انقسم شعراء العرب المحدثون في استعمالاتهم الرمزية والاسطورية الى
قسمين رئيسيين : فمنهم من لجأ الى استعمال الرموز والاساطير الغربية – مهملا ما كان في التاريخ العربي
والاسلامي من رموز حضارية غنية تصلح ان تكون رموزا شعرية وفنية للحياة العربية الحاضرة - - فكنا في شعر الشعراء
العراقيين واللبنانيين العرب المحدثين على وجه الخصوص نجد كما هائلا ومخزونا كبيرا من الاساطير الغربية، التي
تعبر من خلال التجربة الشعرية عن واقع عربي مُعاش، ولكن بصعوبة كبيرة – لان هذه الرموز والاساطير من (فصيلة دم)
تختلف عن (فصيلة دم) العمل الابداعي الشعري العربي.
فكانت رموزنا هي من الصنف الاول، مثل ابو موسى الاشعري، الحسين بن علي، المتنبي، زرقاء اليمامة، قطر الندى،
وائل بن ربيعة، صقر قريش، وغيره من الرموز العربية الاصيلة.
في حين ان الشعراء العرب الاخرين، قد استعملوا في معظمهم رموزا غربية اهمها :
عازر، يهوذا، المسيح، فوكاي، تموز، القديس يوحنا، عشتار، سربروس، قابيل، عولس، سيزيف، عشتروت، هرقل، سقراط،
وغيره من الرموز التي لا تدخل ضمن الدماء الفنية العربية كالتي ذكرناها قبل قليل.
ان مشكلتنا هنا هي مشكلة الحرية في العالم العربي، وهي تمثل بذلك وجها آخر من وجوه القضية العربية الاساسية،
مؤكدا على دور الصحافة العربية في اخفاء الحقيقة عن الناس، وكيف انها تلعب دورها من جانبها في تعميق مشكلة
الحرية في الوطن.
وبعد هذا المقطع يستحضر الكاتب العربي المصري ( امل دنقل ) الموقف التاريخي الحضاري (لأبي موسى الاشعري) الذي
اراده لنفسه وللمسلمين، وهو ان يختاروا من يشاءوا لامر دينهم، ولامر دنياهم، اي بعبارة اخرى تثبيت روح الشورى
التي جاء بها القرآن الكريم، لكن عمرو بن العاص وهو رمز الدهاء والمكر السياسي، لم يرتق بفكره وحسه الحضاري الى
ما ارتقى اليه (ابو موسى). فقد كان (عمرو) محبا للامارة – ولولا الامارة، لفقد الجاه والمنصب والمال وحياة
النعيم، فكان موقفه منحازا الى جانب معاوية - - قوله :
( حاربت في حربهما ثم خلعت كلا منهما والمؤمنون لم
يدركوا الخدعة ! ) |
وبينما كان ابو موسى الاشعري يمثل رموز الخير وحرية الاختيار
(المفتقدة حاليا في العالم العربي الحديث) كان عمرو بن العاص يمثل رموز القهر والجبروت وحب الملك والمال. حيث
انتهى الحوار الى ما انتهى اليه. كانت الحصيلة ظهور الدولة الاموية المستبدة وعلى راسها معاوية الذي اعتقد انه
صاحب الحق المطلق والارادة المستبيحة، فحكم الاستبداد الذي انتهجه معاوية والذي اتسم بسوء ادارته السياسية
والمالية وتنكيله بالمعارضة الاسلامية، ناهيك انه حول الخلافة الاسلامية الى نظام ملكي وراثي، كانت تداعياته على
البيت الاموي كارثية، بعد ان اقترف ابنه يزيد جريمة ذبح احفاد رسول الله في سهل كربلاء عام 61 هذه الجريمة، هي
التي ادت في النهاية الى فتح طريق زوال الحكم امام الظلمة بنو أمية، بعد ما لحق بهم من تدهور وانحطاط - -
والشاعر (امل) يقول قصيدته :
جردني النادل من ثيابي |
|
حين دلفت داخل المقهى |
بادلته الكرها |
|
جردته بنظرة ارتياب |
فزين الوجها |
|
لكنني منحته القرش |
ثم رسمت وجهه الجديد |
|
بسمة – كلبية – بلها |
فوق علبة الثقاب |
ان المصير الذي انتهت اليه العلاقات الانسانية في المجتمع العربي الحديث والتي صورت شريحة منها في الابيات
اعلاه، هو النتيجة الحتمية لرفض النموذج العربي الاشعري. - - - فالنموذج العربي الاشعري المرفوض، والنموذج
العاصي المقبول في الحياة العربية المعاصرة، هو الذي ادى بهذه الحياة الى اضطراب الحكم وانعدام العدل وبالتالي
غياب الثوابت الاخلاقية التي جاء بها الاسلام.
ولهذا فإن ابو موسى ياتي في منتصف القصيدة ليقول كلمته :
فهل ترى احصي لك الشامات في يدي |
|
خلعت خاتمي - - وسيدي |
وتغسلين جسدي، من رغوات الزبد ؟ ! |
|
لتعرفيني حين تقبلين في غد |
وعندما تكون آذان العرب في العصر الحديث قد تآكلت وقرا، فان كل شئ يحترق بعد ذلك : السنابل والضروع.
ان غياب النموذج (الاشعري) ذلك النموذج العربي الذي يبحث عن الارتواء من خلال ظمأ الهواجر قد ادى وسوف يؤدي الى
تزاحف الاطفال من اجل لعق التراب، ونمو صديد الصمغ في الافواه وفي هدب العيون، من اجل ان لا ترى شيئا.
* مقتبس من كتاب رغيف النار والحنطة، لشاكر النابلسي مع التصرف.