والتقية حسب التفسير الشيعي هي تجنّب انعكس الصراع العثماني- الصفوي انعكاسات ويرى النائيني ان الاستبداد يقوم على شعبتين: منذ اليوم الأول للاحتلال البريطاني ورغم "التهميش" أولاً- جامعة النجف أو ما يطلق عليه الحوزة العلمية: ألقى الدكتور محمد فاضل الجمالي تعتبر جامعة النجف المنبع الرئيسي كم آية الله "عظمى" لدينا الآن في العراق؟ لم يكن هناك من نشاط للحركة الإسلامية الشيعية ثانياً- المجموعة الثانية: هي "سدنة الروضة الحيدرية" ثالثاً- المرتبة الثالثة هي ما يمكن أن نطلق عليه "قارئوا المناب" اشكاليات الدولة ومشكلة التمذهب! أذكر هذه الحادثة ذات الدلالة على التمييز وأسوق حادثة ثانية لها دلالتها، حيث يروي استمرت قوانين الجنسية منذ صدور القانون السياسيون من القوى الاسلامية الشيعية، ان قانون إدارة الدولة العراقية كرّس هذا بشكل أو بآخر لعل الأمر أخذ بُعداً خطيراً بعد الاحتلال القضية الخطيرة الثانية التي وردت في قانون ومع كل النواقص والعيوب والثغرات التي تطعن وكان تكتيك الأمريكان في البداية فتح الحدود، إن شخصية بارزة مثل الدكتور عدنان الباجه جي ما حقيقة الدور الإيراني في العراق؟ الشيء الثاني أن التباينات الشيعية - الشيعية نأتي الى الموضوع الآخر هل الشيعة يحكمون العراق؟ نقطة أخيرة: أين هو دور الاكراد؟ ولكن الفيدرالية بشكل عام عززت الديمقراطية |
الشيعــة في المشهد السياسي العراقي الراهن* الدكتور عبد الحسين شعبان* * 07/12/2007 Acknowledgment: http://www.alnoor.se/article.asp?id=14854#comments ينسب بعض مؤرخي الشيعة تأسيس مذهبهم الى الرسول محمد (ص) باعتباره البذرة الأولى في الإسلام، ولعلهم في ذلك لا يختلفون عن المذاهب الاخرى التي هي كذلك تنسب نفسها الى النبي محمد (ص) مثل المذهب الحنفي أو الشافعي أو الحنبلي، ويستدلون على ذلك بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو وصايا. والشيعة هي فرقة إسلامية نشأت على مراحل، وإن الإمامية أو الإثنا عشرية وهو ما يطلق عليهم أحياناً، أو ما يعرف به شيعة العراق اليوم، ظهرت في فترة متأخرة.
أثارت الحركة الشيعية منذ تأسيسها الأول اشكالات كثيرة بخصوص موقفها من السلطة، وفيما بعد بسبب ما تعرّضت له من ملاحقة واضطهادات، واضطرت إلى العمل السري في فترتي الحكم الأموي أو في الحكم العباسي، مما دفع البعض للاعتقاد أنها "حركة باطنية "، وأن الشيعة لا يمكنهم الظهور على السطح، خصوصاً وأن "مبدأ التقية" كما يقال يحكمهم.
ويذهب المفكر الاسلامي الايراني علي شريعتي الذي اغتيل في ظروف غامضة في لندن في العام 1976، الى وجود نوعين من التشيّع، الأول وهو الذي يطلق عليه إسم " التشيّع العلوي"، أما الثاني فيسميّه " التشيّع الصفوي"، والمقصود بالاول الانتماء الى هوية الإمام علي والى مدرسة آل البيت، أما الثاني فهو التشيّع السلطاني أو السلطوي، خصوصاً جانب الإكراه والإرغام الذي امتاز به.(2)
كان الصفويون عندما ينتصرون يتوّجهون بخيولهم وأسلحتهم لتدمير "المراقد السنية" وكان العثمانيون عندما ينتصرون على الصفويين في العراق يذهبون لبسط مذهبهم على الشيعة بوسائل مختلفة، ولذلك كان هناك نوع من الاحتقان الطائفي شهدته فترة الصراع الصفوي العثماني على العراق تحديداً، حيث كان العراق مركز الحرب والصراع الدائر بين العثمانيين والصفويين. أثارت التجربتان الدستوريتان الايرانية 1906 والعثمانية 1908 حراكاً سياسياً وفقهياً في العراق، وكانت النجف مركز الشيعة العالمي، مسرحاً لسجالات فكرية غنية فيما يتعلق بالدستور العثماني 1908 حيث كان العراق ما يزال يخضع للدولة العثمانية، والدستور الايراني 1906 الذي تم فرضه من جانب الحركة الشعبية على شاه ايران. واذا كان السند الشرعي للفقه السني بشكل عام قد استند الى مبدأ الشورى، بوجه الحركة الدستورية، فإن الفقه الشيعي قد انقسم أيضاً بين مؤيد للدستور ومعارض له. وكما سميّ في حينها بين " أهل المشروطة" أي دعاة الدستور وبين " أهل المستبدة" أي أنصار الملكية المطلقة. وكان الشيخ ميرزا حسين النائيني قد وضع كتاباً بعنوان "تنبيه الأمة وتنزيه الملّة" قدم فيه أطروحته دفاعاً عن الدستور الذي يعتبره "مشاركة إزاء الأمة في القرار والولاية" ومساواتهم مع شخص السلطان، وحق الأمة في المحاسبة والمراقبة وتحديد مسؤولية الموظفين، وهذا هو الامتداد الطبيعي لحركة الاصلاح الديني والسياسي لجمال الدين الافغاني ومحمد عبده ورفاعه الطهطاوي وعبد الرحمن الكواكبي والتونسي وغيرهم.(3)
الاولى من السلطان (سياساته التحكيمية) والعبودية هنا تستند الى القهر والغلبة، والثانية خضوع رؤساء المذاهب والملل له والعبودية هنا تستند الى الخدعة والتدليس. وعندما تأسست الدولة العراقية المعاصرة في 23 آب (اغسطس) 1921 بعد الاحتلال البريطاني للعراق 1914 -1918، سعت بريطانيا لحكم العراق مباشرة، ثم عبر الانتداب، واضطرت الى قيام "حكم أهلي" وتأسيس الدولة العراقية خصوصاً بعد اندلاع ثورة العشرين 1920، وورثت الدولة الاحتقان الطائفي والنزاعات المذهبية من فترة الحكم العثماني، خصوصاً وقد تكرّس بسياسة بريطانيا المعروفة "فرّق تسد" وبعد عزوف رجال الدين الشيعة من المشاركة في ادارة الدولة واستمرار موقفهم الرافض للتشكيلات التي اقامها البريطانيون، وكان العراق وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو 1916 من حصة بريطانيا، وحتى قبل هذه الاتفاقية كانت هناك محاولات لتقاسم المناطق وإخضاع العراق إلى الإمبراطورية البريطانية.(4)
