ولا يكتمل مشهد المنظومة الوهّابية في
أوروبا إلا بالتعريج على الأكاديميّات التي أنشأتها السعودية في غير دولة، وفي مقدّمة هذه الصروح المبنية تحت شعار "ربط النشء من أبناء الأقلّيّات المسلمة بدينهم
وعقيدتهم من خلال الدروس النظرية والعملية"،
تأتي
"أكاديمية الملك فهد" في لندن،
و"أكاديمية الملك فهد" في بون التي تضم
مدارس من المرحلة الابتدائية إلى الثانوية، ومسجداً يتسع لـ 700 مصلٍّ.
أيضاً يوجد "معهد العالم العربي" في
العاصمة الفرنسية باريس، بل لا تستثنى الجامعات الغربية حتّى العريقة منها من سيل البترو ــ وهّابية، فالمملكة "أدركت أهمّية إبراز حقيقة الإسلام وتصحيح المفاهيم
الإسلامية المشوّهة".
من هنا، كان "كرسي الملك فهد للدراسات"
في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن، كما كان "كرسي الملك عبد العزيز للدراسات الإسلامية" في جامعة كاليفورنيا، و"كرسي الملك فهد للدراسات الشرعية
الإسلامية" في كلّية الحقوق في جامعة هارفارد.
ما تمّ تعداده مقدّماً ينتسب جميعُه
إلى حقبة زمنية واحدة هي حقبة الثمانينيات والتسعينيات، أي قبيل أحداث الحادي عشر من أيلول. في تلك المرحلة من عمر المملكة، كان فهد مسكوناً بهاجس التصدّي لامتدادات
الثورة الإيرانية، ولا سيّما أنّ الأخيرة بلغت آنذاك مرحلة التأثير القوي في ساحة الثقافة الإسلامية. والهواجس المشار إليها، معطوفة على الإغراءات المالية والنفطية،
جعلت الدول الغربية والأوروبية بالتحديد تغضّ الطرف عن التوسّع الوهّابي في البلدان ذات الأقلّيّات المسلمة. تغاضٍ ما لبثت أوروبا أن دفعت ثمنه بالدماء.
يقول الخبير أليكسي أليكسيف في شهادته
أمام مجلس الشيوخ الأميركي، إنّ "متخرّجي المدارس الوهّابية كانوا وراء الأعمال الإرهابية مثل تفجيرات لندن في تمّوز 2005 واغتيال الفنّان تيودور فان جوخ الهولندي
عام 2004". وثمة نماذج توضح استمرارية النهج السعودي القائم على تفريخ الوهّابية حتّى ما بعد أحداث 11 أيلول، التي جعلت الرياض تعمل على امتصاص غضب واشنطن إزاءها،
بحملات إعلامية وأمنية أشبه ما تكون بالفقاعات. ولم تمر سنوات قلائل حتى صارت سوريا قبلة "الجهاديّين" من كلّ حدب وصوب، وقد بدأ ربائب المدارس والأكاديميّات
الوهّابية في أوروبا شدّ الرحال للنفير إلى الساحة الشامية، وهو نفير ظنّ حكّام أوروبا أنّ السكوت، بل وتسهيله، سيحقّق غاياتهم السياسية وسيخلّصهم من جيل
"القاعديّين الجدد".
حديث
الوهّابية من جديد
خابت الظنون وافترقت حسابات الحقل عن حصيد البيدر. ما هي إلّا أشهر معدودات حتّى اندلق "الجهاديّون" نحو أوروبا مدشّنين هجماتهم بالإغارة على صحيفة "شارلي إيبدو"
وغير منتهين على ما يبدو بهجمات باريس الدامية. ليلة 13 تشرين الثاني 2015 التي وُسمت بأنّها 11 أيلول أوروبي دقّت ناقوس الخطر على نحو غير مسبوق، وأعادت تزخيم
الجدل بشأن السياسات الأوروبية وخصوصاً الفرنسية حيال التغلغل الوهّابي في أوروبا الغربية.
أول القرارات التي اتّخذتها باريس على
خلفية ذلك الجدل إغلاق مساجد وصفت بأنّها تبثّ الكراهية وطرد دعاتها من الأراضي الفرنسية، وهو قرار ليس الأوّل من نوعه، فقد سبقتها في عدّة دول أوروبية إجراءات
مماثلة، وتحديداً عام 2012 منعت السلطات السويسرية الداعية السعودي محمّد العريفي من دخول أراضيها لأسباب؛ من بينها حضّه على كراهية الآخر. وبموجب القرار السويسري،
بات العريفي محروماً من دخول دول "الشينغن" الـ 19.
