تم إنشاءه بتاريخ الثلاثاء, 28 تموز/يوليو 2015 21:51
يهود العراق، ذكريات وشجون، الحلقة (17).. في حماية عقيد الركن الطيار منير حلمي (1)
بقلم:أ.د.شموئيل ( سامي) موريه
للشباب العراقي تراث مجيد في البحث عن الحب منذ عشتار التي جاءت سيرتها الغرامية في ملحمة كلكامش
السومرية.
وقد صدّ كلكامش تحرشات عشتار به بعد أن أهلكت عشاقها عندما
كانت السلطة بيد المرأة، إلى أن جاءت الأديان السماوية وجعلت الرجال قوّامون على النساء ووضعت السلطة بيد الرجل، ثم خيب الله اللات والعزى ومناة الثالثة لأن كيد النساء عظيم
وحرم وأد البنات وحمى السائل واليتيم والأرامل والمساكين وابن السبيل وكسف نوره ظلام الجاهلية، وأمر المؤمنين والمؤمنات أن يغضوا من أبصارهم، وهكذا حرم على الشباب التحرش
بالنساء.
والعراقيون يرمون اللباب ويلتقطون قشور الحضارة الغربية. يبيعون
النفط ويشترون اللعب التي تبيعها لهم أوربا بأبهظ الأثمان، وبدلا من الإقتداء باليابان التي ضربها الأمريكان بقنبلتين ذريتين في هيروشيما وناجاساكي ومع ذلك فقد نافسوا الغرب
في العلوم والتكنولوجيا ولم يشغلهم الحقد والثأر عن تقدمهم العلمي وحافظوا على تراثهم حتى أصبحوا مضرب المثل في الاجتهاد والتقدم.
كان الرجال في
صالونات العائلة الاجتماعية وكعاداتها، يعجبون لتقاليد الثأر والانتقام عند البدو، هذه التقاليد التي أراقت الدماء وألحقت الدمار. وكان البعض من طويلي الباع في "التفسيرات
العلمية"، يقولون بثقة بالغة: "السبب يا جماعة الخير، هو أن البدو يأكلون لحم الجمل ويشربون لبن الناقة، وانتم تعلمون جيدا أن الجمل حقود وينتقم ممن آذاه حتى بعد أربعين عاما،
وهكذا انتقلت هذه الغريزة إلى البدو.
ألا ترون كيف أن اليهود لا يأكلون لحم الجمل لأنه
محرم عليهم فليس للجمل أظلاف بل أظافر، ويأكلون الحيوانات المجترة الوديعة ذات الأظلاف، ولذلك تميزوا بالوداعة ويفترسهم كل معتد شرس". فكان الجماعة في مثل هذه "الكعدات"، يهزون
رؤوسهم علامة على الموافقة والإعجاب بذكاء وعبقرية هذا الراوي النبيه.
وفي العراق حقد وثأر وجوع دائم، ليس للرغيف فحسب بل للحب أيضا، وأول
ما يقوم به الشباب حين يصلون إلى أوروبا، حلمهم الكبير، هو البحث عن الحب. والتحرش بالفتيات والنساء وملاحقتهن هي رياضة شعبية عراقية معروفة ومشهورة في العراق من قديم الزمان،
وذلك بالرغم من خطورتها. فقد تنتهي هذه الرياضة المحببة إلى قلوب الشباب العراقي المحروم والمحكوم عليه بالعزل الاجتماعي بين الجنسين، بأن تخلع الفتاة التي عيل صبرها وضاقت ذرعا
بالملاحقات المزعجة والهمسات الجنسية الفاضحة، بأن تخلع قندرتها أو بابوجها وتضرب بها ذلك الهيمان المتدله بها و"تبهدله أمام الرايح والجاي"
أو ينبري إلى مساعدتها والذود عن شرفها أبن حلال أريحي ما زالت تجري في عروقه دماء الفتوة منذ أن قيلت في الإسلام جملة "لا فتى إلا علي"، ليتعلم ذلك المتطفل درسا في الأخلاق
ورعاية الذمار والكف عن الهمس و"البشبشة". وممن كن يجدن ضرب المعاكسين لهن بالقندرة بنات خالي حاييم الجميلات اللواتي كن يسرن سافرات باعتداد وبرأس مرفوع يتحدين كل من تسول له
نفسه ملاحقتهن أو معاكستهن بغزل مبتذل، ولاسيما بلانش وأفلين أختي موريس ابن خالي حاييم سفير إسرائيل سابقا، معتمدتين على مكانة والدهما آمر مركز شرطة العبخانة ومدير محطات
عديدة للقطار تحرسها ثلة من أفراد الشرطة المتمرسين بالصفعات والراجديات والجلاليق.