منذ عام 1918 بدأت 3 ثورات مهمة في العراق:
وكانت أهم فتوى صدرت في العشرينات هي فتوى آية الله محمد تقي الشيرازي التي أصدرها من مدينة سامراء، وهي مدينة سنية رغم وجود مرقدين شيعيين للامامين علي الهادي والحسن العسكري، (اللذان فجرّا مرتين بعد الاحتلال في شباط/فبراير 2006 وحزيران/يونيو 2007 من جانب جماعات ارهابية ومتطرفة) كما يوجد فيها قبو يعتقد الشيعة انه مكان اختفاء صاحب الزمان "المهدي المنتظر"، وهو الامام الثاني عشر لدى الشيعة. واختار الشيرازي هذا المكان لإطلاق فتواه للتأكيد على أن هناك وحدة وامتداداً بين الشيعة والسنّة في رفض المحتل، وعندما سُئل الشيخ ضاري وبعض رؤساء عشائر العرب السنة من زعماء المناطق الغربية عن مطالبهم وماذا يريدون: أجاب بأن زعماءنا في النجف وكربلاء هم يقررون، وهو دليل على عراقية الثورة وعلى وحدة العراقيين من أبناء الطائفتين ضد المستعمرين. ولكن من هم رجال الدين الشيعة؟ أو كيف نتعامل مع فكرة رجال الدين؟ وكيف أصبح لهم تأثير على الدولة؟ هذا الموضوع يتعلق بجانب نظري أولاً ثم ببعض الجوانب العملية، التي سنرى لها امتداداً في تفسيرنا من يكون الشيعة ومن يمثلهم وما هي مرجعيتهم؟ هناك ثلاث مراكز لرجال الدين في العراق أو لدى الشيعة:
ما هي مزايا جامعة النجف؟ : هي جامعة غير حكومية وهي أقرب إلى المجتمع المدني لا تقبل تمويلات من الدولة ولا تقبل أن يتدخل أحد في شؤونها وفي مناهجها الدراسية وفي الأبحاث العلمية، وتتلقى الأموال والمساعدات من أصحاب الخير (دون شروط) ومن أموال الزكاة والخمس والحقوق كما يطلق عليها، وهي تدير نفسها بنفسها.
كيف يتوصل الجمالي وهو الباحث في علوم التربية إلى مثل هذا الاستنتاج؟ يقول أن في جامعة النجف يتطلب من الباحث لكي يحصل على الدرجة العلمية ويتنقل من مرتبة علمية إلى مرتبة علمية أخرى، أن يقدم أطروحتين: أطروحة (مع) وأطروحة (ضد)، أي أطروحة تؤيد وتدعم وأطروحة تفنّد وتعارض. بهذا المعنى كان هناك جدل و كان هناك حوار مستمر في هذه الجامعة التي تتمتع بدينامكية خاصة، ولعل الامر المثير الآخر أن الكثيرين من الذين درسوا في جامعة النجف، علوم الدين، اتجهوا اتجاهات معاكسة فيما بعد مثل: العلامة الكبير حسين مروة حيث درس في النجف من عام 1924 إلى عام 1938، وكان والده قد أرسله من لبنان إلى النجف وعمره لم يكن يتجاوز 14 عاما. درس مرّوة 14 عاماً في مدينة النجف ثم كتب عام 1938 مقالا بعنوان "أنا وعمامتي" في مجلة الهاتف التي يصدرها القاص جعفر الخليلي، قال فيه لقد رميت العمامة، وبدأ يتحدث كيف تعرف على ماركس في النجف أي من خلال بحث وجده توصل إلى الرأي الآخر واقتنع بالرأي الآخر.(5) لم يكن هذا شأن حسين مروة فحسب فهذا هو أيضاً شأن الباحث محمد شرارة وهو لبناني الأصل ووالد حياة شرارة و بلقيس شرارة الذي تحول إلى اتجاه آخر وكذلك آل الخليلي ومدرستهم الشهيرة في "عكَد السلام" أي زقاق السلام في النجف مثل عبد الغني الخليلي وجعفر الخليلي وأيضا الجواهري الكبير وعائلة الجواهري الذين تحولوا إلى اتجاه آخر، فقسم من هؤلاء بعد دراسة العلوم الدينية أصبح "علمانياً" بكل معنى الكلمة وداعياً للحداثة. أقصد من ذلك أن المدرسة العلمية النجفية بما فيها من ديناميكية وحيوية شجعت على الرأي الآخر، لدرجة أن البعض انتقل إلى الطرف الآخر، ولكن هذا لا يعني كامل الصورة وكامل المشهد فهناك من الذين درسوا في النجف من رجال الدين المتنورين على سبيل المثال آية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسن الأمين والسيد آية الله العظمى محمد حسين فضل الله وآخرين. ويقول الشاعر والباحث الدكتور مصطفى جمال الدين ان النجف تمثل "الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق" وهي مدينة تحمل التناقض ما بين طياتها: مجتمع محافظ ولكن فكر متقدم، وتلك لعمري واحدة من الخاصيات التي تمتاز بها مدينة النجف.(6)
مرّ على تاريخ المرجعية أكثر من 1000 عام تقريباً، وكان مركزها في النجف لمدة 800 سنة وذهبت لمدة قليلة إلى قم وفترة قصيرة إلى الحلة وإلى كربلاء وهذا ما يظهر أيضا الصراع بين قم والنجف والذي انعكس بعد الثورة الايرانية ولو على نحو خفي، عندما ارادت قم استقطاب الحوزة العلمية، بحيث تصبح مركز المرجعية، اما النجف فكانت أن تريد أن تستبقي مركز المرجعية لديها رغم ظروفها القاسية سواءًا مرجعيتها الناطقة أو مرجعيتها الصامتة، وتعتقد أنها الأولى والأجدر بها، باعتبار أن الرسول كان عربياً وكذلك الامام علي والحسن والحسين وفاطمة الزهراء وزينب، ولغة القرآن العربية، ومرقد الامام علي في النجف، وانها "الأحق" بها تاريخياً، رغم أن الإسلام يساوي بين المسلمين كأسنان المشط "إن أكرمكم عند الله أتقاكم". هناك جانب خفي وغير منظور يخصّ المرجعية وله علاقات بعروبتها أو أعجميتها "أمميتها"، خصوصاً وأن هناك من يدفع لأغراض لا علاقة لها بالأعلمية والزهدية والقدرة على استنباط الاحكام والاجتهاد، باتجاه إبعاد المرجعية عن النجف. وحتى اليوم يوجد مرقد واحد للأئمة الاثنا عشرية في إيران هو مرقد الامام علي بن موسى الرضا، في مشهد، وما زال "الشيعة" العرب أو غيرهم حين يزورونه يخاطبونه سلاماً يا غريب لأنه توفي في دار الغربة يوم كان والياً على بلاد فارس.
