Home 

مقالة عن كتاب وعاظ السلاطين للدكتور علي الوردي

عبدالوهاب الحمادي

 

صدر كتاب وعاظ السلاطين في عام 1954 ابان العهد الملكي في العراق.. وقد احدث ضجة كبيرة في حينه، واخذت تلك الضجة اشكالا عديدة بالرد. فصدر مايزيد عن خمسة كتب.. وعشرات المقالات والمنشورات في الصحف والمجلات.. ولا يزال الوردي وهو في قبره مثيرا للجدل، حتى يومنا هذا..
طرح الوردي امورا مختلفة، منها ان منطق الوعاظ الافلاطوني هو منطق المترفين والظلمة. وان التاريخ لايسير على اساس التفكير المنطقي انه بالاحرى يسير على اساس ما في طبيعة الانسان من نزعات اصيلة لاتقبل التبديل، وان الاخلاق ماهي الا نتيجة من نتائج الظروف الاجتماعية..

 

يقول الوردي: ان الديمقراطية لم تنشأ في الامم الحديثة من جراء افكار صبيانية تحذلق بها الواعظون، انما هي في الواقع نتيجة معارك طاحنة قامت بها الشعوب في وجوه حكامهم المستبدين والديمقراطية لم تفتر عن الثورة حتى اليوم. فتاريخها عبارة عن سلسلة متلاحقة من الثورات لانهاية لها. ان نظام التصويت الذي تقوم عليه الديمقراطية الحديثة، ليس هو في معناه الاجتماعي الا ثورة مقنعة والانتخاب هو في الواقع ثورة هادئة. حيث يذهب الناس الى صناديق الانتخاب، كما كان اسلافهم يذهبون الى ساحات الثورة. فيخلعون حكامهم او يستبدلون بهم حكاما اخرين. ويقول المسترليمان الكاتب الاميركي المعروف”ان ثوار الامم الديمقراطية يستخدمون اوراق التصويت بدلا من رصاص البنادق“ Ballots instead of bullets


ان من النادر ان تسمع بحدوث ثورة مسلحة في البلاد الديمقراطية الحقة انهم لايثورون لان في ميسورهم، ان يجدوا للثورة طريقا اخر،  هو طريق التصويت الهادئ، الذي لايتلاعب به الحكام الادنياء. فهم يبدلون حكامهم حينا بعد اخر، فلا تحدث فتنة ولا تسيل دماء. والحكومة التي لاتدرب رعاياها على اتباع طريق الثورة السلمية الهادئة، سوف تجابه من غير شك ثورة دموية عنيفة في يوم من الايام..


كان السلاطين في عهودهم الغابرة، يستخدمون نوعين من الجلاوزة ”جلاوزة السيف“ و”جلاوزة القلم “. وكانوا يبذلون من الاموال في رعاية جلاوزة القلم مثلما يبذلون في رعاية ”جلاوزة السيف“. فهم يبنون الثكنات والقلاع ومرابط الخيل في نفس الوقت الذي يبنون فيه المساجد والمدارس ورباطات الدراويش..
ان النزاع بين الشيعة والسنة، اتخذ شكل التعصب لآل النبي من جهة،....... ولاصحاب النبي من الجهة الاخرى.. فاهل السنة تعصبوا للاصحاب، بينما تعصب الشيعة للآل. واخذ كل فريق يغالي في تمجيد من تعصب لهم. التزم اهل السنة بالحديث النبوي القائل ”ان اصحابي بمنزلة النجوم في السماء، فايهما اخذتم به اهتديتم، واختلاف اصحابي رحمة“ والتزم الشيعة من الجانب الاخر بالحديث القائل ”انما مثل اهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق“.
اولئك جعلوا مقياس الفضيلة في الصحبة النبوية، وهؤلاء جعلوه في البيت العلوي.. اخذ اهل السنة يطلقون على الشيعة لقب ”الروافض“ باعتبار انهم رفضوا الصحابة، بينما اطلق الشيعة، على اهل السنة”النواصب“ باعتبار انهم نصبوا العداء لاهل البيت وحالفوا اعداءهم الامويين.. وبهذا تمادى الغلو من كلا الجانبين واصبح داء اجتماعيا وبيلا..


لم يكن الشيعة ”روافض“ في اول امرهم.. وكذلك لم يكن اهل السنة ”نواصب“ وانما هو التطرف والتعصب.. وسمما بالتراكم الفكري الذي ادى بهما الى هذه النتيجة المحزنة.. واذا اراد الشيعة واهل السنة في هذا العصر ان يتحدوا، فليرجعوا الى شعارهم القديم، الذي اتخذه زيد بن علي وابو حنيفة. اي شعار”الثورة على الظلم في شتى صوره “ لافرق في ذلك بين الظالم الشيعي او الظالم السني. ان هدف الدين هو العدل الاجتماعي، وما الرجال فيه الا وسائل لذلك الهدف العظيم.

