Back Home Next 
 

 

هل الإسلام في أزمة أم الأزمة في الإسلام؟
عبد الحق العاني

www.haqalani.com

 

ان البحث عن جذور ثقافة القتل وتمجيد تلك الثقافة على أنها جزءٌ من تراث الإسلام الحضاري هي الطريق الوحيد لمواجهة ما يجري في العالم اليوم على يد عدد من المسلمين من قتل وحشي وقطع رؤوس وبقر بطون وإغتصاب وسلب ونهب باسم الدين... فإذا وجدنا أن هذا فعلاً ما أراده الإسلام، ولست أعتقد أن هذا سيحدث، فإن الإسلام لا مستقبل له في الأرض.. أما إذا اكتشفنا أن القرآن ونبي الرحمة (ص) لم يقولا بما يقوله دعاة ثقافة القتل فإن الواجب العقلي والحضاري بل والديني يقضي باجتثاثهم من وسط الإسلام والتبرئ منهم علناً لا خجلاً ولا رياءً....

من أجل هذا أكتب ما أكتبه.. وأعلم أني أغضب البعض وأزعج البعض.. لكن هدفي ابعد من ذلك بكثير.. إنه مسؤولية تأريخية لا بد من التصدي لها.

وأفضي من حيث انتهيت آخر مرة..

فقد قرأ كل طالب درس التأريخ العربي في المدرسة شيئاً عن "حروب الرِّدة" التي وقعت بعد أن رحل الرسول الأكرم (ص)... وخلاصة ما رسخ في عقل كل طالب هو أن قوماً خرجوا عن سلطة الخليفة فأرسل لهم الجيوش فقاتلهم وأخضعهم لولاية الدولة، فمنهم من عاد للولاء ومنهم من قُتل ومنهم ولا شك من أظهر خلاف ما أضمر وسكت واستسلم.

وليس هناك من مشكلة في قبول هذا السلوك السياسي لأي رئيس دولة، ذلك لأن واجب رئيس الدولة هي تأمين الإستقرار في أنحاء الدولة ومنع الخروج عنها وتعريض مصالحها وأمنها للخطر... لكن التأريخ الذي درسناه وما زلنا ندرسه لا يتحدث عن الإجراء على أنه إجراء سياسي ويسكت بل يتحدث عنه على أنه أمر إلهي إقتضاه الإسلام ونفذه الصحابة بعد الرسول الأكرم (ص) حماية لدين الله...وهذا ما سأحاول بحثه هنا.. وحتى لا يظن أحد اني أريد من هذا القول بأن ما كان سياسياً ليس دينياً وما كان دينياً ليس سياسياً.. فالأمر ليس كذلك، فقد يكون القرار السياسي مطابقاً للدين وقد يكون مناقضاً له وقد يكون موضع تنازع ديني. وكذلك يمكن أن يكون الموقف الديني ليس في مصلحة السياسة..وهنا يوجب التناقض أن يقرر الحاكم اي طريق يتبع وحين يفعل ذلك فإنه ولا شك يعرض نفسه لإنتقاد أحد الطرفين... وهذه ولا شك مشقة الحكم وعلى كل من يتصدى للحكم أن يعيش ويتعامل معها!

وربما يقول قائل ما فائدة الحديث عن "حروب الرِّدة" الآن وماذا سينفعنا النظر فيها؟ وجواب ذلك كما سيتضح من هذه المعالجة أنها أسست لسوابق خطيرة في تأريخ المسلمين ما زلنا نعيش حقائقها بل ونستند إليها في تعميم ثقافة القتل.

 

فما حقيقة ما حدث قبل "الردة" وما بعدها؟

إن ما وصلنا عن "حروب الرِّدة" هي مجموعة أخبار متفرقة تعطي أكثر من صورة عن الحدث وسب خروج قبائل العرب عن طاعة الخليفة..فمنها ما قال ان عدداً من القبائل خرجت لأنها كانت تعتقد أن بيعتها للرسول (ص) فلما رحل لم يعد في أعناقها بيعة... ومن تلك الإخبار ما قال أن عدداً من القبائل لم ترتض بابي بكر خليفة... ومنها ما أعلمنا أن عدداً من القبائل رفضت دفع الزكاة ولم تخرج عن الخليفة إلا في ذلك...