وكانت بعض الاصوات الشيعية منذ وقت مبكر وبشكل خاص من المدرسة النجفية تعارض فكرة "نائب الامام" وهو المصطلح الذي شاع لاحقاً ويوازي فكرة ولاية الفقيه المطلقة، خصوصاً بطرح سؤال مهم بتجاوز دور نائب الامام حقل العبادات والمعاملات، ليطال حقل السياسة، أي حقل السلطة والسلطات على حد تعبير المفكر وجيه كوثراني، بما فيها قضايا الحرب والسلام.(7) كان كثيرون من مجتهدي النجف يعارضون اقحام نائب الامام، أي الفقيه المجتهد في السلطة وجهاز الدولة، وذلك رداً على تصرف نورالدين الكركي 1466-1534 الذي حاول التواؤم مع الشاه اسماعيل الصفوي "مؤسس الدولة الصفوية" بإفتائه بحق الشاه في جمع الخراج وشرعية اقامة صلاة الجمعة بإسمه، وهو ما عارضه الشيخ ابراهيم القطيفي المرجع الشيعي في النجف، في محاولة لرفض اسباغ الشرعية على السلطان. وكان هناك نوعاً من المساومة التي تمت بين السلطان وبعض رجال الدين، فالأول يمنح للفقيه سلطات واسعة لادارة العمل الحكومي ويضعه في مكانة مقدسة، مقابل منح الفقيه، الشاه التأييد الكامل ودعم سياساته بدون حدود! لكن مسألة ولاية الفقيه عادت منذ صدور كتاب الامام الخميني "الحكومة الاسلامية" وهو عبارة عن سلسلة محاضرات ألقاها في النجف واستندت اليها الثورة الاسلامية. وصدرت منذ العام 1979 عدة طبعات من الكتاب الذي اعتبر مرجعاً يكاد يعلو على الدستور أو يشكل منطلقاً نظرياً له.(8) لقد أصبحت نظرية ولاية الفقيه جزءًا لا يتجزأ من الدستور الايراني. ويشرح الخميني فكرة الحكومة الدستورية بالقول انها حكومة الاسلام، لكنها ليست مطلقة وانما هي دستورية، ثم يفرق ذلك عن النظام البرلماني أو المجالس الشعبية، ويؤكد فكرة حكومة الحق الالهي، بمعنى ان القائمين بالأمر يتقيّدون بمجموعة الشروط والقواعد المبينّة في القرآن والسنّة... وهذه هي الحكومة الاسلامية، اما الذي يقوم بتطبيق "القانون الالهي" فهو الفقيه العادل والعالِم، الذي يتولى صلاحيات النبي وصلاحيات الائمة المعصومين الاثنا عشرية دون أن يتمتع بفضائلهم الشخصية! ويشرح السيد علي خامنئي المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية في ايران نظرية ولاية الفقيه والحكومة الاسلامية في كتابه "الحكومة في الاسلام"، فيقول ان صلاحيات ولاية الفقيه "دستورياً" هي الاشراف والتدخل والتأثير في كل سلطات الدولة التنفيذية والقضائية والعسكرية والتشريعية، ولا يصبح الرئيس رئيساً حتى لو انتخبه الشعب ما لم يصادق عليه الامام.. أي الولاية العامة والمطلقة للفقيه العالم.(9)
لدينا 5 خمسة:
وفي لبنان هناك:
اما في ايران هناك:
خارج إطار هذه المرجعيات التي تعتبر مواقفها متقاربة نسبياً، هناك مرجعيات في العراق والعالم العربي وقد رفضت بعض المرجعيات العراقية الاحتلال رفضاً قاطعاً منذ اللحظة الأولى مثل أية الله السيد أحمد الحسني البغدادي ومدرسة الإمام الخالصي التي هي امتداد للشيخ محمد مهدي الخالصي الذي عرف بوطنيته ونفاه الانجليز والحكم الاهلي إلى إيران في العشرينات، ثم عاد سرّاً وألقي عليه القبض وأعيد مرة أخرى إلى إيران وتوفي فيها، ثم سمح لولده محمد بالعودة إلى العراق وسكن الكاظمية مدينته الأصلية وتبّنى إتجاهاً مختلفاً عن الاتجاه الرسمي الشيعي. ولديه بعض الاجتهادات والمواقف المتميزة منها: ان الشيعة يقولون في الآذان أشهد أن علياً بالحق ولي الله، اما الإمام الخالصي فقد اعتبر ذكر ذلك أمراً مستحبّاً وليس واجباً أو فرضاً شرعياً في الصلاة فثارت عليه الثائرة آنذاك. (ضمن التشظي المذهبي: انشق الآذان في العراق أيضاً، فهناك من ينتظر الآذان الشيعي وهناك من يتمسك بالآذان السنّي، والغريب أن الدولة سلكت السبيل ذاته على طريقة المحاصصة " العتيدة "، فهناك توقيت وآداء للآذان على الطريقة الشيعية والآخر على الطريقة السنّية). والخالصي معروف باتجاهه الوطني وإن كان قد اصطدم مع اليسار في أواخر الخمسينات بسبب المد الشيوعي آنذاك، وكان من دعاة مكافحة الشيوعية، أما الشخصية الثالثة المثيرة للجدل فهي السيد مقتدى الصدر، ويلاحظ أن الخط الآخر كله خط عربي: السيد أحمد الحسني البغدادي، الشيخ جواد الخالصي واخوانه، السيد مقتدى الصدر: كلهم من اصول عربية ومواقفهم عروبية، وكلهم ضد الاحتلال. ومقتدى الصدر هو ابن السيد محمد صادق الصدر، وقد إغتال الحكم السابق والده عام 1999 وهو أيضا من أقارب السيد محمد باقر الصدر المفكر الإسلامي البارز ومؤلف كتابي "فلسفتنا" و"اقتصادنا" اللذان يعتبران جهداً تجديدياً في الفكر الشيعي بشكل خاص والاسلامي بشكل عام. وقد اختفى قسرياً محمد باقر الصدر عام 1980 وكذلك أخته بنت الهدى ونسب الى الحكم السابق اغتيالهما. هذه الصورة الاولية او التمهيدية إن جاز التعبير لمعرفة مفردات الحوزة العلمية(10). لقد انحسرت (الحركة الدينية الشيعية) منذ مطلع العشرينات، أي بعد انتكاسة ثورة العشرين وخصوصاً بربط العراق بمعاهدات واتفاقيات دولية مع بريطانيا وحصولها على امتيازات النفط وبوجود قواعد عسكرية لها في العراق، فحتى عام 1958 نستطيع القول أنه لم يكن هناك نشاط بارز للاسلام السياسي الشيعي بإستثناء مواقف محددة كموقف الشيخ كاشف الغطاء من قضية فلسطين حيث دعا الى الصلاة في القدس والحج اليها بدلاً من مكة استثناءًا لإحباط مشاريع الصهاينة.
