شارع الرشيد هو (كتاب) ضخم يضم بين صفحاته أكثر من ألف عام زاخرة بكل شيء: لكنه يركز على الأحداث المشرقة ترى، هل أصبح في حكم المستحيل أن يظهر شخص يحب هذا التراث أكثر من حبه لملئ جيوبه ويرفع صوته عاليا من أجل إعادة الحياة الى شارع الرشيد ؟
شارع الرشيد ، وجيلنا الذي مزقته ألأحداث - هما توأم، يشتركان في كل شيء ويتقاسمان الحزن وألأحباط الملازمان للحياة الآن، وفرح وبهجة أيام زهو الشارع العريق، ترى هل تحدث معجزة تعيد للجيل الحزين فرحه المفقود، وللشارع الجريح دماءه العريقة؟عــــزّه كُبـّــــــة
شارع الرشيد جوهرة في يد فحام (ميسلون هادي)
الذين ينبهرون بـ(مولات) عمّان والشارقة ودبي وغيرها من (المولات)، قد لايعلمون أن أول (مول) أنشئ في الشرق الاوسط كان في شارع الرشيد ببغداد، وكان اسمه (اورزدي باك) ويتقدمه بواب أنيق يقف قرب الباب الدوارة، وتعمل فيه نخبة من الفتيات الجميلات اللواتي يرتدين الزي الموحد، وفيه (كافيه) يطل على نهر دجلة ومكتبة تستطيع من خلالها التزوّد بأحدث الكتب العربية والأجنبية عن طريق (الأوردر) أو بشكل مباشر..والذين ينبهرون بمكتبات العالم التي تحوي على أحدث الكتب قد لايعلمون أن مكتبة (مكنزي) في شارع الرشيد كانت توفر للقراء الكتب الاجنبية من كل حدب وصوب.
أما خانات الإنتيكات والسجاد والمصوغات الفضية والذهبية والنحاسية ففيها ما لايمكن العثور عليه حتى في أهم شوارع التحف في اليابان وإيطاليا أو إسبانيا.. تلك المظاهر اندثرت أو كادت لولا تلك الصور المسحورة التي لاتزال موجودة في ذاكرة آخر جيل من الكتاب والفوتوغرافيين والروائيين الذين عاصروا مجد هذا الشارع وخلدوه في مدوناتهم كفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان ويوسف العاني ولطفية الدليمي وحسين محفوظ وباسم عبد الحميد حمودي وعزيز الحجية وأمين المميز وصادق الأزدي وجلال الحنفي وعلي عبد الأمير عجام وعادل العرداوي وفؤاد قزانجي وعماد عبد السلام وجبرا ابراهيم جبرا وغيرهم کثیر.. ناهيك عن مئات بل آلاف الصور الفوتوغرافية المؤبدة بأنامل أرشاك وعبوش وجان وإمري سليم وناظم رمزي وعلي طالب وفؤاد شاكر وعبد علي مناحي والمصور الأهلي عبد الرحمن
والحمد لله إنهم إلتقطوا تلك الصور التي شكلت ناووساً لمعالمه الجميلة وجعلتها تبدو قادمة من كوكب آخر كان فيه للجمال مكان وللذوق مكان والبغددة مكان...
ألف ومئتان وأربع دنكات بين دنكة ودنكة معلم حضاري في غاية الكبرياء والهدوء
فتاح باشا .. وكعك السيد .. وحسو أخوان.. وسنترال سينما ...والقشلة ... وخان مرجان... وأسواق الشورجة... والسوق العربي.. والصفارين والبزازين والمستنصر والمتنبي والسراي وسينمات ريكس وروكسي والزوراء والوطني ورويال وأورزدي باك وحافظ القاضي..
وتسجيلات الجقمجي ومقاهي البرازيلية والسويسرية ومكتبة مكنزي ومحل جواد الساعاتي، أول مسلم امتهن بيع الساعات في شارع الرشيد بداية الأربعينات، وكان محله قريباً من المكان الذي حاول صدام حسين فيه اغتيال عبد الكريم قاسم عام 1959
تبعه ابنه ناجي جواد في افتتاح محل للساعات في ساحة حافظ القاضي عام 1948
بغداد مبنية بتمر
في كل مدن الخليج العربي يبحثون عن التاريخ بشمعة جبارة لكي يحوّلوا داراً قديمة إلى بيت تراثي أو داراً عمرها بضعة عقود الى متحف، ونحن لدينا بغداد الممتدة الى العام 762 الميلادي ولا أحد يلتفت إليها مع الأسف إلا بحدود لا تليق بتاريخ هذه المدينة التي كانت ذات يوم مدينة السلام...
