سبق وان نشرت هذه القصة القصيرة بين عدد من الاصدقاء يوم 7 اذار 2011 باللغة
الانكليزية. وقد اشار علي بعضهم بنشر نسخة عربية لما للقصة من دلالات وعبر بما يخص الشأن العراقي ولما يحدث اليوم من غليان شعبي في عدد من
الدول العربية وخصوصا في ليبيا.
قبل عشرين عاما وتحديدا يوم 7 اذار 1991 صادف اني كنت مصابا بالزكام مع حمى وابني الذي كان عمره بضعة شهور كان يعاني من صعوبة في التنفس
بسبب استنشاقه الدخان المنبعث من المصابيح النفطية الموقدة في سكننا في مدينة كربلاء بسبب انقطاع الماء والكهرباء منذ 17 كانون الثاني 1991.
في صبيحة ذلك اليوم انطلقت مروحيات تابعة للجيش العراقي في سماء المدينة ترمي منشورات مطبوع عليها تحذير لاهالي المدينة لاخلائها على ان
الجيش سيقوم برمي مساحيق كيمياوية من الجو تتسامى في الهواء لتسبب اختناقات والتهابات في الجهاز التنفسي. وبسبب عدم وضوح الرؤية لنا كعائلة
لم نستطع ان نقرر الجهة الافضل النجف او بغداد ولكن استقر بنا الحال للتوجه الى بيتنا في بغداد.
في تلك الايام ولصعوبة التنقل بسبب عدم توفر الوقود كنت غائبا عن الدوام في المعسكر
(وهي خدمة الاحتياط الرابعة بالنسبة لي) وحسب قوانين صدام انذاك انا محكوم بالاعدام رميا لغيابي عن الحضور لاكثر من ثلاثة ايام وتنطبق علي
صفة الهارب من الخدمة العسكرية.
عندما غادرنا مدينة كربلاء قبل منتصف الظهر بقليل باتجاه ضواحي المدينة في منطقة
اسمها امام عون فوجئنا برتل من الدبابات والمدفعية الثقيلة وهي تتحرك باتجاه المدينة. بعد قليل تم استيقافنا من قبل اشخاص يلبسون الزي
المدني كونهم عناصر في الاستخبارات العسكرية. نظروا بداخل السيارة وامروني واخي الاصغر (الذي كان حينها طالبا في كلية الطب) بالخروج من
السيارة وسمحوا لوالدي (الذي كان يقود السيارة) بالاستمرار في رحلته بصحبة والدتي واختي وزوجتي وولدي الصغير.
وفي هذه المرحلة تم تقييد ايدينا وسوقنا الى ساحة ترابية فيها ما لا يقل عن 500 شاب ملقون على الارض جميعهم مقيدوا الايدي وبعضهم معصوب
العينين وهناك مجموعة من الجنود تجول بينهم لتاخذ الاسماء ومجموعة اخرى من الجنود تقوم بدك الارجل بالاجذية وصفع الوجوه والضرب بالبطون
اضافة الى الكلمات النابية المقرونة بالبصق بدون تمييز.
لم تكن هناك اي تهمة موجه لنا او حتى للملقون على الارض معنا ولكن ما فهمته ان معظم
المحضرون هم سكنة المنطقة الذين تم سحبهم من بيوتهم المنتشرة بين المزارع والمعامل والمصالح الاخرى. في هذه اللحظات بدات اتبادل مع اخي
الاصغر كلمات الوداع ادراكا منا اننا نعيش لحظاتنا الاخيرة خصوصا بعد ما خبرناه عن وحشية صدام وزبانيته. بالمقابل كان تفكيري مشغول بسلامة
والدي ووالدتي وزوجتي وولدي الصغير واختي.
في هذه الاثناء سمعنا دوي المدفعية الثقبلة موجهة حممها الى مدينة كربلاء وراينا
الدبابات تنتظم في ارتال هجومية باتجاه المدينة. لم اكن حينها اتصور ان يقدم الجيش على مهاجمة مدينة دينية فيها مزارات مقدسة فقد كان ذلك
خارج حدود مداركي في الحياة.
بعد حوالي الساعة رايت والدي من مسافة قادما الينا وبصحبته عقيد في الجيش العراقي
وعدد من الحماية حيث اصدر هذا الضابط اوامره الى الجنود لفك قيدنا. ولكن في تلك اللحظة تقدم ضابطان من الاستخبارات العسكرية ليمنعوهم من
التقرب الينا على اساس اننا اصبحنا معتقلين لدى جهاز الاستخبارات. وامام هذا الموقف ارتفع صوت العقيد غاضبا وبدا مصمما على تحريرنا وامر
ثلاثة من الانضباط العسكري لاحضارنا لديه. مع اقترابنا عنده قام بتسليمنا ورقة مكتوبة بخط يديه وموقع عليها تفيد بعدم التعرض الينا على
الطريق العام لغاية وصولنا الى بغداد.
