المعجزة، بين الواقع والخيال !
(من سجل الذكريات)
د. رضا العطار
تعريف المعجزة والكرامة
والسحر
عرّف العلماء المعجزة: بأنها أمر يجريه الله على يدي الأنبياء ويكون على خلاف ما اعتاده الناس من سنن
الكون وقوانينه، والغرض منها إثبات صدق نبوتهم، وأنهم رسل من عند الله. كعدم إحراق النار إبراهيم، وتحول عصا موسى إلى حية، وانشقاق
القمر للنبي - صلى الله عليه وسلم – وخروج الماء من بين أصابعه .
وأما الكرامة فهي أمر يجريه الله على يد أوليائه، ويكون على خلاف ما اعتاده الناس من سنن الكون
وقوانينه كإتيان مريم - عليها السلام – ثمر الشتاء في الصيف، وثمر الصيف في الشتاء، وحملها من غير زوج،
وأما السحر: فهو تجاوز السحرة حدود قدرات البشر العادية عن طريق استعانتهم بالشياطن، كتحويل الحبال
والعصي إلى حيات .
في ظني ان موضوع المعجزة من الموضوعات العويصة التي ينبغي علينا ان نتبينها
بوضوح، لأنها مصدر خلط لا حد له بين ما يمكن ان يفعله الناس او ما يجوز لهم ان يقوموا به. لكن الأية القرآنية من سورة الأنبياء تقول:
( قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على ابراهيم ) والتي جعلت النار تكف اذاها، وليس ذلك مما يقدر على صنعه بشر.
ومع بزوغ فجر الاسلام، تغير مفهوم – المعجزة – كونه اخر الديانات ولن يكون بعده سوى العلم وبالتالي فانه لا يلجأ الى كسر قوانين الطبيعة بل
عندما طلب كفار قريش من نبي الاسلام اثبات نبوته، بأتيان عمل خارق او بمعجزة شرطا لأيمانهم، افهمهم النبي بان القرآن لم يلجأ الى الاعمال
الخارقة ابدا، بل انه اي القرآن بحد ذاته هو المعجزة --- فقد آن الاوان للبشرية ان تضع قدمها على طريق البحث العلمي او التجريبي وان تقيم
العلم الذي سيكون اساسا للحضارة الأنسانية.
لكن اذا كان القرآن لا يأتي بالمعجزات التي تعطل قوانين الطبيعة، فان ذلك
لا ينفي انه هو نفسه – معجزة – لكنه معجزة من حيث هو كتاب لا يخرق قوانين الطبيعة ولا يعطل سيرها بل على العكس تستطيع ان تقول ان من اعجاز
القرآن عدم التجائه الى معجزات من هذا القبيل. وهذا ما نطلق عليه الظاهرة القرآنية ذلك لان معجزات السيد المسيح مثلا انتهت بانتهاء عصرها.
ومن هنا ظهرت مشكلة عند الرجل المسيحي المعاصر عندما يبزغ السؤال التالي:
كيف اؤمن وانا لم ار من معجزات المسيح شيئا ؟ اما المسلم فلا يستطيع ان يقول ذلك لان القرآن كما كان يتحدى العرب في الجاهلية ان يأتوا بسورة
من مثله، لا يزال يتحدى العرب المعاصرين بنفس الطريقة. ولهذا كان القرآن معجزة ممتدة على مر العصور وليس مجرد معجزة ارتبطت بعصرها فحسب ---
ارجو من القارئ النبيه ان يعلم ان بعض الظواهر التي يسمونها – معجزة – ماهي في الواقع إلاّ حقائق علمية معروفة، لكن جهل العامة بها وتاثرهم
بالافكار الغيبية، اصبحوا يعتقدون خطأ بأنها معجزة.
وعلى سبيل التأكيد على صحة ما ذكرته اعلاه، اروي للقارئ الكريم الحدث التالي الذي عاصرته و شاهدته بأم عيني :
لقد اعتاد اهالي كربلاء منذ قديم الزمان ان يخرجوا الى عمق البادية الغربية
على بعد مائة كيلومتر تقريبا من مدينتهم، على شكل قوافل في موسم الخريف من كل عام، بغية شم النسيم والتمتع بجمال الطبيعة الخلابة فضلا عن
زيارة مرقد هناك، قيل انه يعود لأحد احفاد أئمة المسلمين يدعى (احمد بن هاشم). وقد اتيحت لي الفرصة السانحة واشتركت في احداها، كان ذلك في
اربعينيات القرن الماضي.
كان عدد المجموعة يشمل عشرات الاشخاص الذكور، سعتنا حافلتين كبيرتين.
تحركت قافلتنا صباحا باتجاه الغرب مخترقة مساحات واسعة من المزروعات والبساتين الى ان دخلنا مناطق شبه صحراوية، وبعد سير ساعة وصلنا مدينة
(شفاثة) الفلاحية، وبعد استراحة قصيرة واصلنا السفر في ارض رملية جافة بأتجاه الرحالية وهي المقصد.
كان المكان يضم بعض الاكواخ المتناثرة هنا وهناك حول بناء قديم، يحوي على المزار، ولم يكن هناك بناء للسكنى، كانت الارض الرملية ناعمة
نظيفة، فأفترشناها، لنبيت ليلتنا في فسحة الفضاء، تعبق برائحة الانطلاق والحرية، كان الجو بارد نسبيا، وكان النهار يقترب نهايته، كان منظر
الشمس وهي تغرب رائعا يصعب وصفه، فقد تزينت صفحة السماء بالوان زاهية صافية تسر الناظرين.
