في الموقف السياسي والديني يفترض أن تتشكل الرؤية خارج حدود الأنا لارتباط الموقف بالقواعد الاجتماعية أكثر من تعلقه
بفرد أو أفراد معدودين، فالسياسي هو واجهة إجتماعية بالمقام الاول لانه لا يمثل شريحة أو طائفة أو فئة بل هو ممثل للشعب، وذات الامر بالنسبة للاشخاص المتعاملين مع الدين والذين
نطلق عليهم جزافاً لفظ (رجل دين) لاني الدين أصلاً كعقيدة وشريعة وموقف إنساني لا يختص برجل أو مجموعة من الرجال، بل هو مساحة كونية تشتمل على جميع المواقف والرؤى، ولكني سأستعمل
هذا المصطلح فقط للتعبير، وقد اقول عنه أيضا الرجل المتعامل بالموقف الديني.
لما كان كل من السياسي والديني ملزماً في الوصول لهذا الموقع بان يكون في خدمة المجتمع فكراً ومنهجاً وتطبيقاً، وجب عليه عقلاً أن يحقق طموحات المجتمع والارتقاء بالوعي الفردي
والاجتماعي وصولاً لتحقيق مستويات عالية من العدالة تتكامل بمرور عناصر الموقف الطبيعي.
فكل من السياسي والديني لم يأتي إلا من خلفية عناصر التكوين الطبيعي للمجتمع، إلا أن وصول كل منهم لموقع يشكل جزءا من قدرة السيطرة والتوجيه في الراي والموقف الاجتماعي، لا يعني أن
السياسي والديني صار يمتلك رؤية خارج الموقف الاجتماعي تسمح له بان يصبح سيداً بدلا من أن يكون خادماً للرؤية التي تبناها المجتمع خلال عملية إيصاله لموقع السلطة.
نحن لا نحاول في هذه الرؤية والتي هي جزء من مقدمة لدراسة أوسع أن نحلل شخصية السياسي أو الديني، بقدر محاولتنا فهم لماذا يصر كل من السياسي والديني على تبني موقف الأنا في قبال
موقف نحن أو المجتمع؟
إشكالية فهم السياسي للعلاقة مع المجتمع:
نلاحظ أن الطروحات المنادية بالتحرر والتطور وتحقيق العدالة والتي يحملها السياسي أو يتبناها إعلامياً خلال الحملات الانتخابية سرعان ما تتلاشى أمام مغريات المنصب، والتراكم غير
الطبيعي للثروة، وهو يتجاهل مفهوم السياسة باعتبارها قيادة منظمة تسير وفق مخطط عقلاني يتطور وفق طموحات الامة وحاجتها لتحقيق صيرورتها في غائية الحياة والتقدم.
هو يتجاهل كل ذلك حين يصبح مفهوم السياسة ضيقاً منغلقاً على ذاته حين تطفح سلبيات الأنا على سطح إمكانيات المنصب لتصيب كل شيء بالعفن، فتتراجع العلاقة بين السياسي والمجتمع، حيث
تصبح صورة المجتمع مشوهة في ذهنية السياسي لانه بات لا يرى فيه إلا عدو محتمل يريد إستنفاد طاقته في سبيل تحقيق أهداف وغايات لم يعد يؤمن بها وإن كان قد طرحها كمنهج إنتخابي في
المرحلة الأولى.
الأنا بالنسبة للسياسي لا تعني فقط المنصب والموقع على خارطة
السلطة، ولكن تعني بالمقام الأول القدرة على الإستفادة من المنصب والموقع في تحقيق حلم البقاء اللامتناهي لأن البقباء والاستمرار في كرسي السلطة يعني الكثير بالنسبه له. فهناك
وجاهة المنصب وتسليط الاضواء إعلامياً، وهناك الثروة التي ستتمدد لتشمل افارد العائلة والمحسوبين عليه ضمانا للمزيد من السلطة وإستمرار القهر.
الأنا تعني ان السياسي فسخ العلاقة بينه والمجتمع وانه هو وحده
الحاكم والقاضي والجلاد، وهو وارث فكر المجتمع وثرواته والممثل الوحيد له حتى وإن رفض المجتمع هذا التمثيل وطالب السياسي بمغادرة موقعه، إلا إننا نراه يتحصن بقلاع من الرشوة
والمنتفعين الذين هم مجرد قطط تسمينها لهذا اليوم لتطارد وتأكل فئران المجتمع الرافضين لمنهج السياسي المتخم بالأنا.