من المفارقة القول ان اليسار كان يستحوذ على الشارع الشيعي في الأربعينات والخمسينات، وحتى ما يسمى بالمواكب الحسينية التظاهرات المليونية كما يطلقون عليها اليوم، كان يقوم بتسييرها وتذهب الناس بمناسبة عاشوراء للإعلان عن رأيها وتعبّر عن وجهات نظرها بالجريمة النكراء باغتيال الحسين وفي الوقت نفسه لتعبر عن مظالمها وحرمانها. أتذكر مثلا في العام 1954 كان حلف بغداد على الأبواب وكان المرحوم محمد فاضل الجمالي وزيراً للخارجية مكلفاً بمتابعة قضايا حلف بغداد وكان الشعار الذي نزل إلى الشارع وعبر المواكب الحسينية الشيعية هو التنديد بحلف بغداد ومشروع الجمالي كما سميّ. وكذلك في العام 1956 اثناء العدوان الثلاثي الانكلو- فرنسي- الاسرائيلي على مصر هاج الشارع الشيعي والمواكب الحسينية لادانة العدوان، وعام 1957 كان التنديد شديداً ضد فرنسا بسبب احتلالها للجزائر وتضامناً مع الثورة الجزائرية. الشارع الشيعي آنذاك لم يكن بيد الحركة الإسلامية لأنها لم تكن موجودة ككيان سياسي، بل كان بيد اليسار، ولكنها بدأت بالصعود بسبب استقالة اليسار الماركسي أو القومي عن دوره ونكوص التجارب الاشتراكية والقومية تحدياً مما أدى الى عزوف أوساط واسعة عن التيار الاشتراكي والقومي، وأدى ذلك لاحقاً إلى أن يكون الإسلام السياسي والحركة الإسلامية الشيعية تحديداً في مركز الصدارة فيما بعد، خصوصا في ظل تطورات دولية وإقليمية كثيرة.
وفي عام 1973 تدخلت السلطات الحاكمة بالسعي لاخضاع الروضات الحيدرية والحسينية والعباسية والعسكرية والكاظمية وغيرها إلى دائرة الأوقاف، لكي تجعلها تحت نفوذها وهيمنتها السياسية، وكان الهدف هو كسب رجال الدين الى جانب الحزب الحاكم من خلال تقديم بعض الامتيازات الى سدنة الروضة الحيدرية والروضات الاخرى وغيرها في محاولة لتسييس هذا الإطار الديني لخدمة مصالح السلطة السياسية، ولكي يكون بعضهم عيناً على المعارضة السياسية الدينية. (بالمناسبة فقد حصل بعد الاحتلال انشقاق في وزارة الاوقاف وأسند ما سمّي الوقف الى رجل دين شيعي، في حين أسند ما سمّي بالوقف السني الى رجل دين سنّي بسبب الخلاف حول لمن تكون حصة وزارة الاوقاف في المحاصصة الطائفية!)
يمكنني أن أقول أن الحوزة العلمية تشكل المجموعة الأولى وهم الإيديولوجيون "Idéologist"، أي المنظرون آيات الله العظمى. أما المجموعة الثانية فهم السدنة للمقامات ولهم صلة بالزوار والمزارات وعلاقة بالجمهور أيضا، وتتشكل المجموعة الثالثة من الفئة التحريضية - الشعبية والاعلامية والتعبوية.
عانت الدولة العراقية من ثلاث اشكاليات ومشكلات رئيسية منذ بداية تأسيسها:
وكان هناك نوع من الازدواجية بين القانون المدني وبين قانون دعاوى العشائر، الذي بموجبه أنيطت صلاحيات "قانونية" برؤساء العشائر مما جعل الريف ساحة يتحكم فيها الاقطاعيون، خصوصاً من حصل منهم على تأييد البريطانيين، الذين دعموا من تعاون معهم، بوجه الغالبية الساحقة والمعدمة من الفلاحين، وضاقت السبل ووصلت البلاد إلى طريق مسدود وربطت بعجلة الأجنبي خصوصا بمعاهدات واتفاقيات عسكرية وسياسية وأمنية توجت بحلف بغداد عام 1955. بدأت إشكالية المواطنة في العراق حتى قبل كتابة الدستور العراقي (القانون الاساسي لعام 1925) حين تم سنّ قانون للجنسية عام 1924، قانون رقم 42 لسنة 1924، وقسّم هذا القانون العراقيين إلى فئتين: فئة "أ" و فئة "ب"، والذين كانوا من التبعية العثمانية هم من فئة "أ" حتى وإن لم يكونوا عرباً أو كرداً أو غيرهم من سكان العراق الاصليين، والذين كانوا لا يتمتعون بالجنسية العثمانية كانوا من فئة "ب" حتى وان كانوا عرباً أقحاح. وفي حين حصل على الجنسية العراقية بالتأسيس الكرج واليونانيين والألبان وغيرهم من التبعية العثمانية، لم يعتبر كثيرون من عرب العراق عراقيون بالتأسيس، بل اعتبروا من فئة "ب"وكان غالبيتهم من التبعية الايرانية. وفي ذلك الوقت لم يكن للجنسية من معنى كما لم تكن دليلاً على المواطنة أو الهوية أو الانتماء، لذلك بدأت المشكلة منذ التأسيس للتمييز بهذا المعنى بين فئة "أ" و فئة "ب".
ومن المعروف في الفقه الدستوري وفي قوانين الجنسية، ان جنسية الأشخاص الموجودين في اراضي اقليم ما، قبل تأسيسه، ستكون جنسيتهم بالتأسيس عند نشوء الدولة، وهي الحالة التي تنطبق على جميع الذين ولدوا في العراق قبل تأسيس الدولة العراقية ومن بينهم الجواهري الذي كان ضحية إلتباس وحيرة فيما بعد، خصوصاً عندما رغب في العمل بوظيفة معلّم، فاكتشف محتاراً أن جنسيته ظلّت غير عراقية حتى بعد تأسيس الدولة (المملكة العراقية)، في حين أن العراقيين كانوا يتوزعون على جنسيتي الدولة العثمانية التي انتهت وخصوصاً بعد معاهدة لوزان 1923 (وهم الأغلبية الساحقة) والدولة الإيرانية (وهم أقلية ولأسباب قسم منها لا علاقة له بالعرق أو الولاء بقدر التخلّص من الجندية أو الحصول على بعض الامتيازات). وبالعودة الى إشكالية جنسية الجواهري والصراع بين ساطع الحصري و عبد المهدي المنتفجي تدّخل الملك فيصل الأول فضمّ الجواهري إلى البلاط الملكي وانتهت هذه الفتنة التي كان يمكن أن تستفحل كفتنة طائفية، خصوصاً وقد ظهرت لاحقاً بحادث أنيس النصولي الذي ألف كتاباً أشاد فيه بالدولة الأموية وانجازاتها، وبما اعتبر اساءة الى "آل البيت" وثارت ضده قوى ومجموعات طائفية، في حين انتصر له رغم خلافهم مع ما كتبه علمانيون وحداثيون من الشيعة والسنة دفاعاً عن حرية التعبير.
