Home 

 شارع الرشيد جوهرة في يد فحام
 

 

 

      صورة شارع الرشيد اليوم .... وبالأمس الصورة خير من ألف كلمة

           

هذا الموضوع كتبته الزميلة الصحفية العراقية المبدعة ميسلون هادي وهي توصف حال شارع الرشيد موطن ذكريات العراقيين، وما آل اليه وضع الشارع في ظل الفوضى والخراب الذي يلفه.. تجد دول عربية وخليجية تبحث لها عن بناية قديمة لتقيم الدنيا ولا تقعدها اهتماما بهذا الأثر في حين ان شارع الرشيد بدنكاته الـ ألف ومائتين وأربع دنكات (على ذمة كاتبة المقال) يحوي تراثاً وذكريات ومواطن إبداع وعشق طالها الإهمال كما طال عموم بغداد التي صنفت بأنها المدينة الأسوأ عالمياً!!!

نتمنى أن ينهض البغداديون بإعادة الحياة والنضارة إلى شارع الرشيد قلب بغداد النابض (مجلة الگاردينيا)

وقد كتبت السيدة عزه كبّة تعليقاً على المقال قالت فيه:لقد قالت كاتبة المقال كل ما في قلبي، أنا التي أنتمي الى ذلك الزمن الذي شهد وعايش شارع الرشيد في أوج زهوه وشبابه.

      

شارع الرشيد - بشكل ما - هو صورة أخرى للجيل الذي عشق الثقافة وصادق الكتب، وتغنى بالشعر، وترنم بموسيقى شوبان وموزارت، وسهر حتى الصباح مع حفلات أم كلثوم....ذلك الجيل، الذي فارق الحياة رتل كبير منه، ما زال من بقي منه يسترجع تلك الأيام التي رحلت - يبدو الى غير رجعة

شارع الرشيد هو (كتاب) ضخم يضم بين صفحاته أكثر من ألف عام زاخرة بكل شيء: لكنه يركز على الأحداث المشرقة ترى، هل أصبح في حكم المستحيل أن يظهر شخص يحب هذا التراث أكثر من حبه لملئ جيوبه ويرفع صوته عاليا من أجل إعادة الحياة الى شارع الرشيد ؟

شارع الرشيد ، وجيلنا الذي مزقته ألأحداث - هما توأم، يشتركان في كل شيء ويتقاسمان الحزن وألأحباط الملازمان للحياة الآن، وفرح وبهجة أيام زهو الشارع العريق، ترى هل تحدث معجزة تعيد للجيل الحزين فرحه المفقود، وللشارع الجريح دماءه العريقة؟عــــزّه كُبـّــــــة

شارع الرشيد جوهرة في يد فحام (ميسلون هادي) الذين ينبهرون بـ(مولات) عمّان والشارقة ودبي وغيرها من (المولات)، قد لايعلمون أن أول (مول) أنشئ في الشرق الاوسط كان في شارع الرشيد ببغداد، وكان اسمه (اورزدي باك) ويتقدمه بواب أنيق يقف قرب الباب الدوارة، وتعمل فيه نخبة من الفتيات الجميلات اللواتي يرتدين الزي الموحد، وفيه (كافيه) يطل على نهر دجلة ومكتبة تستطيع من خلالها التزوّد بأحدث الكتب العربية والأجنبية عن طريق (الأوردر) أو بشكل مباشر..والذين ينبهرون بمكتبات العالم التي تحوي على أحدث الكتب قد لايعلمون أن مكتبة (مكنزي) في شارع الرشيد كانت توفر للقراء الكتب الاجنبية من كل حدب وصوب.

 
 

أما خانات الإنتيكات والسجاد والمصوغات الفضية والذهبية والنحاسية ففيها ما لايمكن العثور عليه حتى في أهم شوارع التحف في اليابان وإيطاليا أو إسبانيا.. تلك المظاهر اندثرت أو كادت لولا تلك الصور المسحورة التي لاتزال موجودة في ذاكرة آخر جيل من الكتاب والفوتوغرافيين والروائيين الذين عاصروا مجد هذا الشارع وخلدوه في مدوناتهم كفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ويوسف العاني ولطفية الدليمي وحسين محفوظ وباسم عبد الحميد حمودي وعزيز الحجية وأمين المميز وصادق الأزدي وجلال الحنفي وعلي عبد الأمير عجام وعادل العرداوي وفؤاد قزانجي وعماد عبد السلام وجبرا ابراهيم جبرا وغيرهم کثیر.. ناهيك عن مئات بل آلاف الصور الفوتوغرافية المؤبدة بأنامل أرشاك وعبوش وجان وإمري سليم وناظم رمزي وعلي طالب وفؤاد شاكر وعبد علي مناحي والمصور الأهلي عبد الرحمن