غير أن الناس كانوا يسمونها في الغالب «مدينة المنصور» نسبة للخليفة أبو جعفر المنصور الذي شيّدها. كما أطلقوا عليها وعلى ما شملته من أبنية أخرى عند توسعها «بغداد» وهو الاسم الذي كان يطلق على هذه المنطقة منذ أيام البابليين..تلك هي بغداد التي قال عنها الملا عبود الكرخي (بغداد مبنية بتمر.. فلّش واكل
خستاوي
أما شارع الرشيد شريان بغداد الحيوي فكان شاهداً على دخول القوات الإنجليزية لبغداد عام 1917م وعلى الكثير من تظاهرات ووثبات العراق المناهضة لذلك الاحتلال، فقد شُق الشارع خلال الحكم العثماني، وعرف أولا باسم (هندنبرغ) ثم شارع (خليل باشا جادة سي) نسبة لخليل باشا حاكم بغداد وقائد الجيش العثماني الذي قام بتوسيع وتعديل الطريق العام الممتد من الباب الشرقي إلى باب المعظم وجعله شارعا باسمه عام 1910 تحول اسمه فيما بعد الى شارع الرشيد، نسبة للخليفة العباسي هارون الرشيد، ويكاد يختصر هذا الشارع تاريخ مدينة دار السلام التي كانت أم الدنيا والأسم الذي تشتق منه صفة الدلال ولكننا نسينا ذلك التبغدد حتى قال لنا أردوغان وهو يخطب أمام البرلمان العراقي أن الأتراك لديهم مثل مشهور يقول :
(لا حبيبة إلا الأم ولا مدينة إلا بغداد)
من شارع الرشيد تنمو أهم الجسور التي تربط بين الكرخ والرصافة كجسر
الجمهورية الذي يقابل نصب الحرية وجسر الاحرار الذي يربط حافظ القاضي بالصالحية ثم جسر الشهداء الذي سمي بهذا الاسم تخليداً للشهداء الذين سقطوا عليه في وثبة كانون وهو الذي يربط منطقة السراي بساحة الشهداء وباب السيف وسوق الشواكة. وفيه رثى الجواهري أخاه جعفر الذي استشهد في تلك الوثبة بالقصيدة التي يقول مطلعها:«أتعلم أم انت لاتعلم بأن جراح الضحايا فم»
أما باقي المساجد والخانات والمطابع والتكايا فلكل واحد منها قصة وحكاية، فقد شق شارع الرشيد طريقه بين أهم الامكنة التراثية، وأقدم الجوامع والكنائس والمباني الحكومية، كجامع مرجان الواقع في باب الأغا وجامع السيد سلطان علي الذي سميت إحدى شرائع دجلة باسمه، وجامع الحيدرخانة الذي كانت تنطلق منه الخطب الوطنية الحماسية، وجامع المُرادية الذي يقع في بداية الميدان
وطوب أبو خزامة الذي كانت تعلق فيه خرق النذور ومقر وزارة الدفاع التي يقول عنها الظرفاء إنها تقع مقابل لبن أربيل، والمدرسة المستنصرية التي تصل إليها بطريق يحيط به خان مرجان على جهة اليمين وخان علي صائب الخضيري على جهة اليسار ثم تليهما دربونة فيها خانات تجارية تسمى دربونة (النملة) وتتصل بشارع المستنصر الذي يسمّيه العامة بشارع النهر والذي يضم أشهر محال الصاغة وتتفرع منه أشهر أسواق القماش والاكسسوارات وأقمشة الستائر والموبيليا... وفيه تقع أيضاً عمارة الدامرجي التي يذكرها جبرا ابراهيم جبرا في كتابه (شارع الأميرات) فيقول إنه عقد قرانه على زوجته لميعة في المحكمة القريبة من تلك العمارة مستقلاً هو ولميعة عربة ربل في شهر تموز شديد الحرارة
باقي أسواق الرشيد تعد بالعشرات كسوق الشورجة وشارع المتنبي وسوق الصفارين وأسواق الساعاتية و البزازين والخفافين وباعة الجام والمرايا والعدد المنزلية والصيدليات ومحلات ومحال الخط والتجليد والصيرفة ومغازات بيع الملابس ومستلزمات العرائس ومحال الخياطين وكان من أشهرهم أحمد خماس وشوقي داود ومحمد نوشي وقبل هذا الجيل من الخياطين كان هناك الخياط البيروتي علي رضا...
والخياط الهندي (جي اس فارما) الخياط الخاص للملك فيصل الأول ولايذكر شارع الرشيد إلا وتذكر محال المصورين وأشهرهم الأهلي وعبوش وأرشاك وبابل لصاحبه الأرميني جان مصور الرؤساء والملوك وهناك أيضاً محل حكمت الحلي حلاق الملوك والباشوات الذي تأسس في 1954..
وثمة محال يعود تاريخها إلى زمان أقدم من ذلك التاريخ وأشهرها كعك السيد الذي تاسس عام 1906 وشربت الحاج زبالة الذي تاسس عام 1910.في هذا الشارع أيضاً كانت توجد المطاعم والاوتيلات والگازينوهات والمقاهي الشتوية والصيفية التي لم يتبق منها الكثير ..
وكان بينها البرلمان وحسن عجمي والبرازيلية والسويسرية والزهاوي وام كلثوم وكوكب الشرق، وكانت تقع في شارع الرشيد المدرسة المأمونية ومدرسة الصنائع والمعهد العلمي الذي كان يهيئ الجرائد للقراءة المجانية نهاراً ناهيك عن مقرات الأحزاب والمطابع التي يربو عددها على التسعين أغلبها في محلة جديد حسن باشا والتي كانت تصدر منها عشرات الصحف كل يوم وهناك المتحف البغدادي أيضاً ومتحف الرواد الذي يضم عشرات اللوحات التي سرقت في اعمال السلب والنهب وبيت أمل الخضيري البغدادي التراثي الذي كانت تقام فيه الأمسيات الموسيقية والمعارض التشكيلية
فضلا عن كل ذلك توجد في شارع الرشيد أقدم الكنائس فيبغداد ككنيسة الكلدان (أم الأحزان) في عقد النصارى وكنيسة اللاتين قرب سوق الشورجة وكنيسة مريم العذراء في ساحة الميدان