التسليم:

وسلّم العباس (عليه السلام) لأخيه سيّد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) جميع أموره، وتابعه في جميع قضاياه حتّى استشهد في سبيله، وذلك لعلمه بإمامته القائمة على الإيمان الوثيق بالله تعالى، وعلى أصالة الرأي وسلامة القصد، والإخلاص في النيّة.

ب - التصديق:

وصدّق العبّاس (عليه السلام) أخاه ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في جميع اتجاهاته، ولم يخامره شكّ في عدالة قضيّته، وأنّه على الحق، وأن مَن نصب له العداوة وناجزه الحرب كان على ضلال مبين.

ج - الوفاء:

من الصفات الكريمة التي أضافها الإمام الصادق (عليه السلام) على عمّه أبي الفضل (عليه السلام)، الوفاء فقد وفى ما عاهد عليه الله من نصرة إمام الحق أخيه أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، فقد وقف إلى جانبه في أحلك الظروف وأشدّها محنة وقسوة، ولم يفارقه حتى قطعت يداه، واستشهد في سبيله.

لقد كان الوفاء الذي هو من أميز الصفات الرفيعة عنصراً من عناصر أبي الفضل وذاتياً من ذاتياته، فقد خلق للوفاء والبرّ للقريب والبعيد.

د - النصيحة:

وشهد الإمام الصادق بنصيحة عمّه العبّاس لأخيه سيّد الشهداء (عليه السلام)، فقد أخلص له في النصيحة على مقارعة الباطل، ومناجزة أئمّة الكفر والضلال، وشاركه في تضحياته الهائلة التي لم يشاهد العالم مثلها نظيراً في جميع فترات التاريخ… ولننظر إلى بند آخر من بنود هذه الزيارة الكريمة، يقول (عليه السلام):

(فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت، واحتسبت، وأعنت فنعم عقبى الدار...).

وحوى هذا المقطع على إكبار الإمام الصادق (عليه السلام) لعمّه العبّاس وذلك لما قدّمه من الخدمات العظيمة، والتضحيات الهائلة لسيّد شباب أهل الجنّة، وريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين (عليه السلام) فقد فداه بروحه، ووقاه بمهجته، وصبر على ما لاقاه في سبيله من المحن والشدائد مبتغياً في ذلك الأجر عند الله، فجزاه الله عن نبيّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وعن باب مدينته الإمام أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين أفضل الجزاء على عظيم تضحياته.

 

ويستمرّ مجدّد الإسلام الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته لعمّه العبّاس، فيذكر صفاته الكريمة، وما له من المنزلة العظيمة عند الله تعالى، فيقول بعد السلام عليه:

(أَشهد، وأُشْهِد الله أنّك مضيت على ما مضى به البدريون والمجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء وأكثر الجزاء وأوفر الجزاء وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته، واستجاب لدعوته، وأطاع ولاة أمره...).

 

لقد شهد الإمام الصادق - العقل المفكّر والمبدع في الإسلام وأشهد الله تعالى على ما يقول: من أنّ عمّه أبا الفضل العبّاس (عليه السلام) قد مضى في جهاده مع أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام)، على الخطّ الذي مضى عليه شهداء بدر الذين هم من أكرم الشهداء عند الله فهم الذين كتبوا النصر للإسلام، وبدمائهم الزكية ارتفعت كلمة الله عالية في الأرض وقد استشهدوا وهم على بصيرة من أمرهم، ويقين من عدالة قضيّتهم، وكذلك سار أبو الفضل العبّاس على هذا الخطّ المشرق، فقد استشهد لإنقاذ الإسلام من محنته الحازبة، فقد حاول صعلوك بني أميّة حفيد أبي سفيان أن يمحو كلمة الله، ويلف لواء الإسلام، ويعيد الناس لجاهليتهم الأولى، فثار أبو الفضل بقيادة أخيه أبي الأحرار في وجه الطاغية السفّاك، وتحققت بثورتهم كلمة الله العليا في نصر الإسلام وإنزال الهزيمة الساحقة بأعدائه وخصومه.

 

ويستمرّ الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته لعمّه العباس فيسجّل ما يحمله من إكبار وتعظيم، فيقول:

(أشهد أنّك قد بالغت في النصيحة، وأعطيت غاية المجهود فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في علّيين وحشرك مع النبيّين، والصديقين والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

أشهد أنّك لم تهن ولم تنكل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتبعاً للنبيّين، فجمع الله بيننا، وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحمين..)(14).