خلال فترة حكم العقيد عبد السلام محمد عارف (المشير) صدر دستوران مؤقتان، الاول باسم " قانون المجلس الوطني" في 4 نيسان /ابريل 1963 (فترة حكم البعث الأولى)، وألغى هذا القانون دستور 27 تموز/يوليو 1958، والثاني في 29 نيسان /ابريل 1964 إثر انقلابه على حلفائه الذين جاؤوا الى السلطة في 8 شباط /فبراير 1963.(11) جدير بالذكر أن الجنسية العثمانية لم تكن حصراً على العرب وحدهم ففي العراق وغيره من البلدان التابعة للدولة العثمانية كان هناك العرب والأتراك والأكراد والأرمن والشركس والألبان والكُرج الجورجيون وشعوب البلقان وشعوب آسيوية وافريقية متنوّعة.
وشملت عملية التهجير اللاانسانية عشية الحرب الإيرانية-العراقية عشرات الآلاف من العراقيين، حيث صودرت الأموال المنقولة وغير المنقولة للمهجرين واحتجز الآلاف من شبابهم وضاعوا فيما بعد في السجون في عملية اختفاء قسري جماعية. كانت هذه الخطوة واحدة من العوامل التي قُرأت سلفا، باعتبارها تدق ناقوس الخطر، فالحرب قادمة خصوصاً بالتوترات الحدودية والتصعيد الاعلامي من الطرفين، تلك الحرب التي دامت 8 سنوات (1980-1988) وحصدت مئات الآلاف ولم يكن لها أي مبرر مشروع على الاطلاق، خصوصاً وان أطروحات تصدير الثورة الايرانية وصلت الى طريق مسدود، كما أن العراق قرأ اللوحة السياسية بطريقة خاطئة فأقدم على مغامرة خطيرة وضارة ولم يكن المستفيد من الحرب واستمرارها سوى اسرائيل والولايات المتحدة.
من المفارقات الأخرى الاشارة الى ان الإيرانيين اعتبروا المهجرين العراقيين عرباً، ولعل الهاجس الأمني كان حاضراً وأن قسماً منهم حسب الاعتقاد الايراني يكون قد أرسل من النظام السابق، وحُرِم هؤلاء وبخاصة بعد انتهاء الحرب من حقوق إنسانية عادية مثل:
وعاشوا معاناة إنسانية بكل ما تعني الكلمة من معنى، وفي كتابي "من هو العراقي ؟" الصادر عام 2002، حاولت أن أثبت شهادات لنماذج مما عانوه هؤلاء في العراق ومما عانوه في إيران.
وقد ظل حزب الدعوة والمجلس الاسلامي يتلقيان الدعم من ايران رغم بعض الاختلافات، وعشية الحرب كان السيد عبد العزيز الحكيم في واشنطن يعرض وثيقة تقول ان العراق يمتلك اسلحة دمار شامل ومعلومات لم تثبت صحتها وهو ما فسّر باعتباره مشاركة في الحرب على العراق وحسن نية من جانب ايران للتعاون مع واشنطن. اما حزب الدعوة وقوى أخرى ففضلت ابداء الممانعة، وذلك عشية الحرب على العراق، لكن قسماً منها كان قد اتفق اتفاقات ثنائية أو قدّم وعوداً ولم يشترك بعضها في مؤتمر لندن المعروف اواخر عام 2002، ولكن لحظة إعلان احتلال العراق، توّجهت قياداتها إلى العراق بصحبة أو بالتعاون مع القوات الأمريكية، وبدأ فصل جديد من فصول العمل السياسي فيما يتعلق بفريق أو بمجموعة من الشيعة العراقية. أن الشيعة طائفة، وهذه الطائفة موجودة في المجتمع العراقي كله وتكاد تكوّن تقريباً غالبية أعضاء الحزب الشيوعي، وكذلك غالبية قياداته، وكان غالبية قيادات حزب البعث لحد 1963 من الشيعة وكذلك غالبية أعضائه حيث يقدر عددهم بحدود 68% بمن فيهم رجال المخابرات والأمن العام وغيرها من الأجهزة القمعية، كما ان غالبية أعضاء الحركة القومية العربية والناصرية وغيرها كانوا من الشيعة. الشيعة موجودون ليس فقط في جسم الحركة السياسية فحسب وإنما في الوسط العربي وفي الوسط الكردي وفي الوسط التركماني، مثلما السنة موجودون أيضا في نفس المواقع. السنة هم عرب العراق مثل الشيعة، الأكراد هم سنّة أيضا والتركمان غالبيتهم من السنّة أيضا وتوجد نسبة من الاكراد هم من الشيعة ويطلق عليهم اسم "الاكراد الفيليون" وقد لحقتهم عملية التهجير من العراق تاريخياً في العام 1963 و1969 و1971 وفي اعوام السبعينات وبشكل خاص بعد القرار 666 الصادر في 1980 عشية الحرب العراقية-الايرانية. كما توجد مجموعة من التركمان من الشيعة ويعتبر الاتحاد الاسلامي التركماني احد امتدادات حزب الدعوة الاسلامي الشيعي، ولهذا نلاحظ أن النسيج العراقي متداخل ومختلط. إذا كان هناك نوع من التمييز تعّّكزت عليه السلطات الحاكمة على مدى تاريخ الدولة العراقية لأهداف خاصة ولوظيفة سياسية تحديداً، لكن الامر تجاوزه حالياً وامتد الى بسط نفوذ طائفي مجتمعي، تكرس ذلك عبر صيغة بول بريمر الحاكم المدني الامريكي في العراق، الذي جاء بتشكيلة مجلس للحكم الانتقالي استناداً الى محاصصات طائفية واثنية ووفقاً للطائفية السياسية التي نجم عنها المزيد من الاحتقان السياسي والتوتر الاثني. اعطى بريمر حسب طريقته السحرية 13 مقعداً للشيعة و5 مقاعد للسنة و5 مقاعد للأكراد و1 للكلدوآشوريين و1 للتركمان، وبهذا المعنى كرّس الطائفية السياسية المذهبية من جهة والطائفية المجتمعية، خصوصاً وانه شجّع على الطائفية السياسية من الطرف الآخر لتواجه نقيضها، وقد أورد الكثير من الشواهد والأحاديث في كتابه "عام قضيته في العراق"، حيث كان يحذرّ قيادات القوى الاسلامية الشيعية بما فيهم المراجع أحيانا بالقول: لا تكرروا تجربة العام 1920 وبالتالي تخسروا مواقعكم، وهي المعزوفة التي ظل يلعب عليها طيلة فترة مجلس الحكم الانتقالي وعند اعداد الدستور المؤقت "قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية"، الصادر في 8 آذار (مارس) 2004، وهي المرحلة التمهيدية لما سمّي تسليم السيادة للعراقيين والاتيان بالدكتور اياد علاوي رئيساً للوزراء في حزيران (يونيو)2004.