الأنا تعني البقاء، وتعني الصراع باستعمال كل الأدوات والأسلحة، ولا مانع من أن يموت البعض، وأن يدخل آخرون المعتقلات، أو أن يتم
تشويه سمعة المناوئين وتشريدهم وعوائلهم، ولا مانع في الرشاوى تدفع لهنا وهناك، ففي السياسة بالنسبة له كل شيء مباح لانها فن الصراع من أجل البقاء. وهنا لا نريد ان نظلم
ماكيافيللي مرة أخرى لأن هذا سياسي لا علاقة له بالفكر، ولا يناقش بالمناظير الفلسفية والعقلية فالسلطة عمياء بكماء صماء لا تقرأ ولا تفكر.
إشكالية الديني في إختزال الوجود بالأنا:
لا يشمل هذا التفسير كل الرجال المتعاملين بالموقف الديني عقيدةً وشريعةً ومنهاجاً عقلياً وهؤلاء هم ندرة الندرة، ولكن يشمل تلك المساحة الواسعة منهم بل أغلبيتهم ممن صار
العملي الديني بالنسبة له مجرد صياغات لفظية، أو حركات وإيماءات لا توحي باي معنى، أو مجرد عمامة وجبة لبسها لظروف معينة في حكاية الزمان والمكان.
الكثير من هؤلاء يمتلك شهرة وضعية في المراكز والمجالس والمنابر ولا يخلو من تأليف ومحاضرات بين نخبة معينة لا يستطيع
تجاوزها الى ما هو أوسع لانه لا يمكن أن يتخلص من صراعه المزمن مع نزعة الأنا، وحتى أن توسع وإنتشر يبقى محافظاً على صورته التي تظهر كبيرة في كل وقت. فقد قيل له ان التوسع مهم،
لكنه كان يدرك بطبيعته أنه ذلك مخالف للأنا التي لا يخرج عن دائرتها فتصبح عملية التوسع لا قيمة علمية أو موضوعية لها.
أمثال هؤلاء ارادوا إختزال العلاقة بين الله والخلق في وجودهم هم فقط، فلايمر ما لله إلا بهم، ولا تتم الاستجابة
الالهية للناس إلا من خلالهم وعبر منظورهم الفكري الغارق في الأنا، فهم الله والمجتمع والوجود والتكوين في ذات الوقت.
هذا الإستغراق في حصر العلاقة مع الله بالديني يستلب كل مفاهيم وقيم وعلاقات الانسان بالخالق
والوجود، فالخالق تعالى شأنه لم يرد للاديان لتكون عائقاً أمام العقل، كما لم يردها أن تثير الفوضى بين الناس، باعتبار ان الأديان جاءت لتنظيم وتفسير العلاقة بين الانسان
والخالق، وهي علاقات لا متناهية، ولكن الاشكالية تكمن في محاولة البعض حصرها بالديني أو بعدد محدد من العلاقات (بعضهم قال إثنان وبعضهم قال ثلاثة وآخر قال ستة) وأنها لا تمر إلا
من خلال طروحاته هو، وهنا نرى أنها بالتالي طروحات شخصية لا علاقة لها بالخالق إلا من جوانب محدد تخصه هو أي الديني لانه ليس ممثل السماء على الأرض كما يرجو في إقناع الاخرين
بعكس هذه الفكرة.
لاشك ان الفكر الديني بالأساس بسيط وغير معقد، ففي العصر الاسلامي الأول كان التلفظ بالشهادة وقول: (لا إله إلا الله
محمد رسول الله) كافياً ليكون الانسان مسلماً ومؤمناً ولو مات على هذا ولم يعرف من معاني العقيدة والشريعة إلا هذا اللفظ ولو شفاهاً فانه سيموت مسلماً مؤمناً كما تنص الكثير من
الاحاديث والاخبار والروايات في هذا المجال، وكما ورد في وفاة العديد من الاشخاص على هذا الحال، مما يدل على بساطة الدين وعدم تعقيده وعدم حصرة بشخوص رجال محددين.
فالأنا في موقف الديني يعني طاعة الناس له، وتعني إستلاب شخصيات
الاخرين من خلال دمجها في شخصيته فكل اعمالهم وإبتكاراتهم ستنسب له، وسيعني أنه يوحي لهم بأن ذاته تعني التماهي مع الله ومع الشريعة والعقيدة فيصير هو الحاكم بأمره،
وسيعني أنه ينظر للعلماء نظرة دونية فهم في موقفه أقل منه شأنا لانه محاط بالاتباع وتجبى له الاموال باسم الحقوق،
والأنا تعني الاستمرار في العيش على كد الاخرين، لانه لا يعمل
بيديه لاجل كسب الرزق فهو في الأنا ناشر للمعرفة وعلى الاخرين أن يقدموا له ويتبرعوا باموالهم وعطياتهم كي يستمر بعمله وإن كان كل ذلك سيخرج باسمه هو لا باسم القضية التي اوحى
لهم انه يتبناها كمشروع مستقبلي,
الأنا في الديني يعني الصراع من أجل البقاء وإن أدى ذلك إلى
الكثير من السلبيات التي يتغاضى عنها ويبررها وفق منهج الأنا لتصب نتائجها في مصلحته هو.