ويلمس في هذه البنود الأخيرة من الزيارة مدى أهميّة العبّاس، وسموّ مكانته عند إمام الهدى الإمام الصادق (عليه السلام)، وذلك لما قام به هذا البطل العظيم من خالص النصيحة، وعظيم التضحيّة لريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الإمام الحسين (عليه السلام)، كما دعا الإمام له ببلوغ المنزلة السامية عند الله التي لا ينالها إلا الأنبياء، وأوصيائهم، ومن امتحن الله قلبه للإيمان.


3- الإمام الحجة:

وأدلى الإمام المصلح العظيم بقيّة الله في الأرض قائم آل محمد (صلى الله عليه وآله) بكلمة رائعة في حقّ عمّه العبّاس (عليه السلام) جاء فيها:

(السلام على أبي الفضل العبّاس ابن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتليه يزيد بن الرقاد، وحكيم بن الطفيل الطائي..)(15).

وأشاد بقيّة الله في الأرض بالصفات الكريمة الماثلة في عمّه قمر بني هاشم وفخر عدنان، وهي:

1- مواساته لأخيه سيّد الشهداء (عليه السلام)، فقد واساه في أحلك الظروف، وأشدّها محنة وقسوة، وظلّت مواساته له مضرب المثل على امتداد التاريخ.

2- تقديمه أفضل الزاد لآخرته، وذلك بتقواه، وشدّة تحرّجه في الدين، ونصرته لإمام الهدى.

3- تقديم نفسه، وأخوته، وولده فداءً لسيّد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين (عليه السلام).

4- وقايته لأخيه المظلوم بمهجته.

5- سعيه لأخيه وأهل بيته بالماء حينما فرضت سلطات البغي والجور الحصار على ماء الفرات من أن تصل قطرة منه لآل النبيّ (صلى الله عليه وآله).


4- الشعراء:

وهام الأحرار من شعراء أهل البيت(عليهم السلام) بشخصية أبي الفضل التي بلغت قمّة الشرف والمجد، وسجّلت صفحات من النور في تاريخ الأمّة الإسلامية، وقد نظموا في حقّه روائع الشعر العربي إكباراً وإعجاباً بمثله الكريمة، فيما يلي بعضهم:

1- الكُمْيت:

أمّا شاعر الإسلام الأكبر الكُمْيت الأسدي فقد انطبع حبّ أبي الفضل في أعماق نفسه، وقد تعرّض لمدحه في إحدى هاشمياته الخالدة قال:

وأبـو الفــضل إنّ ذكـرهم الحلو

 

 شفاء النفوس من أسقام(16)

       

إنّ ذكر أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وسائر أهل البيت(عليهم السلام) حلو عند كل شريف لأنّه ذكر للفضيلة والكمال المطلق، كما أنّه شفاء للنفوس من أسقام الجهل والغرور، وسائر الأمراض النفسية.

2- الفضل بن محمد:

من الشعراء الملهمين الذين هاموا بشخصية أبي الفضل (عليه السلام) هو حفيده الشاعر الكبير الفضل بن محمد بن الفضل بن الحسن بن عبيد الله بن العباس فقد قال:

إنـــــي لأذكـــــر لـــــلعبّاس مـوقفه

 

 بكربــــلاء وهــــام الــقوم يختطف

يـــحمي الحسين ويحميه على ظمأٍ

 

ولا يـــــولّي ولا يــــثني فــــيختلف

ولا أرى مشـــــهداً يـــوماً كمشهده

 

 مع الحسين عليه الفضل والشرف

أكــــرم بـــــه مشهداً بانت فضيلته

 

 وما أضــــاع لـه أفعاله خلف(17)

      

وصوّرت هذه الأبيات شجاعة أبي الفضل (عليه السلام) وما قام به من دور مشرق يدعو إلى الاعتزاز والفخر في حماية أخيه أبي الأحرار، ووقايته له بمهجته، وسقايته له ولأفراد عائلته وأطفاله بالماء، فلم يكن هناك مشهد أفضل ولا أسمى من هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو الفضل مع أخيه أبي عبد الله (عليه السلام) … وقد استولت مواقف أبي الفضل على حفيده الفضل فهام بها ورثاه بذوب روحه، وكان من رثائه له هذه الأبيات الرقيقة:

  فـــتى أبـــكى الحسين بكربلاء

 

أحــــق الــــناس أن يبكى عليه

أبو الفــــضل المضرّج بالدماء

 

أخـــــوه وابــــن والــــــده علي

وجادله على عطش بماء(18)

 

ومــــن واســــاه لا يثنيه شيء

 

نعم إن أحق الناس أن يمجد ويبكى على ما حلّ به من رزء قاصم هو أبو الفضل رمز الإباء والفضيلة، فقد رزأ الإمام الحسين (عليه السلام) بمصرعه، وبكاه أمرّ البكاء لأنّه فقد بمصرعه أبرّ الإخوان، وأعطفهم عليه.

 

3- السيّد راضي القزويني:

وهام الشاعر العلوي السيّد راضي القزويني بشخصية أبي الفضل (عليه السلام) قال:

 أبى الفضل إلا أن تــــكون لــــه أبا

 

أبا الفضل يا من أسس الفضل والإبا

وما كل ســـــاع بـــــالغ مــــا تـطلبا

 

تطلـبت أســـــباب العــــلى فبــلغـتها

تخـيرت أطــــراف الأســـــنّة مركبا

 

ودون احتـمال الضــــيم عـزّ ومنعة

      

إنّ أبا الفضل من المؤسسين للفضل والإباء في دنيا العرب والإسلام فقد سما إلى طرق المجد، وأسباب العلى، فبلغ قمّتها، وقد تخير أطراف الأسنّة والرماح حتى لا يناله ذلّ، ولا ضيم.

 

4 - محمد رضا الأزري:

وأشاد الشاعر الكبير الحاج محمد رضا الأزري في رائعته بالمثل الكريمة التي تحلّى بها قمر بني هاشم، والتي احتلت عواطف الأحرار ومشاعرهم يقول:

 فالذكر أبــــقى مـــا اقــتنته كرامها

 

فانهض إلى الذكــر الجميل مشمّراً

 أنّى وقــــد بـــلغ الســــماء قـتامها

 

أومـــــا أتـــاك حـــديث وقعة كربلا

 والشـــمس من كدر العجاج لثامها

 

يــوم أبو الفضل استجار به الهدى

       

ودعا الأزري بالبيت من رائعته إلى اقتناء الذكر الجميل الذي هو من أفضل المكاسب التي يظفر بها الإنسان فإنه أبقى، وأخلد له، ودعا بالبيت الثاني إلى التأمّل والاستفادة من واقعة كربلاء التي تفجّرت من بركان هائل من الفضائل والمآثر لآل النبيّ (صلى الله عليه وآله)، وعرج بالبيت الثالث على أبي الفضل العبّاس (عليه السلام) الذي استجار به سبط النبيّ (صلى الله عليه وآله) وريحانته، ولنستمع إلى ما قام به العبّاس من النصر والحماية لأخيه، يقول الأزري:

 ويذب مـن دون الشرى ضرغامها

 

فحمى عــــرينته ودمـــدم دونــــــها

 زجل الـــرعود إذا اكفــهرّ غمامها

 

والبيض فوق البيض تحسب وقعها

والشـــوس يرشــح بالمنية هامها

 

مـــن بــاسل يلـــقى الكتــيبة باسماً

أو يســــتقلّ عــلى النجوم رغامها

 

واشـــــم لا يــــحتل دار هـــضـــيمة

 طــــلاع كـــل ثــــنية مقــــدامــــها

 

أولــــم تـــــكن تــــدري قــريش أنّه

      

وهذه الأبيات منسجمة كل الانسجام مع بطولات أبي الفضل، فقد صوّرت بسالته، وما قام به من دور مشرف في حماية أخيه أبي الأحرار فقد انبرى كالأسد يذبّ عن أخيه في معركة الشرف والكرامة، غير حافل بتلك الوحوش الكاسرة التي ملأت البيداء دفاعاً عن ذئاب البشرية، وقد انطلق أبو الفضل باسماً في ميادين الحرب وهو يحطّم أنوف أولئك الأوغاد ويجرّعهم غصص الموت في سبيل كرامته وعزّة أخيه، وقد استبان للقبائل القرشية في هذه المعركة أن أبا الفضل طلاع كل ثنية، وأنه ابن من أرغمها على الإسلام وحطّم جاهليتها وأوثانها.