(13) وصف عالم الاجتماع العراقي الكبير علي الوردي الطائفية بانها "بلا دين" عندما تحدث عن الطائفيين، قائلاً إنهم طائفيون دون ان يكونوا حتى متدينين لأن المؤمن الحقيقي والمسلم الصادق، والمتدين الصحيح لا يمكن أن يكون طائفياً. المذهبية أو المذهب هو اجتهاد لتنظيم أمور خاصة في المعاملات، أما أركان الدين والأسس الذي يقوم عليها الدين فهي موحدة، ولهذا تنبع خطورة هذه الأوضاع الآن واستمرارها، لأنها كرست حالة الاحتقان والتشظي خصوصاً لعمليات التطهير وللاجلاء والتهجير. لقد تم تكريس الطائفية عمودياً وافقياً من قمة الدولة الى قاعدتها، ومن الوزير الى الخفير مروراً بالوزارات، إلى وكلاء الوزارات، ومنهم الى "المدراء العامون"، إلى من هم أدنى منهم، وهكذا أحيانا تصل المسألة إلى الفراشين، ليكون أحدهم شيعياً والآخر سنياً والثالث كردياً، وأحيانا يطعمّونها بإضافة كلدوآشوري أو تركماني وهكذا، مما جعل المجتمع العراقي فعلاً يفقد هويته الجامعة، المانعة، هوية المواطنة، وهذه القضية التي ينبغي الحديث عنها ستكون محط نقاش لاحقاً تتعلق باعادة طرح السؤال "من هو العراقي؟"
العراق جزء من الأمة العربية، أما قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية فقد قال: العراق يتكون من مجموعة تكوينات وعرب العراق هم جزء من الأمة العربية أي أن لا هوية غالبة للعراق، إذاً لماذا تكون ايران "بلاد فارس" في حين أن نصفها ليس من الفرس؟ ولماذا تكون تركيا "بلاد الأناضول" وحوالي 18 مليون كردي فيها وأقلية عربية وأقلية أرمنية وأقليات أخرى؟ لماذا لا يكون العراق عربيا ككيان و%80 من سكان العراق وتاريخه القديم والحديث من العرب تشكل الهوية الجامعة-المانعة للعراق، وفي ذلك أسباب أخرى منها إضعاف عنصر المواطنة والوطنية وتحميل عرب العراق ما قام به الحكام المستبدّون وفي مقدمهم النظام السابق.
ولكن أقول أن هذا النص جرى تكراره في كل الدساتير العراقية السابقة، إما في قانون إدارة الدولة العراقية والدستور الدائم فقد وضعت أربعة نصوص تتحدث عن الإسلام،
ولا أدري إن تعارضت الديمقراطية و حقوق الإنسان مع الشريعة الإسلامية فكيف يمكن حل التناقض؟(14) ثم ما هي الشريعة الإسلامية بالمعنى المحدد للكلمة؟ كيف يمكن التخلص من أصابع المفسرين والمؤولين، بحيث لا يتدخلون في هذه القضية أو تلك، هذه إشكالات أثيرت في ظل هذه الأوضاع واعتقد أنها ستطرح لاحقا بقوة، عند فترة إعداد الدستور وفي ما بعد إعداد الدستور لأنها ستشكل مرتكزا أساسيا، واعتقد أن السيد علي السيستاني كان من الذكاء عندما دعا أنصاره إلى التمسك بموضوع سيادة الدستور وليس البحث عن المناصب أو الحقائب الوزارية، وفي هذه المناسبة تتبارى القيادات المذهبية من السنّة والشيعة، فكل يريد أن يثبت أنه أكثر تمسكا بالإسلام، بالإصرار على تثبيت بعض النصوص الإشكالية مثلما ذكرت، ولكن ذلك سيكون على حساب الدولة المدنية. كانت الانتخابات حسب تقديري "قانونية" رغم التحفظات على جميع القوانين التي صدرت منذ الاحتلال، لأنها أجريت بموجب قانون إدارة الدولة العراقية، وبموجب القرار الأممي 1546 الصادر عن مجلس الأمن في 8 حزيران (يونيو) 2004، ولكنها كانت تفتقر إلى بعض عناصر الشرعية، فاضافة الى وجود الاحتلال فقد كان هناك تدخلات من جانبه، فضلاً عن أن هناك مناطق بكاملها غابت أو غُيّبت أو تغيّبت في أربع محافظات تقريبا ً(الانتخابات الاولى) إضافة إلى أن القانون الانتخابي عليه الكثير من الملاحظات، فمثلا كان عليك أن تنتخب بالقائمة أي لا مجال للمفاضلة بين المرشحين، وتنتهي علاقة الناخب بالنائب لحظة التصويت، لأنه لا يعرفه فهو صوّت لقائمة وليس للمرشح، وهذا الامر تكرر رغم المشاركة الأوسع وبخاصة بعد قبول جبهة التوافق المشاركة في الانتخابات (الثانية) بعد حصولها على وعود بتعديل الدستور. الكثير من الذين فازوا في هذه القوائم لم يكن ليحصلوا على بضعة مئات من الأصوات، لو كانوا قد رشحوا لأنفسهم ولأشخاصهم ولذواتهم، وقد تم وضع أربع قوائم رئيسية واضحة المعالم: قائمة سميت القائمة الشيعية مدعومة من السيستاني "الائتلاف الوطني الموحد" وقائمة سميت كردية (التحالف الكردستاني) وقائمة مدعومة من الولايات المتحدة سميّت " القائمة الوطنية العراقية"، وقوائم صغيرة أخرى وكذلك قائمة سميت بجبهة التوافق واعتبرت قائمة سنية اضافة الى جبهة الحوار. فالمواطن أصبح أمام حيرة لا يدري ماذا ينتخب؟، اذا لم يكن كرديا، فمن المؤكد انه لا ينتخب الأكراد، وإذا كان لا يريد القوات الأمريكية أن تستمر في العراق، فسوف لا ينتخب القائمة التي تؤيدها الولايات المتحدة، اي أصبحت خياراته محدودة خصوصاً بغياب برامج واضحة ومتميزة على أساس سياسي واجتماعي، كما لم يكن هناك تمثيل للمحافظات العراقية وخصوصاً في " المرة الاولى"، لذلك كادت النتائج أن تكون معروفة سلفاً، حتى بدخول جبهة التوافق وجبهة الحوار في المرة الثانية.