وعندما اقدم الليل ادى القادمون صلاة القصر جماعة، ثم انهمكوا في تهيئة وتناول طعام العشاء، واستهلوا ساعات سمرهم بشرب الشاي، كانت الليلة
مقمرة، حيث كان القمر بدرا، وكان لشرب الشاى العراقي مذاقه الخاص وانت تشربه في غمرة البادية ليلا. ومما زاد في طعم الشاي نكهة، هي اشواك
الصحراء التي هيئت نار حطبه. ولم تغيب لعبة المحيبس من مجلسهم العامر، هكذا شعروا بالغبطة والسرور وبطراوة الهواء ونسيمه العذب الى ان غلبهم
النوم مع تضاؤل نور القمر التدريجي.
وفي الصباح الباكر، هبًوا يسرعون الخطى باتجاه المزار.
كان المزار يومذاك عبارة عن بناء قديم يمثل المكان المقدس، ذات مساحة محدودة، وقد زينت جدرانه الداخلية بقطع المرايا مختلفة الاحجام، مع بقع
صبغة الحناء التي لطخت الاجزاء المتبقية منها. يتوسط الحضرة قفص خشبي يمثل المقام الذي يوضع عادة فوق المرقد، كانت زيارة وارث للامام الحسين
عليه السلام تتصدر المقام.
كان ضمن قافلتنا رجل اعمى طاعن في السن. يقوده حفيده الصغير، يسحبه من طرف
عصاه. وبينما كنا نهم في الدخول الى الحضرة، عثر الشيخ العجوز بعتبة الباب وسقط ارضا، وعلى الفور تعالت أصوات الصلوات و تتكررت، يشوبها
الهياج الذي ملئ الارجاء، سمعت الناس يصرخون من كل صوب عبارة (فتّح، فتّح)، تره يا جماعة الأعمى فتًح ! والله فتح، معجزة عظيمة ؟ صلوا على
النبي صلّوا على محمد !.
ولم تمر الساعة واذا بالذبائح نحرت ، وانقلب النهار عيدا. اقاموا في المساء
حفلة طرب، اكلوا وشربوا كثيرا، غنّوا ورقصوا فرحين حتى ساعة متأخرة من الليل.
والخلاصة : ان الشيخ العجوز بعد ما تعثر بعتبة الباب ـ بسبب غفلة الطفل ـ وسقط على الارض، شعر فجأة ان النظر قد عاد اليه ثانية. وظن العوام
ان ما جرى كان معجزة.
وبعد هذا التاريخ باقل من عقدين من الزمن كنت اعيش في المانيا، متخصصا في طب وجراحة العيون. وفي احد الايام استذكرت رحلة البادية وقصة
المعجزة، واتضح لي ان ما حدث انذاك كان مجرد ظاهرة علمية معروفة. فالسقطة المدوية للبصير، هي التي ارجعت اليه البصر ! . كيف حدث ذلك ؟ ـ ـ ـ
وقبل الأجابة على السؤال ينبغي ان اوضح للقاري النبيه، وبأختصار شديد، حقيقة علمية:
تحوي عين الانسان في وسطها عدسة شفافة، وظيفتها نقل صور الاجسام المرئية في الخارج، لطبعها على طبقة الشبكية، التي توصلها بسرعة البرق الى
مركز حاسة البصر في مؤخرة الدماغ، حيث تُهيئ للأنسان بقدرة الخالق المبدع، ظاهرة الرؤيا.
لكن هذه العدسة تتعرض احيانا الى عوامل سلبية تجعلها تفقد شفافيتها، لا مجال لذكرها، لكن الشيخوخة المفرطة تكون في الاغلب احدى هذه
المسببات. حينذاك تصبح العدسة معتمة تسد طريق الضوء، اي تحدث العمى، وتسمى الحالة (بالساد) وباللغة العربية (الماء الابيض) وباللغة العلمية
(Senile Cataract)
. وتتم طريقة معالجة المرض بأستبدال العدسة الطبيعية المعتمة بأخرى اصطناعية شفافة، فبذلك يعاد البصر الى المصاب ثانية.
لكن في بعض الحالات يهمل الفرد معالجة نفسه بفعل ظروفه الاجتماعية
اوالاقتصادية او ما شابه ذلك. والمرض في هذه المرحلة اذا ما اهمل علاجه، يتفاقم غالبا، ويدخل مرحلة تدعى (Cataracta Morgagnia) تضعف فيها
الالياف التي تشد العدسة بجدران العين الداخلية، هذه الالياف تصبح واهنة و قد تتمزق او تنقطع كلية فور تعرض المصاب لأية هزة جسمية شديدة
الصدمة، ايً كان مصدرها، انذاك تهوى العدسة المعتمة ـ التي سببت لصاحبها العمى ـ الى قاع العين وتستقر فيه، فيعود الابصار اليه تلقائيا.
تماما كما حدث لرفيق السفر ـ ـ
فالذي حدث كان بمجمله ظاهرة علمية صرفة، ليست لها علاقة بمعجزة ! .