والانا تعني تسويق الموقف الديني إعلامياً باسم الديني وليس باسم الدين، فشتان بينهما في المعنى والمصطلح، وهذا يعني الحفاظ على مستويات عالية من الأنا في كل ما يطرح او يكتب أو
ينشر وهو هنا كالهايدرا، تلتصق بموقعها لكنها تعتاش على كل ما حولها.
تلازم السياسي والديني في المصلحة:
تتجذر العلاقة بين السياسي والديني في تشابه وتكامل عناصر الوجود والبقاء، وعناصر الفناء على السواء، فكلاهما يعتبر ذاته فوق ذوات الاخرين ولا يقتنع إلا بما يقوله هو،
فالسياسي يعتبر عقيدته السياسية أهم عناصر حركة التاريخ بل أنها نهاية التاريخ السياسي، ولكنه في الواقع لا يخدم عقيدته ما لم تخدمه، وهو يعتبر نفسه الاستثناء الوحيد في الحياة
ولعله هنا أقرب إلى قول ابي فراس الحمداني حين يقول: " إذا مت ضمآنا فلا نزل القطرُ ".
هذا الإستغراق في الأنا يقابله إستغراق الديني حين تصبح عقيدته هو أيضا نهاية التاريخ، بل وينطفي التاريخ في النقطة
التي تمتطيها فكرته. فهو لايرى في العقيدة إلا فرس رهان يقودها هو ولا تقوده، وحين يصبح الموقف حرجاً ويضطره للانقياد للعقيدة ولمنهج الشريعة نراه يخرج لنا بتأويلات ما انزل الله
بها من سلطان ليقنعنا أنها إرادة الخالق في تسيير شؤون عباده، وأن الامر الالهي بات منوطاً به وحده، فهو هنا ممثل الشريعة الوحيد على الارض، ولهذا يتناقض مع رؤية كل المشرعيبن
والفلاسفة والمفسرين، فلا رؤية تقف أمام رؤيته هو، فهو هنا كمال الأنا ومطلق الذات.
موقف آخر لابد من بحثه في قضية التماهي بين السياسي والديني تتعلق بالصورة الاجتماعية التي يحب ان يظهر بها أمام
الناس، فهو في سلوكه يقترب من ما نسميه زعيم القبيلة لانه يريد ان يظهر بمظهر القيادة الاجتماعية عبر محاولة التواصل مع من ينفعه فقط فتراه يضعف علاقاته مع من لايتفق معه أو يكتشف
اسلوبه الحقيقي في التعامل من الناس، ويقويها مع من يخدم مصلحته وخاصة المادية والاعلامية، ليساعدة في الحفاظ على صوروته، فهو يقرب هذا من الاعوان مع الايحاء بالاخلاص طلبا للوجاهة
الاجتماعية لا غير.
والوجاهة موقف غريب ومشترك بشكل متلازم بين السياسي والديني، وكلاهما يلجأ الى بروباغندا الاعلام ليثمل على إيقاع
ظهوره أو على الأقل ظهور اسمه وصورته بشكل مستمر، ولذلك تراه في مؤتمر أو ندوة وإن لم يحضر بنفسه ولكن أسمه وصورته في المقدمة وكل الافعال تنسب له، مما يكسبه المزيد من الوجاهة
الاجتماعية، ومما يوحي للاخرين بحسن السيرة، وبنصرته للمواقف الانسانية، وهو دائما يدعي انه لا يريد ذلك وأن العلام هو من يلاحقه في محاولة لاستغفال العقل لانه سيجد من يصدقه ويصفق
له.
من هنا يمكن لنا أن نتصور حال أي بلد يحكم من قبل هؤلاء، فطغيان الأنا يفسد أي مفهوم سياسي
أو ديني أو إجتماعي، وحين لا يفهم السياسي إلا ما يفيد بقاءه في السلطة والاستمرار في الاثراء على حساب الشعب، وحين لايفهم الديني إلا ما يشكل إرتباط الاخرين به وطاعته هو لانه
ممثل الله على الأرض، فان العلاقة بينهما والامة تعني القبول بتقديم الامة ككل ضحية على مذبح أحلامهما وليذهب تاريخ الامة وعناصر صيرورتها إلى الجحيم.