وهنا لا بد من وقفة.... فما الذي حدث؟

فقد وقع عدد من المسلمين في شبهة شرعية في تأويل قوله تعالى "خذ من اموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم والله سميع عليم." فعدوا أن ذلك يعني أن رسول الله (ص) وحده صاحب الحق في أخذ الزكاة والصدقات فلما قُبض أصبحوا في حل منها... وهكذا قالوا حين جاؤوا المدينة لمحاججة الخليفة أبي بكر.. وكان رأي عدد من الصحابة، ومنهم عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح وسالم مولى أبي حذيفة، ان هؤلاء ليسوا بكافرين ما داموا قد أقاموا أركان الدين الآخرى من شهادة وصلاة وصوم. وحاججوا أبا بكر في ذلك حتى نقل عن عمر أنه قال لأبي بكر: " كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فمن قال : لا إله إلا الله، فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه، وحسابه على الله. فقال أبو بكر: والله لأقاتلنّ من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً(العناق : السخلة، الأنثى الصغيرة من الماعز) لقاتلتهم على منعهم." ونقلت عنه في موضع آخر قولته المشهورة "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لجاهدتهم عليه".

وقد وقع هذا لمالك بن نويرة التميمي، فقد ذكر أبو الفداء في تأريخه خبر قتله كما يلي:

"كانت وصية أبي بكر أن يؤذنوا إذا نزلوا منزلًا فإن أذن القوم فكفوا عنهم وإن لم يؤذنوا فاقتلوا وإن أجابوكم إلى داعية الإسلام فاسألوهم عن الزكاة فإن أقروا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم. فجاءت خيل خالد بن الوليد بمالك بن نويرة في نفر من بني ثعلبة بن يربوع فاختلفت السرية فيهم وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا فلما اختلفوا أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيء فأمر خالد مناديًا فنادى: "أدفئوا أسراكم"، وهي في لغة قبيلة كنانة القتل وكنانة قبيلة خالد، فظن القوم أنه أراد القتل ولم يرد إلا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكًا. وتزوج خالد أم تميم امرأة مالك".

ولن أدخل في تأويل المؤرخين والفقهاء لقتل خالد بن الوليد لمالك بن نويرة وإستعمال رأسه حطباً لطبخ طعامه، فذلك أمر ليس في خوضه نفع وذلك لإنقسام الناس حول خالد بن الوليد ليس اليوم ولكن منذ عزله عمر بن الخطاب عن القيادة وهو في نشوة النصر...لكني أود أن أخلص مما جرى في قتل مالك بن نويرة ومن كان مثله ممن رفض دفع الزكاة بشكل خاص وبحروب الرِّدة بشكل عام بنتيجة واحدة، وهي انها، أي حروب الرِّدة، أوجدت سابقتين خطيرتين في الإسلام نهج عليها المسلمون منذ ذلك اليوم حتى يومنا هذا وساهمت في تأسيس ثقافة القتل في الاسلام...

  1. وأول سابقة أنتجتها حروب الردة هي وجوب قتل المسلم إذا إرتد عن الإسلام..

  2. وثاني سابقة هي أن من رفض دفع الزكاة يعد مرتداً وكافراً وجب قتله على وفق السابقة الأولى... وربما قاس اللاحقون على ذلك فقرروا أن كل من رفض فريضة من فرائض الإسلام عد كافراً بحجة أن الإسلام كل لا يتجزأ وأن أركانه ليست عرضة للفصل وكل واحد منها اساس في الدين...