بهذا المعنى وإن كانت قد اتخذت بعض الخطوات إلا أنها لا ترتقي إلى استعادة العراق لسيادته واستقلاله، خصوصاً باستمرار موجة العنف الطائفي والإثني وظاهرة الميليشيات واستمرار الفساد والرشوة وتردّي الخدمات واستفحال الارهاب خصوصاً الجثث المقطوعة الرؤوس والمجهولة الهوية، اضافة الى الجريمة المنظمة. هذا الوضع دفع البلاد إلى العنف، وإلى الاحتقان الطائفي والاثني، الذي أصبح سائداً في الواقع السياسي والواقع اليومي الذي يعيشه العراقيون. قد يكون هناك من يتحدث عن المقاومة وأنا أقول أن هناك مقاومة مشروعة للاحتلال، فالبلد الذي يتعرض للاحتلال ولا يقاوم محتليه إنما هو شعب من العبيد، ولا أظن أن الشعب العراقي هو شعب من العبيد، بل شعب حي نابض بالحياة والحيوية يريد الانعتاق بعد أن تخلص من نظام استبدادي طويل الأمد دام 35 عاما، فهو يريد حياة جديدة ولكن تختلط عمليات المقاومة مع عمليات الإرهاب و مع قطع الأعناق وأخذ الرهائن والاختطاف اليومي والقتل بدم بارد تارة باسم الإسلام وتارة تحت أسماء مختلفة، ولهذا لابد من التمييز بين هذا وذاك. أن عمليات العنف في العراق وراءها خمس جهات رئيسية:
هذه المجموعة قد تكون قليلة العدد ولكن يمكن أن يكون تأثيرها كبيراً وربما تمتلك مالاً وفيراً. أن هذه المجموعة هي امتداد عربي أو اسلامي إذ اردنا أن نستعير هذا من التوّجه اليساري والقومي، ففي الخمسينات والستينات من القرن الماضي كنا نعتبر الالتحاق بالمقاومة الفلسطينية عملاً نضالياً وأمراً طبيعياً أو نحيّ حركة تشي غيفارا عندما ينتقل بين المدن والبلدان ليموت في بوليفيا، ونعتبر هذا جزءًا من التضامن الأممي او التضامن القومي إلخ، فماذا نسميّ القادمين الى العراق تحت باب المقاومة وليس لهم علاقة مع جماعات ارهابية مثل ابو مصعب الزرقاوي وتنظيمات القاعدة؟ علماً بأن تنظيم القاعدة وبعض الجماعات الاسلامية وغير الاسلامية تعتبر النضال والمواجهات في العراق هي عمل جهادي إسلامي، ولذلك تعتقد أنها تتضامن مع العراقيين في مجابهة المحتل بدلا من أن تذهب إلى واشنطن ونيويورك، فوجدت فرصة لمقاتلة الأمريكان داخل العراق.
ولذلك وقع العراقيون ما بين نارين فلا هي حركة تضامن عقلانية ولا هو وجود معلن وواضح خصوصاً بعض الاتجاهات التكفيرية والارهابية، التي دخلت في نزاعات وصراعات وأعمال عنف ضد السكان المدنيين ومع رؤساء القبائل والعشائر بمن فيهم قوى ضد الاحتلال، رغبة في فرض هيمنتها على بعض المناطق، وانفلت العنف بكل أشكاله وتنامى هذا مع وجود رغبة بالعنف الداخلي أيضا، خصوصاً أن هناك الكثيرين من الذين تحولوا إلى مجرمين عاديين في فترة الحصار الدولي الجائر، وقد تعرض العراق إلى مجاعة حقيقية، والمجتمع بكامله كان مجتمعا عليلاً يعاني معاناة قاسية، لذلك انتقل البعض الى القيام بعمل إجرامي حقيقي، ونجد من الذين يقومون ببعض العمليات لا علاقة لهم بالسياسة، فهم يرتكبون ارتكابات عادية فيأخذون فدية حيث يختطفون طبيباً معروفاً أو أستاذاً جامعياً أو كذا ويساومونه على دفع مبالغ طائلة حسب الحالة الاجتماعية والمالية. أن الشيعة ليسوا كتلة سياسية متجانسة، وهم جزء من النسيج الاجتماعي العراقي وأحياناً لا يربطهم رابط إلا إذا أردت أن تنسب إليهم انتسابهم إلى آل البيت على سبيل المثال، فبين الشيعة مثلما بين الآخرين مؤمنون وغير مؤمنين، متدينون وغير متدينين، ماركسيون وقوميون وإسلاميون، حداثيون وتقليديون، معتدلون ومتطرفون، ومن اتجاهات سياسية متنوعة ولذلك فهم مثل بقية أفراد المجتمع. ولا يستطيع أحد الإدعاء بتمثيلهم مهما بلغ من منزلة حتى وإن كان مرجعاً مرموقاً ويحتل مكانة متميزة. عندما أصبحت الأحزاب الإسلامية الشيعية التي شاركت مع الاحتلال حاكمة بالانتخابات أو بدونها، لم تعد تتحدث عن الاضطهاد والمظلوميات الاّ بهدف الحصول على المزيد من المكاسب، وكذلك لإسكات الآخرين عند طرح مشروع الأقاليم على البرلمان ولم تعد تذكر ما تقوم به الميليشيات التابعة لها او غير التابعة رسمياً من استباحات، و لم تتحدث عما جرى في سجن أبو غريب أو سجن الجادرية لا من موقع المسؤولية ولا من خارج موقع المسؤولية مما يضع علامات استفهام كثيرة حول موقعها الراهن والمستقبلي، خصوصاً لو تم التوقيع على اتفاقيات عسكرية وسياسية وأمنية طويلة الأمد، وبعد الامضاء على دستور فيه الكثير من الألغام والمفخخات، فما بالك لو تم تغيير عناصر المشهد لتتحول إلى مجموعة صغيرة مهمشة، خصوصاً إذا ما جرى إلغاء الامتيازات، لما يُطلق عليه اليوم اسم "أمراء الطوائف" أي الجماعات المستفيدة والمتنفذة من الوضع الراهن.