جاء البويهيون الى بغداد في القرن الرابع، فاضافوا بمجيئهم الى الطنبور نغمة جديدة كان البويهيون من الشيعة، اما خلفاء بني العباس فكانوا من اهل السنة وبهذا اجتمعت في بغداد طائفتان من السلاطين. خلفاء سنيون وامراء شيعة، فاصبح البلاء بهذا الحكم المزدوج عظيما كان سلاطين الصوفيين لا يختلفون اختلافا اساسيا عن سلاطين  العثمانيين. كلهم يعبدون الله وينهبون عباد الله . حدثت المفارقة الكبرى على ضفتي دجلة، فالامام الاعظم مدفون على الضفة اليسرى. والامام الكاظم مدفون على الضفة اليمنى، ونسيَ الناس ان اماميهما كانا من حزب واحد اذ كانا من اعداء السلاطين... عارض ابو حنيفة المنصور بنفس الشدة التي عارض بها موسى الكاظم حفيده هارون الرشيد.. وقد مات كلاهما في سجن هذين السلطانين الظالمين..
فرق السلاطين بينهما بعد الموت. اذ لم يستطيعوا ان يفرقوا بينهما في الحياة.. ولله في خلقه شؤون..
 

قالوا ”ان السياسة مادخلت في شيء الا افسدته “ فدخلت وافسدت مختلف المذاهب والاديان.
لقد ان لابناء الجيل الجديد. ان يتعظوا بعبر الماضي، وان يسلكوا من جديد مسلك قادتهم الاولين في ثورتهم على الظلم بشتى صوره. ان الاخلاق ماهي الا نتيجة من نتائج الظروف الاجتماعية، فالغربيون لم تتحسن اخلاقهم، الا بعد ان تحسنت ظروفهم الحضارية والاقتصادية.

 

من الظلم ان نطلب من الكادح الذي يعيش في حالة عوز وفقر وكوخ حقير، ان يكون مهذبا او نظيفا او حاذقا... انه مضطر ان يكذب وان يداجي وان يسرق لكي يداري معاشه العسير.. يريد الوعاظ من الفقراء ان يكونوا أولي اخلاق فاضلة، ولعلهم يقصدون بذلك تغطية ما يقوم به سادتهم من ظلم، فهم يضعون امام الناس هدفا مستحيلا لكي يلقوا عليهم الحجة فيما يعانون من ظلم وبؤس، ثم يقولون لهم ”لقد جرت اخلاقكم عليكم البلاء“.


بعد وقت قليل من صدور ”وعاظ السلاطين“ احدث ضجة كبيرة في الاوساط الدينية والاجتماعية والثقافية والسياسية.. فبدأت المؤلفات تصدر بانتقاد الوردي وتحريم قراءة مؤلفاته.. وكان من اشد المعارضين للوردي في الكاظمية ”جماعة الخالصي“ حيث اهدر دم الورد. ويقول الوردي تعرضت للاغتيال والقتل مرتين والله انجاني منهما “.. اصدر نوري السعيد امرا بمصادرة كتاب الوردي وتم سحبه من جميع مكتبات بغداد ومنع من التداول في الاسواق.. بعد ذلك اعتقل الوردي وحبس لمدة ثلاثة ايام في مركز شرطة الاعظمية.. بعد ذلك اتصل وزير العمل والشؤون الاجتماعية بعائلة الوردي واخبرهم بان اعتقاله هو حفظ على حياته وكان عبدالرسول الخالصي الوزير الذي الغي البغاء العلني في العراق في عهده.. بعد ذلك اتفق ان يقوم الوردي بالحضور في مدرسة الخالصي في الكاظمية واجراء مناظرة معه لشرح ارائه وما جاء في كتابه من نقد ديني واجتماعي.. استمر النقاش والجدال الى ساعات متأخرة ليلا.. استطاع الوردي ان يقنع معارضيه بانه كتب ما حدث في تاريخ المجتمع العربي والاسلامي كباحث اجتماعي وكان محايدا.. وخرج الوردي من تلك المناظرة فائزا واوصلوه الى داره مكرما معززا ومن جهة اخرى قام الشيخ جلال الحنفي بهجوم عنيف على الوردي بمقالات عديدة. والف كتابا خاصا في نقد الوردي لارائه الجريئة.