فهل الأمر كذلك وما تأثير هاتين السابقتين على إسلام اليوم؟

فأبدأ من السابقة الثانية قبل الأولى، وأعتمد الكتاب الكريم لا انتقاصاً مما قاله نبينا الأكرم (ص) ولكني أحذر الاعتماد على حديث حتى لا يقول قائل اني آخذ حديثاً وأترك آخر خصوصاً إذا كنت لست متأكدا من مصداقية عدد من الرواة، وهو حق طبيعي لأي باحث... أما الكتاب الكريم فلم يختلف المسلمون على صدق روايته وهذا يكفيني في ما أريده.. كما أني لا أسلم يالضرورة بما فعله الصحابة بعد النبي الأكرم (ص) لأنهم أجتهدوا وكما اجتهدوا هم يحق لأي مسلم في أي وقت أن يجتهد فمن قال خلاف ذلك فقد أوقف الحكمة الالهية في الزمن، وهذا ممتنع!

وأول ما يمكن قوله هو أن الكتاب الكريم يخلو من آية واحدة تشير ولو ضمناً إلى عقوبة من يتخلف عن فريضة من فرائض الدين، كما ان من المستحيل على أي شخص أن يجزم قطعاً بأن كل فريضة من فرائض الدين مساوية لأية فريضة أخرى فإذا فقد أحدها كأنما فقد الجميع... فلا أعتقد أن أحداً يستطيع أن يقول حقاً ان فريضة الحج كفريضة الصلاة، فقد جعل تعالى الأولى لمن قدر عليها فقال:  "ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا" وهي قابلة لأكثر من تأويل... بينما قضى "ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا" فلا جدال فيها ولا عذر للإمتناع عنها.. فهي ولا شك فريضة وركن من أركان الدين أكبر من غيرها.. فقد يكون المسلم معذوراً إذا لم يحج، ويبقى مسلماً، لكنه ليس معذوراً ألا يصلي فإذا فعل فقد خرج عن دينه ولا شك! وقال شبه ذلك في الصيام...

أما الزكاة فأمرها الديني هو لصلاح الأمة في مساهمة المسلم في رفد الدولة لتقوم بواجبها، وليست  الزكاة في الإسلام لتختلف عن الضريبة التي فرضتها الدول غير الدينية من أجل تمكينها من القيام بواجبها في الحكم. أي ان فرض الزكاة في الاسلام عمل سياسي متمم لأمر الدين وليس أكثر أهمية ما دام كل من المسلم في دولته والكافر في دولته يؤديه... كما أنه تعالى حدد أوقات الصلوات لكنه لم يحدد مقداراً للزكاة فاختلف المسلمون بعد ذلك حولها فقالت الشيعة انها خمس المال وقالت السنة انها ثمن ذلك الخمس. وجاء كل طرف بحجته ولكل مسلم أن يقرر أين يقف من هذا. وعلى ذلك فانه تعالى لم ينص على نسبة الزكاة بينما نص على أوقات الصلاة لاختلاف قيمة كل فريضة... فإذا كان ركن الزكاة لا يقل خطورة عن ركن الصلاة أما كان للعبد أن يرجو مولاه أن ينص على نسبة ما يدفعه....وهل يعني تركه تعالى لتحديد مقدار الزكاة أنه جعلها عرضة للتغيير تبعاً لحاجة المجتمع بينما لم يجعل أوقات الصلاة عرضة لإجتهاد أو تغيير؟ ألم يقل تعالى "وفي أموالهم حق للسائل والمحروم" فجعله حقاً مطلقاً وليس حقاً معلوماً كما جاء في آية أخرى؟ أليس هذا دليل كون الزكاة فريضة متحركة تبعاً للحاجة والظرف؟ إن ما أريد قوله هو أن قيمة الزكاة في الإسلام ليست كقيمة الصلاة وأنها ليست من حيث كونها فريضة تصبح ركنا أساساً في الدين ينتقض الدين بانتقاضها...

