قراءة منهجية في أراء المؤرخين...؟
عبد الجبار العبيدي
jabbarmansi@yahoo.com
من يتصدر للكتابات التاريخية عليه ان يُضمن كتاباته العديد من الافكار والاشكاليات التاريخية
التي يجب ان يقتضيها البحث او المقال المنهجي قبل الكتابة، ليبقى حريصا على الطريقة المنهجية في التدوين لأنها
هي الاساس القويم في فهم التراث او الحدث التاريخي،لا بل هي الوسيلة الوحيدة التي تقود الباحث او الكاتب الى
الغاية التي يقصد. والرحاب الذي يرغب...هذا التوجه العلمي في الكتابات المنهجية التاريخية تقود الى معرفة
المعالم البارزة في الحضارة الانسانية.
فدراسة التراث بمنهجية علمية حيادية، هي دراسة انسانية قبل ان تكون دراسة تحديدية لتراث حضارة
ما، لذا فالحيادية وترك العصبية والتطرف تمكننا من سد منظور الحاضرالمغالي في دراسة التراث باعتباره فخرا
تاريخيا للأمة. فالامم العريقة في التاريخ ليست بحاجة الى المغالاة في دراسة تراثها قدر ايضاح ماهيتها الحضارية
ومقوماتها الطبيعية ان وجدت على وجه الخصوص، وبطريقة الوضوح والاعتدال في فهم الماضي والحاضر معا.
وهكذا فَهِمَ كبار الكُتاب والفلاسفة المؤرخين طريقة الكتابة والاعداد الحضاري بروح الاعتدال
والانصاف لدرجة ان بعضهم لامَ تراثه وحضارته التي خرجت على المعقول كما في كتابات الفيلسوف اوزفالد شبنكلر صاحب
نظرية التحدي والأستجابة (1880-1936 للميلاد)، حين تحول هذا الكاتب في الفكر الفلسفي التاريخي الغربي من التفائل
الى التشائم وسوء الظن بحضارة الغرب ومستقبلها، وها نرى صدق ما كتب ونحن نتابع بدايات انهيار فكرة التقدم وتلاشي
روح التفائل والغرور عند الغرب وأهله اليوم.
قلنا سابقا في كتاباتنا المنشورة: ان المفهوم
الحركي للتاريخ العربي والأسلامي ليس واضحا في موسوعاتنا الفكرية التي ورثناها من مؤرخينا وفلاسفتنا الكبار
أمثال الطبري واليعقوبي وابن الأثير وغيرهم كثير، سوى ما لمسناه بزاوية ضيقة في كتابات الواقدي في السيرة
النبوية الشريفة. من هنا وقعنا في الوهم ولازالنا فريسة احكام عشوائية ناقصة لا تقود الى رأي سليم.ان المفهوم
الحركي للتاريخ هو الذي يجب ان يعتمد على فهم العمق النفسي للمؤرخ وميوله العاطفية وطريقة تفكيره، لذا فنحن
نفاجىء اليوم بين ما كتبه المؤرخون مخلصين، وبين ما دسه الدساسون مفترين، لذا من الواجب علينا كمؤرخين ان نفتح
الطريق لشبابنا الجدد في كتابة التاريخ خارج نظرية البرود الثلجي في تصورات أحداث الأقدمين.
من هنا لابد ان نعرف وبالتأكيد ان الطبقة الاولى من
مؤرخينا أمثال الواقدي والأزرقي واليعقوبي وكيفية تحريها للحقائق جهدها، ومع ذلك خالط تدوينها ما خالطه
مما لم تفطن اليه. وهو ما يمكن تميزه وافراده، عما دونه الاخرون، ولا يعدو احداثا محدودة لها مكان للتصديق بها
كما جاء عند الطبري في قصة الغرانيق الُعلا التي دونها ودخلت تحت باب الناسخ والمنسوخ، تلك القصة المنسوبة
للرسول الكريم وما رافقها من ادعاءات طوباوية ليس لها في السيرة من أصل. وقصة عبدالله بن سبأ المعروف بأبن
السوداء المخترعة والتي وضعها احد مؤرخينا الكبار مع الاسف في صف الحقيقة، وهي قصة ملفقة عارية عن الصحة
والتدقيق أذ لا سند تاريخي يدعم ما يقولون ويدعون بها..
ناهيك ان هناك من تصدر لكتابة التاريخ بلا منهجية معتمدة ولا فحص للنصوص داخليا وخارجيا ، فجاءت
وكأنها لطمس حقائق واختراع فضائل، ومشى الناس على أخذ ما وجدوا، فأذا بأبطال التاريخ يوارون في غيبة التجاهل،
وينزوون في الظلام، واذا بغيرهم يشاد بهم ويعلى شأنهم ويضاف اليهم ماليس لهم، كما في كتابات ابن هشام (ت218
للهجرة) في السير الناقصة التي كتبها على هواه من اجل تدمير السيرة النبوية الخالصة الصفاء التي كتبها ابن اسحاق
(ت150للهجرة ) ترضية للعباسيين.