ألمانيا بادرت، من جانبها، في أيلول
الماضي إلى إغلاق "الأكاديمية السعودية" في بون، في وقت حمل فيه الجدل البريطاني والإيرلندي المتعاظم حول المدارس السعودية، الملحقيةَ الثقافية التابعة للرياض على
اتّخاذ قرار بإلغاء كلمة المدارس من جميع الوثائق والأوراق المتعلّقة بالطلاب واستبدال تعبير "مجاميع للتقوية" بها. خطوة التفافية لم تفلح في إخماد المطالبات
الأوروبية بقطع الطريق على تدفّق البترو ــ وهّابية.
لكن البرلمان النمسوي كان السبّاق في
إقرار قانون يحظر أيّ "تمويل أجنبي للمنظّمات الإسلامية" وأئمّتها (شباط الفائت) ضمن جهود فيينا لمكافحة التطرّف.
أمّا إسبانيا، فرفضت مطلباً قطرياً
بتشييد أكبر مسجد على مستوى أوروبا، وذلك على أطلال ساحة مصارعة الثيران الواقعة وسط برشلونة، بكلفة قدّرت بأكثر من ملياري يورو. وعزت وسائل إعلام إسبانية الرفض إلى
خشية برشلونة والحكومة المركزية في مدريد من تكرار التجربة السعودية الوهّابية على أراضيهما.
هو الذعر الغربي، إذاً، من تغوّل
الوهّابية واستحالتها خطراً محقّقاً على حياة الأوروبيين وأمنهم بعدما كانت سيف حكوماتهم ودوائرهم الاستخبارية المسلّط على رقاب الخصوم. ذعر وإن كانت أحداث 11
أيلول قد أطلقت صفارته الأولى، فإنها لم تكن كافية لإقناع حكّام أوروبا بأنّ غثّ أنظمة البترو ــ وهّابية يفوق سمينها، فهل يكون 13 تشرين الثاني الفرنسي اختبار
اليقظة الأخير؟
ثمار التزاوج السعودي ــ الوهابي
الأولى
"فلمّا تحقّق محمّد من معرفة التوحيد، وعلم ما فيه من المصالح الدينيّة والدنيويّة، قال له: يا شيخ، إنّ هذا دين الله ورسوله الذي لا شكّ فيه، وأبشر بالنصرة لك ولما
أمرت به، والجهاد لمن خالف التوحيد، ولكن أريد أن أشترط عليك اثنتين:
نحن إذا قمنا في نصرتك والجهاد
في سبيل الله، وفتح الله لنا ولك البلدان، أخاف أن ترحل عنّا وتستبدل بنا غيرنا،
والثانية: إنَّ لي على الدرعيّة
قانوناً آخذه منهم في وقت الثمار، وأخاف أن تقول لا تأخذ منهم شيئاً،
فقال الشيخ: أمّا الأولى فأبسط يدك
الدم بالدم والهدم بالهدم، وأمّا الثانية فلعلّ الله أن يفتح لك الفتوحات، فيعوّضك الله من الغنائم ما هو خير منها".
هذا ما تعاهد عليه الأمير محمد بن سعود
والشيخ محمّد بن عبد الوهّاب في فاتحة لقاءاتهما بالدرعية.
العهد السابق أرسى الدعامة الأولى
لدولة آل سعود في جزيرة العرب بنسخها الثلاث. عبر جناحي السيف والدعوة، أفرد ابن سعود سلطانه خلف أسوار نجد. كانت الفتاوى الوهّابية، التي تكفّر الأغيار جميعَهم
وترمي عموم المسلمين بالابتداع والشرك والجاهلية، مطيّة السعوديّين الأوائل الأكثر نجاعة لغزو قبائل الجزيرة وتشييد المُلك على أنقاض إماراتها.
في المقابل، رأى ابن عبد الوهّاب أن
أسياف ابن سعود الوسيلة المثلى لبسط طريقة ما كان لها أن تظفر بالأتباع والأنصار لولا الخيل والرَّجِل السعوديّين.
فالسواد الأعظم من علماء الأمّة آنذاك
بمن فيهم مشائخ الحنابلة رفضوا بشدّة ما جاء به محمّد بن عبد الوهّاب، وهو رفض لم يحل دون بلوغ الشراكة الوهّابية ــ السعودية مراماتها في ظلّ رضى ودعم من
البريطانيّين الذين أرادوا تقويض أركان الدولة العثمانية ومشروعيتها. وبرغم الانكسارات التي تعرّض لها مشروع "المحمّدين"، فإنّ هذا التزاوج سرعان ما انبعث كرّة أخرى
أوائل القرن الماضي، فاتحاً عهداً جديداً من التبادل الوظيفي السعودي ــ الوهابي الذي استبدل عائدات النفط وغنائم الغزو والرعاية الأميركية، بالاستعمار البريطاني.