إلا أن هذا لا يقلل من خطورتها إذا حُجبت، فحجبها يعيق الدولة عن القيام بواجبها.. وفي هذا يكون قرار الخليفة مقاتلة الممتنعين عن دفعها قراراً سياسياً سلمياً، لكنه ليس قراراً دينياً صحيحاً وذلك لأنه لم يثبت في الكتاب أن من امتنع عن دفع الزكاة يكون قد أخرج نفسه عن الملة، وإن كان قد خرج على الدولة.. وهنا يقع الفصل بين الدين والدولة سواء أشاء الحاكم ذلك أم لم يشأ!

ولا أشك في أن الفقهاء يقبلون بهذا رغم عدم تصريحهم به أي أنهم يقبلون بأن دعمهم لمقاتلة رافض الزكاة هو موقف سياسي وليس من صلب الدين.. فلو لم يكن الأمر كذلك لقالوا بوجوب قتال تارك الصوم وبوجوب قتال تارك الحج  رغم مقدرته على ذلك لكنهم لم يفعلوا اياً من ذلك.... فلماذا قالوا إذا بوجوب قتال من يرفض دفع الزكاة إذا لم يكن ذلك بدافع سياسي محض؟

وتثير مقاتلة الممتنع عن دفع الزكاة وإمكانية قتله أكثر من سؤال يتعلق بمعنى الإيمان وجوهره...ذلك لأن وجوب مقاتلة الممتنع عن فريضة من فرائض الإسلام كما هو الحال في الإمتناع عن الزكاة تعني بالضرورة أن من قضى بذلك قضى بأن نقض فريضة من الفرائض ينقض الإيمان! فهل هذا استنتاج سليم؟

سيكون سليماً لو أن الإسلام تطابق مع الإيمان، لكنهما مختلفان. وقد نص تعالى على ذلك في أكثر من موضع في الكتاب الكريم وأجمل ذلك في قوله "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا" فقضى أن من أسلم ليس مؤمناً حتى يؤمن، ففرق بين الحالين... كما أن جوهر الإيمان واحد في كل الأديان بينما فرائض الدين تختلف من دين لدين فلو كانت فرائض الاسلام أزلية وأصيلة في الإيمان لوجب فرضها على اليهود والنصارى تماماً كما فرضت على المسلمين بأنواعها وحدودها لكن الأمر كما نعلم ليس كذلك...

أما جوهر الإيمان فواحد في كل الأديان وشواهد ذلك من الكتاب كثيرة، فقد قال عز من قائل "ليسوا سواء من اهل الكتاب امة قائمة يتلون ايات الله اناء الليل وهم يسجدون" فذكر تعالى أن من بين أهل الكتاب من هو مؤمن وأن لم يسلم مما يستوجب رضى الله عنه حتى إذا كنا نجهل ذلك...

فأين هو الدليل القرآني على وجوب بل حتى جواز مقاتلة الممتنع عن دفع الزكاة رغم إيمانه بالله واليوم الآخر ورب العزة يذكرنا في أكثر من موضع بـ: "ان الذين امنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من امن بالله واليوم الاخر وعمل صالحا فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون".

وأن الذين :"يؤمنون بالله واليوم الاخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين".

و "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا ".

فقضى ربك أن من آمن بالله واليوم الأخر وعمل صالحاً فقد نجى... ولم ترد آية واحدة في الكتاب تقضي بأن من نقض فريضة من الفرائض لا بد أنه هالك... بل لعل الادهى من كل ذلك أنه لم ترد آية واحدة تجيز لولي الأمر أن يقتل من نقض فريضة من فرائض الإسلام.

ثم إنه تعالى حدثنا عن أمر خطير حين قال: "يا ايها الذين امنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الاخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فاصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين". وقال عز من قائل: " والذين ينفقون اموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا".

فأعلمنا أن دفع الزكاة والصدقات ليس فقط غير كافٍ لتحقق الايمان بل إنه قد يكون رياءً إذا لم يقترن بالايمان بالله واليوم الآخر والتي جعلها تعالى عمود الإيمان.