وبهذا العرض نأتي على الانطباعات الكريمة عن شخصية أبي الفضل (عليه السلام) عند الأئمة الطاهرين(عليهم السلام)، وعند بعض أعلام الأدب العربي.

 

1 - قمر بني هاشم 1: 11 - 13 ذكر المحقق الشيخ عبد الواحد المظفر في كتابه بطل العلقمي عرضاً مفصّلاً لمآثر هذه الأسرة الكريمة.

2 - تنقيح المقال 2/128.

3 - تنقيح المقال 2/128.

4 - العباس للمقرّم: 72 - 73 نقلاً عن مجموعة الشهيد الأول.

5 - قمر بني هاشم 2: 5.

6 - جاء في العقد الفريد 3/331 ان دريد بن الصمة خرج ومعه جماعة من فرسان بني جشم حتى إذا كانوا في واد لبني كنانة يقال له الأخرم، وهم يريدون الغارة على بني كنانة فرأوا رجلاً معه ضعينة في ناحية الوادي فقال دريد لفارس من أصحابه امض واستول على الضعينة، وانتهى الفارس إلى الرجل فصاح به خلّ عن الظعينة وانج بنفسك، فألقى زمام الناقة، وقال للظعينة:

سـيري على رسلك سير الآمن

 

سيـــر دراج ذات جــاش طامن

ان التـــــأني دون قرني شائني

 

 ابـــلى بــلائي فاخبري وعايني

           

ثم حمل على الرجل فصرعه، وأخذ فرسه وأعطاها للظعينة، وبعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع صاحبه فلما انتهى إليه رآه صريعاً فصاح بالرجل فألقى زمام الظعينة، فلما انتهى إليه حمل عليه وهو يقول:

خــل ســـبيل الحـــرة المـــنيعة

 

انـــــك لاق دونـــــها ربــــيــعة

فـــي كــــفه خطـــية منـــــــيعة

 

أولا فــــخذها طــــعنة ســريعة

       

       

وحمل عليه فصرعه، ولما أبطأ بعث دريد فارساً آخر لينظر ما صنع الرجلان ولما انتهى إليهما وجدهما صريعين، والرجل يجر رمحه، فلما نظر إليه قال للظعينة اقصدي قصد البيوت ثم أقبل عليه وقال:

مــــاذا تـــرى من شيئم عابس

 

أما تــرى الفارس بعد الفارس

       

أرداهما عامل رمح يابس

ثم حمل عليه فصرعه، وانكسر رمحه، وارتاب دريد في امر جماعته وظن أنهم أخذوا الظعينة وقتلوا الرجل فلحقهم، وقد دنا ربيعة من الحي، فوجدهم دريد قد قتلوا جميعاً، فقال لربيعة: إن مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحك، والخيل ثائرة بأصحابها فدونك هذا الرمح فاني منصرف عنك إلى أصحابي، ومثبطهم عنك، فانصرف إلى أصحابه وقال لهم: ان فارس الضعينة قد حماها وقتل أصحابكم وانتزع رمحي فلا مطمع لكم فيه فانصرف القوم فقال دريد في ذلك:

حامي الظــعينة فارساً لم يقتل

 

مـــا ان رأيت ولا سمعت بمثله

        ثــــم استــــمر كـــأنّه لــم يفعل

 

أردى فــوارس لم يكونوا نهزة

مثل الحسام جلته كفّ الصيقل

 

فتـــــهللت تــــبدو أسـرة وجهه

مثل البغات خشين وقع الجندل

 

يــزجى طعينته ويسحب رمحه

         

7 - جاء في تنقيح المقال 2/128 أنه تحدث للعباس ستة عشر لقباً.

8 - الفرس المطهم: هو السمين الفاحش في السمن كما في القاموس وفي المنجد أنه التام الحسن.

9 - مقاتل الطالبيين: 56.

10 - المنمق في أخبار قريش: 437.

11 - قمر بني هاشم 1: 19.

12 - الخصال 1: 35.

13 - ذخيرة الدارين: 123 نقلاً عن عمدة الطالب.

14 - مفاتيح الجنان للقمّي وغيره من كتب الزيارات والأدعية.

15 - مزار محمد بن المشهدي من أعلام القرن السادس: 553.

16 - الهاشميات: 25، ومن الغريب أن الشارح لهذا الديوان قال: ان المراد بأبي الفضل هو العباس بن عبد المطلب.

17 - قمر بني هاشم: 147 نقلاً عن المجدي.

18 - الغدير 3: 5.