وشاء الحظ أن أكون شاهد عيان على طريقة تأديب مثل هؤلاء المتحرشين
والملاحقين للفتيات في عكدنا بالبتاويين. والجندي الذي "حاده حظه" الى "عكدنا" للاحتفال بترقيته إلى رتبة نائب عريف "أبو شخطين" عن طريق
ملاحقة الفتيات، سار بخطى ثابتة منفوشا كالديك الرومي وقد باعد بين ذراعيه كالمصارع الذي يدخل حلبة النزال بثقة بالغة وهو ينظر بين الحين والآخر إلى رتبته الجديدة التي زادت من
كبريائه وجعلت ثـقـته بنفسه تزغرد لرتبته العسكرية الجديدة السامية. كان يمني النفس بمغامرة عارمة مع بنات حيّـنا. ففي وعيه الباطني الذي يسري في دمه منذ أجيال طويلة يقبع مثلٌ
يعتنقه كالعقيدة: " المره إلما تهز بطويـ...ها، ما هيش مره"، فإذا بالشيطان يقيض له خادمتنا نعيمة ذات "جقلة الحسن" الساحرة التي "سبت أهل
الهوى" ولا عجب أنها لم تنسب ِ، فهي في حماية سكين أبي علوان التي يلمع نصلها بالموت الزؤام في منتصف عكدنا وبحماية بريق لوحة جارنا
"عقيد
الركن الطيار منير حلمي" في نهاية العكد باتجاه بارك السعدون، وهو البريق الذي كان يقدح شررا أحمرَ مخيفا كبريق
عيني أسد هصور يحمي عرينه ويشل حركة كل من تسول له نفسه المرور في شارعنا تدفعه رغبة عارمة في أن يتحرش بنساء الحي على أمل أن تغوص أصابعه الجائعة في عجيزة رجراجة هزازة مغناجة
تطفي لهيب الشوق المستعر، ولم يعلم هذا الذي "حاده حظه الأعوج" إلى المرور ذلك المساء أمام لوحة "عقيد الركن" برعاية والده أبو منير الذي
يرى هو وابنه أن شرف نساء وبنات عكدنا هو شرفهما وعرضهما. فالشارع بطوله وعرضه تحت حمايتهما والويل لمن يتجاسر على المس بالشرف الرفيع وإلحاق الأذى به، فهناك من يذود عن الحياض
ومستعد لإراقة دماء المعتدين على جوانبه. فما أن رأى ذلك الجندي خادمتنا "نعيمة" تسير أمامه وهي تتهادى كالبطة "المتفحلجة" حتى شهق وهمس بصوت متهدج: "
أويلي يابا! هذا اشجان ياكل؟" سمعه الرجل الواقف أمام الدار التي كتب على لوحتها النحاسية البراقة رتبة "عقيد الركن" ببجامته الناصعة
البياض والتي تختلف عن بيجامات اليهود المقلمة بخطوط حمراء وخضراء تيمنا بقميص سيدنا يوسف بن يعقوب الذي اتهم الذئب زورا وبهتانا بأنه يحمل وزر دمه. كان الضابط المتقاعد أبو
منير واقفا أمام داره وبيده "بوري الماي" يسقي شجيرات الرازقي والشبوي والجعفري ويرش الرحبة أمام داره ليفثأ حرارة الهواء الذي ألهبته شمس
الظهيرة المحرقة، ولكن جندينا "الذي وهدنه الشيطان" بقي يواصل غزله السمج ويهمس لها بكل أغنيات الغرام المعروف في العراق، إذ لم يعد يرى سوى ذلك الجمال الآسر وهمس بفرح كمن عثر
على ضالته: "متكلي يا حلو منين الله جابك / خزّن جرح قلبي من عذابك". ثم عبر عن إعجابه بما يرى وهو يمتع ناظريه بمقاييس الجمال التي سحرته:
"إي، ما شا لله! عفيا ظهر ثلثينك طيـ.."، فإذا بصوت كصوت ضابط آمر، يناديه ويجعله يفيق سريعا من أحلامه الشهوانية: "يا
جندي يا ابو البسطال، تعال جاي!" سمع في هذا الصوت الآمر رنة فولاذية لا يحسنها سوى ضابط متمرس في الانضباط العسكري ذكـّره بالأوامر التي سمعها من الضباط أثناء تدريباته
في معسكر الوشاش. التفت نحو مصدر الصوت فلم يجد سوى ذلك الرجل الذي ظنه يهوديا لا يؤبه به، فكرر الرجل بنفس اللهجة الآمرة "كلتلك تعال جاي!".