 

والحمد لله إنهم إلتقطوا تلك الصور التي شكلت ناووساً لمعالمه الجميلة وجعلتها تبدو قادمة من كوكب آخر كان فيه للجمال مكان وللذوق مكان والبغددة مكان... ألف ومئتان وأربع دنكات بين دنكة ودنكة معلم حضاري في غاية الكبرياء والهدوء


 

فتاح باشا .. وكعك السيد .. وحسو أخوان.. وسنترال سينما ...والقشلة ... وخان مرجان...  وأسواق الشورجة... والسوق العربي.. والصفارين والبزازين والمستنصر والمتنبي والسراي وسينمات ريكس وروكسي والزوراء والوطني ورويال وأورزدي باك وحافظ القاضي..

 
 

وتسجيلات الجقمجي ومقاهي البرازيلية والسويسرية ومكتبة مكنزي ومحل جواد الساعاتي، أول مسلم امتهن بيع الساعات في شارع الرشيد بداية الأربعينات، وكان محله قريباً من المكان الذي حاول صدام حسين فيه اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959

تبعه ابنه ناجي جواد في افتتاح محل للساعات في ساحة حافظ القاضي عام 1948


 

بغداد مبنية بتمر في كل مدن الخليج العربي يبحثون عن التاريخ بشمعة جبارة لكي يحوّلوا داراً قديمة إلى بيت تراثي أو داراً عمرها بضعة عقود الى متحف، ونحن لدينا بغداد الممتدة الى العام 762 الميلادي ولا أحد يلتفت إليها مع الأسف إلا بحدود لا تليق بتاريخ هذه المدينة التي كانت ذات يوم مدينة السلام...


 

غير أن الناس كانوا يسمونها في الغالب «مدينة المنصور» نسبة للخليفة أبو جعفر المنصور الذي شيّدها. كما أطلقوا عليها وعلى ما شملته من أبنية أخرى عند توسعها «بغداد» وهو الاسم الذي كان يطلق على هذه المنطقة منذ أيام البابليين..تلك هي بغداد التي قال عنها الملا عبود الكرخي (بغداد مبنية بتمر.. فلّش واكل خستاوي

أما شارع الرشيد شريان بغداد الحيوي فكان شاهداً على دخول القوات الإنجليزية لبغداد عام 1917م وعلى الكثير من تظاهرات ووثبات العراق المناهضة لذلك الاحتلال، فقد شُق الشارع خلال الحكم العثماني، وعرف أولا باسم (هندنبرغ) ثم شارع (خليل باشا جادة سي) نسبة لخليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعا باسمه عام 1910 تحول اسمه فيما بعد الى شارع الرشيد، نسبة للخليفة العباسي هارون الرشيد، ويكاد يختصر هذا الشارع تاريخ مدينة دار السلام التي كانت أم الدنيا والأسم الذي تشتق منه صفة الدلال ولكننا نسينا ذلك التبغدد حتى قال لنا أردوغان وهو يخطب أمام البرلمان العراقي أن الأتراك لديهم مثل مشهور يقول :

(لا حبيبة إلا الأم ولا مدينة إلا بغداد)

 