على أن هذا الرب الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء ذهب مع عباده أبعد من هذا في المغفرة والتسامح والعفو...فقال عز من قائل "ولا تقولوا لمن ألقى اليكم السلام لست مسلماً"، فكيف يجوز والحال هذه أن يقال لمن ترك الزكاة وحدها أن يكون كافراً يجب قتاله؟ وهو الذي حرم قتل النفس إلا بالحق!

ثم نأتي للسابقة الثانية التي أوجدتها "حروب الرِّدة" ألا وهي وجوب قتال المرتد عن الإسلام...فلو فرضنا من باب الجدل لا غير، ذلك لأننا قررنا في ما كتبت أعلاه أن ترك فريضة من فرائض الاسلام لا تجيز مقاتلة التارك لها لعدم نصه تعالى ولا حتى ضمناً على ذلك، ونحن ليس بين يدينا في قتل النفس سوى كتاب الله... أقول لو أننا افترضنا أنه ثبت بدليل شرعي أن ترك الزكاة نقض للدين وارتداد عن الاسلام، فإن السؤال الذي ينتج عن ذلك هو: هل يجب أو حتى يجوز مقاتلة وقتل المرتد؟

فليس خفياً على أحد أن فقهاء المسلمون  منذ "حروب الرِّدة" حتى يومنا يكادون يجمعون على وجوب مقاتلة المرتد عن الاسلام...وقد ابتدعوا لذلك آلية لتحقيق ذلك القتل تقضي في ما تقضي بوجوب استتابة المرتد قبل قتله....

فهل قضى تعالى بوجوب مقاتلة وقتل المرتد عن الاسلام؟ والجواب الموجز والقاطع هو: لا ثم لا!

فإذا نظرنا في ما حدثنا به الغفور الرحيم بعيداً عما فعله واحد أو أفتى به اثنان، لوجدنا أنه تعالى ليس فقط لم يقض بوجوب مقاتلة المرتد بل قضى بوجوب عقوبة قاتل المرتد إذا كان القتل قد وقع لمجرد إرتداد المقتول وليس لأنه حمل السلاح واعتدى على المسلمين أو أفسد في الأرض!

وأول حكم إلهي هو النص الأزلي الذي كتبه على المؤمنين منذ آدمنا الأخير، حسب ما أخبرنا به وليس لنا إلا ما علمنا، والقاضي:

"من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا."

فكيف يمكن لأي شخص نبياً كان أم خليفة أم ولي أمر أن يقضي بجواز قتل نفس خارج هذا الحكم الإلهي؟ فالمرتد ليس قاتل نفس حتى يقتل وهو غير مفسد في الارض فإذا كان وقع في شبهة أو كفر فامره إلى الله وحسابه عليه...

وعزز تعالى ذلك بقوله "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، فإذا قضى تعالى أنه لا يجوز إكراه أحد كي يدخل الاسلام فكيف يمكن أن يكون تعالى قد أوجب قتل من خرج منه طوعاً كما دخله طوعاً؟ وأوصى نبيه الاكرم (ص) بذلك قائلاً: "ولو شاء ربك لامن من في الارض كلهم جميعا افانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ".

وختم ذلك بخطابه للمؤمنين: "يا ايها الذين امنوا عليكم انفسكم لا يضركم من ضل اذا اهتديتم الى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون". فقال لعباده أن لا شأن لكم بمن يؤمن أو يكفر إذا ما انشغلتم بانفسكم وهدايتها وصلاحها.. ذلك لأنه تعالى تولى أمر الكافرين في نصيبهم من الدنيا وعذابهم في الآخرة، وشواهد ذلك في الكتاب لا تحصى لكثرتها!

ولو أنه تعالى لم يتحدث في كتابه الكريم عن المرتد لوجدنا مخرجا في تأويل التعامل معه، لكنه تعالى قال في محكم كتابه:

" يا ايها الذين امنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف ياتي الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم."