تقدم الجندي بحذر وهو يقول "شكو عمي؟"، فإذا بالرجل الذي ظنه مسالما يرفع كفه الجبارة ويهوي به على صدغه بصفعة مدوية بباطن كفه بحيث جعلت
أذنه تطن بدوي مزعج ورأى نجوم الليل تتطاير أمام عينيه في وضح النهار، ثم أردفها بصفعة أخرى بظاهر كفه كاد الخاتم الذهبي الثقيل في بنصره أن يكسر أسنانه. واصل أبو منير الضابط
صفعاته:
- ابن الكلب!
انت مشايف آني ضابط، شلون ما تضرب لي تحية عسكرية؟" - عمي، الله يخليك، العفو! بس اشمدريني أنت ضابط بهدومك هاي وبلا بدلة؟ - والله هسه لأعبيك بالشمدريني مال أمك! زين مدتشوف هاي اللوحة المكتوب عليها "عقيد الركن
الطيار منير حلمي؟" ليش انت أعمى؟ اشعبالك آني بياع ركي لو بياع باجلا، ما تعرف بس الضباط يعلكولهم لوحة باسمهم".
وواصل أبو منير الضابط صفعاته، فصاح الجندي وهو
يبكي ويحمي خديه بيديه: - سيدي! يا حضرة الزابط، العفو ! والله آني ما أعرف أقرا! - لكن ليش طالع اتسرسر وتتحارش
ببنات الناس بدل ما تدرس، يالله روح ولي من هنا! - عمي، غير هاي أيهودية! ليش هي مسلمة؟ - ابن الكلب! تكول أيهودية، وإذا
أيهودية؟ يعني بنات الناس سريافة مال أبوك لو مال الخلفك؟ ولك هذوله كلهم ال بالعكد هنا بحمايتي وبذمتي، كلهم شرفي!!
وانهال عليه مرة أخرى صفعا وركلا، فلم يجد هذا الخايب بُدا من الهرب
لاعنا الشيطان الذي وسوس له القيام "بفره احتفالية" في البتاويين اليهودية التي يحميها كبار الضباط المسلمين، بحثا عن "هزاز رجراج مغناج" يروي به ظمأ أصابعه العطشى، ولم يكن
يدري بما كان يخبئه له القدر.
ومنذ تلك "الهبشة" الرائعة ما زلنا إلى اليوم نشكك فيما إذا كانت
"ماطلية" أو "سيجينة" (سكين) أبو علوان ذات النصل الذي ينذر بالموت الزؤام هي التي حمتنا في الفرهود، أم حرمة اللوحة النحاسية البراقة التي تشع بهالة من الردع العسكري وهي تلمع
بأشعة مهددة بالويل والثبور لكل من يتجاسر على المرور في شارعنا على ضوء المصباح الذي بقي يومين وليلتين في الفاتح من حزيران يومي الفرهود يضئ لوحة "عقيد الركن"، ينير بها حلكة
تلك الليالي السود، أيام مذبحة الفرهود، حين أعطى جيش الرحمن، فرصة نادرة في تاريخ العراق لجيش الشيطان، ليمرغ سمعة الشرطة والجيش والرعاع والانكليز الجنتلمانية المتحضرين، في
معمعة كان الجميع يرددون فيها "هوسات" المعدان "من ورا السدة": إشحلو الفرهود لو يعود يومية، يا يُـمّا ويا يابا
ولا بدّ أن "الهبشة التي أكلها" ذلك الجندي المنحوس في عكدنا والتي سرت بذكرها الركبان في
جميع معسكرات بغداد وبين الجنود الساكنين وراء السدة وضواحيهما هي التي فعلت فعلها الساحر وأبعدت الغوغاء و"المفرهدين" عن شارعنا