من شارع الرشيد تنمو أهم الجسور التي تربط بين الكرخ والرصافة كجسر الجمهورية الذي يقابل نصب الحرية وجسر الاحرار الذي يربط حافظ القاضي بالصالحية ثم جسر الشهداء الذي سمي بهذا الاسم تخليداً للشهداء الذين سقطوا عليه في وثبة كانون وهو الذي يربط منطقة السراي بساحة الشهداء وباب السيف وسوق الشواكة.  وفيه رثى الجواهري أخاه جعفر الذي استشهد في تلك الوثبة بالقصيدة التي يقول مطلعها:«أتعلم أم انت لاتعلم  بأن جراح الضحايا فم» أما باقي المساجد والخانات والمطابع والتكايا فلكل واحد منها قصة وحكاية، فقد شق شارع الرشيد طريقه بين أهم الامكنة التراثية، وأقدم الجوامع والكنائس والمباني الحكومية، كجامع مرجان الواقع في باب الأغا وجامع السيد سلطان علي الذي سميت إحدى شرائع دجلة باسمه، وجامع الحيدرخانة الذي كانت تنطلق منه الخطب الوطنية الحماسية، وجامع المُرادية الذي يقع في بداية الميدان


 

وطوب أبو خزامة الذي كانت تعلق فيه خرق النذور ومقر وزارة الدفاع التي يقول عنها الظرفاء إنها تقع مقابل لبن أربيل، والمدرسة المستنصرية التي تصل إليها بطريق يحيط به خان مرجان على جهة اليمين وخان علي صائب الخضيري على جهة اليسار ثم تليهما دربونة فيها خانات تجارية تسمى دربونة (النملة) وتتصل بشارع المستنصر الذي يسمّيه العامة بشارع النهر والذي يضم أشهر محال الصاغة وتتفرع منه أشهر أسواق القماش والاكسسوارات وأقمشة الستائر والموبيليا... وفيه تقع أيضاً عمارة الدامرجي التي يذكرها جبرا ابراهيم جبرا في كتابه (شارع الأميرات) فيقول إنه عقد قرانه على زوجته لميعة في المحكمة القريبة من تلك العمارة مستقلاً هو ولميعة عربة ربل في شهر تموز شديد الحرارة

 

باقي أسواق الرشيد تعد بالعشرات كسوق الشورجة وشارع المتنبي وسوق الصفارين وأسواق الساعاتية و البزازين والخفافين وباعة الجام والمرايا والعدد المنزلية والصيدليات ومحلات ومحال الخط والتجليد والصيرفة ومغازات بيع الملابس ومستلزمات العرائس ومحال الخياطين وكان من أشهرهم أحمد خماس وشوقي داود ومحمد نوشي وقبل هذا الجيل من الخياطين كان هناك الخياط البيروتي علي رضا...


 

والخياط الهندي (جي اس فارما) الخياط الخاص للملك فيصل الأول ولايذكر شارع الرشيد إلا وتذكر محال المصورين وأشهرهم الأهلي وعبوش وأرشاك وبابل لصاحبه الأرميني جان مصور الرؤساء والملوك وهناك أيضاً محل حكمت الحلي حلاق الملوك والباشوات الذي تأسس في 1954..

 

 
 

وثمة محال يعود تاريخها إلى زمان أقدم من ذلك التاريخ وأشهرها كعك السيد الذي تاسس عام 1906 وشربت الحاج زبالة الذي تاسس عام 1910.في هذا الشارع أيضاً كانت توجد المطاعم والاوتيلات والگازينوهات والمقاهي الشتوية والصيفية التي لم يتبق منها الكثير ..


 

وكان بينها البرلمان وحسن عجمي والبرازيلية والسويسرية والزهاوي وام كلثوم وكوكب الشرق، وكانت تقع في شارع الرشيد المدرسة المأمونية ومدرسة الصنائع والمعهد العلمي الذي كان يهيئ الجرائد للقراءة المجانية نهاراً ناهيك عن مقرات الأحزاب والمطابع التي يربو عددها على التسعين أغلبها في محلة جديد حسن باشا والتي كانت تصدر منها عشرات الصحف كل يوم وهناك المتحف البغدادي أيضاً ومتحف الرواد الذي يضم عشرات اللوحات التي سرقت في اعمال السلب والنهب وبيت أمل الخضيري البغدادي التراثي الذي كانت تقام فيه الأمسيات الموسيقية والمعارض التشكيلية

فضلا عن كل ذلك توجد في شارع الرشيد أقدم الكنائس فيبغداد ككنيسة الكلدان (أم الأحزان) في عقد النصارى وكنيسة اللاتين قرب سوق الشورجة وكنيسة مريم العذراء في ساحة الميدان

 

 