فأخبرنا العليم العلام أنه إذا ما ارتد قوم عن الإسلام فإنه تعال سيكفي المسلمين ذلك بأنه يأتي بقوم آخرين يجاهدون في سبيله حق جهاده ولم يقل لنا أن نقاتل أولئك المرتدين ولو شاء ذلك لكلفنا بمقاتلتهم حين تكلم عن ارتدادهم...

ثم قال عز من قائل: "ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم ان استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاولئك حبطت اعمالهم في الدنيا والاخرة واولئك اصحاب النار هم فيها خالدون."

فقضى أن من يرتدد عن دينه ويمت فهو كافر فإن حسابه عند ربه خالداً في جهنم وليس حسابه على أيدينا كما قضى الفقهاء خطأً ولا شك!

كما ان الغفور الرحيم لم يترك الأمر عند ذلك فنبهنا لأمر خطير حين قال:

"ان الذين امنوا ثم كفروا ثم امنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا." فأخبرنا بجواز أن يعود الكافر للايمان، فإذا كان الأمر كذلك فكيف يجوز قتل من أجاز الله إمكانية عودته للايمان؟

فما الذي وصلنا من هذه الثقافة التي أنتجتها "حروب الرِّدة"؟

إن وجوب قتل المرتد عن الإسلام بل وحتى الرافض لفريضة من فرائض الاسلام اصبحت جزءً من ثقافة الاسلام التي تربى عليها المسلمون ثلاثة عشر قرناً واصبحت تتحكم بحياتنا.. ولنأخذ مثالين على ذلك من الشيعة والسنة..

  1. فقد أفتي روح الله الموسوي الخميني، باعث نظرية ولاية الفقيه ومؤسس الجمهورية الاسلامية الايرانية، بوجوب قتل سلمان رشدي، وهو الكاتب البريطاني الجنسية الهندي الاصل، وذلك بحجة إرتداده عن الاسلام حيث أجمع الفقهاء على وفق ما أفتى الخميني بوجوب مقاتلة كل من يسيء للنبي الأكرم (ص). ولعل أكبر خدمة قدمها الخميني للكتاب البائس وهي الخدمة التي جعلت من سلمان رشدي، وهو كاتب عادي شأنه في ذلك شأنه عشرات الآلاف من الكتاب باللغة الانكليزية الذين ينتجون الغث كل عام وينساهم الناس في العام القادم، جعلت منه كاتباً مشهوراً عالمياً بل جعلت كتابه موضع إهتمام العالم فترجم لعشرات اللغات وشاعت حكاياته البائسة عن نبينا الاكرم (ص) وبيته الطاهر، ولو ان الخميني سكت عن الكتاب لنفع الاسلام أكثر لكنه التزم بما أجمع عليه الفقهاء، فأخطأ ولا شك!

  2. والمثال الثاني هو ما خرج عن فقهاء الأعراب علناً في العقدين الماضيين من فتنة تدعو لقتل المسلمين وغير المسلمين بل بمعنى أدق، تدعو لقتل كل من يختلف عن المفهوم الأعرابي المتخلف للاسلام (ولي توسع في هذا سيأتي لاحقاً باذن الله)... فالخراب والقتل الذي شهدناه ونشهد اليوم في العراق وسورية وليبيا ومصر واليمن وتونس وأفغانستان والصومال والجزائر يمكن إرجاعه كله لثقافة القتل التي ولدت عن "حروب الرِّدة" والتي قضت بوجوب قتل المسلم المرتد.. فكل ما يحتاجه المسلم البهيمي اليوم أثناء عملية غسل دماغه (إذا افترضنا ان لديه دماغاً) هو أن يقال له أن هذه المجموعة من الناس قد ارتدت عن الاسلام فيوقع فيها القتل والاغتصاب والخراب، تماماً كما فعل المسلمون في "حروب الرِّدة"!

ترى إذا كانت "حروب الرِّدة" قد جعلت قتل المسلم المرتد فريضة واجبة، أيكون من الصعب جعل المسلم يعتقد بأن قتل غير المسلم أكثر وجوباً؟