لم نكن نتصور اهمية هذه الورقة حيث تبين لنا ان هناك عشرات من نقاط التفتيش التابعة
للجيش على طول الطريق الى بغداد ويمكن ان نلاقي نفس الاحتمال عند اي واحدة منها. على اية حال وبمجرد مغادرتنا هذه المنطقة راينا على الجانب
الاخر من الطريق موكب من السيارات السوداء يسير باتجاه كربلاء وتبين لنا فيما بعد ان الموكب كان لحسين كامل (صهر صدام) الذي جاء لياخذ كامل
القيادة العسكرية في عملية الهجوم على كربلاء. لا يفوتني ان اذكر اننا شاهدنا بام اعيننا مجاميعا من الشباب ملقون على الارض بانتظار مصيرهم
المجهول بالقرب من كل نقاط التفتيش المذكورة في اعلاه.
بعد وصولنا الى بغداد سألت والدي عن الاعجاز الذي اكتنف تحريرنا من الاعتقال وكان
رده بالنص كالاتي:
(عندما امرني ضابط الاستخبارات بالرحيل عنكما تحركت بالسيارة مسافة قصيرة ووقفت بجانب الطريق. ترجلت من السيارة ووجهت عيني باتجاه كربلاء
حيث لمحت بريق المنارتين الذهبيتين لمسجد الامام الحسين (ع) وحينها ناجيت ربي ان يسعفني لاستعيدكما اكراما لمقام وتضحية هذا الامام العظيم.
وكدت لا اكمل هذه المناجاة حتى اقترب مني جندي يسألني ان كانت لي حاجة وبدون تفكير طلبت منه ان يقودني الى امر هذه المنطقة العسكرية.
وبالفعل اخذني الى مدرسة بجانب الطريق حيث دخلت في غرفة جالس خلف مكتبها ضابط برتبة عقيد، فعرفته بنفسي. فما كان من هذا الضابط الا وقفز من
خلف مكتبه ليعانقني ويرحب بي ويقول لي ما نصه: وكيف لي ان انسى فضلك علي عندما انقذت حياتي اثناء اجراءك عملية جراحية لي قبل عامين في
مستشفى الحلة العام. انتهى حديث الضابط. اصبت بالذهول لهذا الحديث ابتداءا لاني طبيب اطفال متخصص ولم اعمل في الجراحة وانتهاءا لان كل حياتي
المهنية كانت في كربلاء ولم اعمل يوما واحدا في الحلة. وعلى اثر هذا الترحيب جاء معي هذا العقيد الى مكان اعتقالكم ليطلق سراحكم).
اصدقائي الاعزاء اود ان اشارككم هذه القصة لانني اشعر ان الحياة قد وهبت لي للمرة
الثانية خصوصا وانه لايغادر مخيلتي بعد هذه السنين الطويلة صور اولئك الشباب الذين كانوا يجهلون مصيرهم. وقد بلغني انه عندما قدم حسين كامل
الى المنطقة تولى القيادة العسكرية وامر حفارات الجيش بشق خنادق تم دفع هؤلاء الشباب الى داخلها واطلاق عدد محدود من الاعيرة النارية لتصيب
من تصيب في راسه او ليموت اختناقا بعد صب التراب عليهم وهم احياء. هؤلاء هم من عبدوا الطريق لاسقاط صدام وانا معكم بانتظار الفجر الجديد.
اود ان اؤكد للجميع ان هذه القصة سرد تاريخي امين للاحداث التي وقعت في ذلك اليوم
وانها ليست دعاية لشخص معين او ترويج لفكر او دين او مذهب وليس غرضها تفجير الغضب وانما للتذكير بجرائم ومظالم النظام البائد وبضحاياه.
في نهاية هذه القصة التمس كل فئات الشعب العراقي بكل فئاته ان يكرم ضحاياه الذين
فقدوا حياتهم في المعتقلات والمقابر الجماعية وان يهجروا لغة الثأر والانتقام لان ذلك لن يجلب الا المزيد من المأسي على الشعب كله ويفجر
الاحقاد ويزيد من مسلسل الحرب والارهاب والموت.