واذا ما تابعنا بين السيرتين عندهما نجد في مضمونها الحقيقي، حصيلة لصراع سياسي وفكري وعقائدي،
حتى نقلوها لاجيالنا الحالية فاصبح الخطأ وكانه حقيقة، كما في صراع السقيفة والفتوح والفتنة والخلافة والخوارج
وامور اخرى كثيرة، لا زالت هي الاساس في الفرقة التي اوجدها الفقهاء بأختراع المذاهب الفكرية التي انتهى مفعولها
ولا اصل لها في الاسلام، والتي ادت الى تثبيت الفِرق الاسلامية وحصول كل هذا التفرقة العامة بين المسلمين التي
تحولت الى عقائد وهي لا تعدو اكثر من ابتكارات شخصية لا دليل عليها ابدا ولا تتفق مع النص الحكيم .
ان الطائفية والفرقية اليوم هي من اختراع السلطة
ولا تمت للاسلام بصفة من بعيد او قريب. بعد ان حولوها الى عقائد دينية.اصبح من الصعب انتزاعها من رؤوس العامة ما
دامت مؤسسات الدين تغذيها بالشحن الطائفي والفرقي اللئيم، وها هو المجتمع اليوم أصبح على ابواب الأنهيار .
من هنا فنحن بحاجة الى حركة تاريخية ترتفع الى مستوى الاحكام، كما يجب عليه التدوين التاريخي
الصحيح عند النخبة من المؤرخين الثبت كي تسير عليها عناصر الموروث من الحضارة وانجازاتها الكبيرة التي اصبحت
بنظر المؤرخين الكبار هباء.
ان انتقال الكتابات التاريخية والفلسفة الانسانية الى الكُتاب الغير المتخصصين قد اساؤا لمنهج
التاريخ بعد ان تلاقفته الاقلام التي لا علم لها بالتدوين وشروطه واخذت تنشره على انه حقيقة تاريخية مدعمة
بالبراهين، وهي والحجج البرهانية على طرفي نقيض. هذه حقا اشكاليات اليوم يعاني منها الباحثون المتخصصون في
التراث والتاريخ ومناهج التدريس، حين أنبرى غير المتخصصين في كتابة الاحداث على الحدس والتخمين دون معرفة بأصول
التدوين. هنا تباينت عليهم المواقف والاجتهادات من خلال تطور الازمنة التاريخية دون سند رصين. وشتان بين
آلة صناعية للكشف، وحكم عقلي نير يريد الوصول الى كوامن ذلك الخفي، غير هادف معين والى معرفة السطح منه ولا
غير...؟
لقد ابتلينا بأشكاليات الكُتاب والكتابة العشوائية،
فمن يريد ان يدخل ميدان كتابة التراث والتاريخ من غير المتخصصين عليه ان يراعي شروط التدوين. ان التاريخ في حاجة
دائمة الى اعادة نظر، والنظرة النقدية للنص تحتم علينا ان نتفحص الثوابت وفق منهج الباطن والظاهر، حتى في مواجهة
الشخصيات العظيمة كالخلفاء الراشدين وغيرهم، والفترة الزمنية التي عاشوا فيها، والظروف السياسية التي مروا بها،
فالزمن يلعب دور في عملية التغيير. وها ترى بنفسك ايها القارىء الكريم كيف دخل علم التكنولوجيا اليوم وغَيرَ كل
قديم، ونحن لازلنا بما كتبوه لنا قبل الف سنة متمسكين دون تغيير.في وقت ان اللغة العربية لم تنشأ في وقت واحد،
بل نشأت في اوقات متلاحقة كونها نظام لربط الكلمات في كل جديد. فلماذا نحن مصرون على القديم في النظر والعمل دون
تطوير...؟ حتى نبقى نقدس عقائد رجال الدين ...؟
يبدو ان امتنا العربية شاخت اليوم، وديننا الأسلامي اصبح في المتحف تنوح عليه
السنين، تستغله عصابات التطرف كالقاعدة وداعش والنصرة وغيرهم كثير..ولا يستطيع احدا ان يردهم لكون الدين لم
يَعُد عقيدة في رؤوس المعتقدين، بل أصبح خرافة يلهون بها وقت ضجر الضاجرين.
نحن لا نهدف من هذا العرض الى التقليل من شأ ن هذا او ذاك أو الدين بقدر ما نهدف الى أعادة ترتيب
التاريخ وقراءة ما خلف السطور، وهي مهمة صعبة وشاقة لا يعرفها الا المتخصصون...؟ كما ان الامراض لا تشخص الا من
قبل الاطباء المتخصصين .
ان هذه التوجهات المنهجية الخاطئة تحولت الى مناهج لتدريس النشىء الجديد الذي
لوثنا فكره بالخطأ واصبح يؤمن بأن هذا الخطأ هو الصحيح. من هذا المنطلق لابد لنا من وقفة وصيحة عالية بوجه
المنحرفين من وعاظ السلاطين املين بالخروج من هذا المأزق الشائك اليوم الذي جعلنا في اخر الصف لا نتحرك الا حين
يقررون فقهاء الدين، وهم والحقيقة على طرفي نقيض .
من ينقذنا من الكارثة الحالية والحكومات ومتخصصي التربية كل منهم لاهٍ بمصالحه الخاصة دون اعتبار لما يُكتب
ويقال من الصحيح، واليوم في وسط هذه الفوضى العارمة تموت الامة رويدا رويدا وتنهار.
والى مقال اخر نتفحص فيه اهداف التسيب عند غير المتخصصين. ومن يريد ان يكتب ليس من حقه ان يكتب
دون معرفة المنهج التاريخي وكيفية التدوين و تعليل احداث التاريخ...؟