شارع الرشيد ليس له في الألمِ مثيلٌ! مئات المقالات كتبت عن تدهور شارع الرشيد، ولا نريد أن نزيد عليها حرفاً واحداً ولكننا نريد فقط أن نسأل هل يوجد شارع في العالم ولا حتى الشانزليزيه يشبه هذا الشارع الذي توجد فيه معالم تراثية لا تلتئم بهذا الشكل حتى في حي خان الخليلي أو في منطقة سوق الحميدية أو أي سوق آخر في العالم.. نعم يوجد في شارع الرشيد من المعالم الحضارية ما يعادل عدد دنكاته.. دنكة.. دنكة، ولكنه لم ينل مايستحقه من العناية والإهتمام..والكثير من كتاب القصة والرواية كجبرا ابراهيم جبرا وعلي بدر وشاكرالانباري ورياض قاسم وعبد الرحمن الربيعي وعبد الستار ناصر وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان تذكروا شارع الرشيد بحاناته ومقاهييه وازقته الخلفية.. والكاتبات على وجه التحديد كان لهن شغف بشارع الرشيد من نوع آخر.. فهن لايدخلن إليه إلا من جهة الروح.. ويسكبن حنان القلم عليه من جهة أخرى هي جهة القلب فهاهي لطفية الدليمي في (قصة الريح) من مجموعتها الصوفية (مالم يقله الرواة) تحاول إعادة تشكيل شارع الرشيد من حلمها بفراديس مفقودة فترسمه بالكلمات والصور وتمنحه صيغاً حضارية ثم تهب ريح عاتية وتمحو ما رسمته ولكنها تحاول مراراً أن تعيد صياغة الحلم دون أن تيأس أو تتراجع كأنها كانت تتوقع خرابه الراهن وتعود سيدة (سيدات زحل) لتجعل شارع الرشيد أحد أبطال تلك الرواية المهمين عبر أحداث كثيرة تجري فيه وهو مذكور في معظم فصول تلك الرواية

   

 

أما الشاعرة والروائية نضال القاضي فتقول: انا لا استطيع العيش من دون العراق، فالعراقي ما ان يخرج حتى يُصاب بـ (الهومسك) ...أنا كاتبة أجد نفسي هنا، اشعر بحنين غير طبيعي، هناك الكثير من القضايا المعلقة عندي على صعيد الكتابة، هناك رواية لديّ مكانها شارع الرشيد، اين أجد الرشيد في البرازيل؟ نعم لايوجد شارع الرشيد في البرازيل ولكن عشاقه هم الذين طاروا الى تلفات الدنيا ..دارت الأعصر على بغداد وأصبحت ذاكرتها في الشتات.. وشارع الرشيد أصبح كالجوهرة في يد فحام لايعرف ماذا يصنع بها.. ومايرتكب بحقه ليس إهمالاً وحسب ولكنه اغتيال للتاريخ... قبل أيام كنت في زيارة لشارع النهر وسرت من حافظ القاضي باتجاه سوق دانيال المكمل للنهر باتجاه المستنصرية.. كنت أحاول استرجاع لحظات السعادة التي كنت اشعر بها كلما مشيت من هناك.. ولكن المكان تبعثر والزمان تعثر وهالني مارأيت من العباءات السود المعروضة في كل مكان وتساءلت من أدخل إلى حياتنا كل هذا السواد؟ ولماذا؟ هل نحن في بغداد أم في مدينة أخرى؟؟

 

 

حين وصلت الى ساحة الرصافي كانت الفوضى تحيط بشاعر التمرد والتحرر ..والحمالون يتدافعون في كرنفال الدخاخين والأوساخ والزحام الرهيب..

ساقية من الماء الآسن كانت تجاور المدرسة المستنصرية.. الجوالون يتراكضون في نهر الشارع، باعة شحاطات وملابس وكل أنواع البضائع، ومخلفاتهم أصبحت كبركة من الصمغ المتلاصق مع بعضه بشكل مقرف.. والحواجز لاهنا ولاهناك.. شعرت أنني في شارع آخر ليس فيه عبق إلا روائح القاذورات.. أكيد أن الناس يتحملون جزءاً من المسؤولية ولكن من أوصلهم الى هذه الدرجة من اللامبالاة؟ أكيد الحب ليس هو السبب.. فالقلب تارة هنا وتارة هناك