وبالطبع لو كان الأمريكان يريدونه لنقلوا بعض الصناديق، وكان قد فاز مثلما فاز آخرون، فبعض الذين وضعوا في مناصب عليا لم يفوزوا بل فُوّزوا بطريقة أو بأخرى. ترشح الباجه جي لكي يكون نائبا للرئيس بإسم "السنّة" هذه المرة، فقد ادعى أنه "سني" ولكنه لم يحصل على الموافقة فأغلق مكاتبه وصحيفته وترك أنصاره وكأننا أمام مشهد يتكرر باستمرار: إن الفردية و اللامؤسساتية هي سمة من سماتنا، عاد الباجه جي فيما بعد ليلتحق بقائمة الدكتور اياد علاوي (القائمة الوطنية العراقية). وفي ظل علاقة الشيعة بالدولة وعلاقة المرجعية بالطائفية غالباً ما يتم السؤال:
وبعد الاحتلال مباشرة، دخل الآلاف الى العراق من إيران وأعني بذلك (الإيرانيون) وليس العراقيين المهجرين وانخرطوا في مجالات مختلفة:
هذا الدور تنامى وقد عبّر عنه وزير الدفاع العراقي الاسبق بغض النظر عن أهدافه حين قال: أن إيران والعهدة عليه تصرف شهرياً 50 مليون دولار في العراق، لا أريد أن أقول إن هذا الرقم صحيح أو خاطئ لكن اعرف من معلوماتي الخاصة أن لإيران دور كبير في التأثير على الأحداث وعلى مساراتها لاعتبارين:
العراق في الصدارة بالنسبة للبرنامج الاقليمي لايران ولمشروعها السياسي الآني والمستقبلي، ولذلك تحاول التأثير على الأوساط العراقية المختلفة وبوسائل مختلفة، وعلى الأقل أستطيع القول أن هناك ثلاث محافظات الآن تقع بهذا القدر أو ذاك تحت "النفوذ الإيراني" شبه المباشر: البصرة والعمارة والناصرية. وهذا النفوذ حقيقي حتى وان تم بشكل غير مباشر اي عبر جماعات موالية بغض النظر عن رأينا فيها أو بمنطلقاتها.
وهناك فوارق كبيرة بين كيان سياسي او اجتماعي ديني لتجمع سياسي طائفي، وبين عموم الشيعة، الشيعة ينخرطون في مجتمعاتهم وهم جزء منها، وجزء من الحركة الفكرية والثقافية والسياسية، وعلى حد تعبير العالم الكبير محمد مهدي شمس الدين في كتابة الوصايا، وهو كتاب موجز الاّ أنه من أهم الكتب، خصوصاً وانه كتبه عشية وفاته ويمثل خلاصة تجربته حيث كان رئيساً للمجلس الشيعي الاعلى في لبنان، يدعو الشيعة لخدمة آل البيت ألاّ يكون لهم مشروعهم الخاص وعليهم أن ينخرطوا في مجتمعاتهم وامتهم وشعوبهم ودولهم، إذا كانوا يريدون أن يخدموا آل البيت فعلاً وعليهم بدل التمايز والانعزال أن يطالبوا بالمساواة والمواطنة الكاملة، فذلك خدمة حقيقية لآل البيت وخدمة لمجتمعاتهم ولتطور هذه المجتمعات وتماسكها. يقول شمس الدين: "وصيتي الثابتة للشيعة العرب في كل وطن من أوطانهم وللشيعة غير العرب خارج إيران (إيران هي دولة قائمة بنفسها- التأكيد من شمس الدين وليس مني)... أوصي الشيعة في كل مجتمع من مجتمعاتهم وفي كل قوم من أقوامهم وفي كل دولة من دولهم الاّ يفكروا بالحس السياسي المذهبي أبداً، وألاّ يبنوا علاقاتهم مع أقوامهم ومع مجتمعاتهم على أساس التمايز الطائفي وعلى أساس الحقوق السياسية والمذهبية". ويواصل شمس الدين وصاياه الى الشيعة : بألاّ يسعى أي منهم الى أن ينشئ مشروعاً خاصاً للشيعة في وطنه... أوصيهم بأن يندمجوا في نظام المصالح العام وفي النظام الوطني العام، وأن يكونوا متساوين في ولائهم للنظام، وللقانون وللاستقرار، وللسلطات العامة المحترمة... يجب أن يبحثوا بكل سبيل من السبل عن أن يكون لهم شركاء فيها من أقوامهم وشعوبهم والجماعات السياسية التي ينتمون اليها، وأكرر وصيتي لهم ألاّ ينشئوا أية مواجهة أمنية أو سياسية مع أي نظام من الأنظمة. ورغم ان شمس الدين يقرّ بارتكاب بعض الأنظمة مظالم في حق فئات الشيعة ويطلب منها أن تعترف بالهوية الدينية والمذهبية لكل مجموعة من المجموعات، لكنه يعود ويكرر وصيته الملحة بأن "يتجنب الشيعة في كل وطن من أوطانهم شعار حقوق الطائفة والمطالبة بحصص في النظام" (15).
ولهذا أحيانا في مواقف محددة لا يكفي أن القول أننا ضد الاحتلال، فالأمر يتطلب برنامجاً واضحاً، في الموقف من المرأة والموقف من قضايا الأقليات الدينية والاقليات والقوميات والموقف من قضايا التقدم الاجتماعي؟ كيف يمكن تصوّر قتل 6 حلاقين بالعراق ولماذا؟ لأنهم يحلقون اللحى وتحرّم المجموعات المتخلفة شيعية وسنية على الحلاق أن يحلق اللحية، وهناك مواقف غريبة ولا يجمعها جامع مع الحديث عن الديمقراطية والحريات ناهيكم عن تاريخ العراق السياسي. وأعود الى مجموعة الصدر وان كانت ضد الاحتلال فهي مع دور متميز للشيعة ومع اجتثاث البعث ومع حل الجيش العراقي والتشدد الاجتماعي وتطبيق الشريعة الاسلامية وغير ذلك. أقول نعم وقد ذكرت ذلك في محاضرة لي في بيروت منذ مطلع العام 2005 ونشرتها "مجلة المستقبل العربي في عددها الصادر في ايار 2005"(14). أنا لا أستبعد أن تكون أيادي صهيونية وراء قتل العلماء العراقيين، فلحد الآن اغتيل 350 عالماً وأكاديمياً واستاذاً جامعياً ونحو 170 اعلامياً وصحافياً (بمن فيهم بعض الصحفيين الاجانب وبعض العاملين في المنظمات الانسانية) و200 طبيباً واكثر من 300 مثقفاً وهناك حوالي 3 آلاف أستاذ جامعي وعالم جرى عزلهم من وظائفهم، وهناك نحو 5000 عالم وأكاديمي عراقي غادروا الحدود، سواءًا خطفوا او هددوا بالاختطاف ولكنهم اضطروا الى مغادرة الحدود. ولم تكشف القوات المحتلة أي نتيجة من نتائج التحقيق إطلاقا، وكل الحوادث الخاصة بالعلماء والأكاديميين العراقيين سجلت ضد مجهول مما يجعلني ضمن معرفتي وخبرتي، أن هناك أصابع خاصة ربما تقف وراء هذه العمليات ولا أستبعد أن يكون من بينها القوى الصهيونية. جرى حديث عن مكاتب واتصالات وعلاقات تجارية وتدريب وغيرها حتى أن الإسرائيليين أنفسهم تحدّثوا من أنهم يساعدون في إعادة البنية التحتية للعراق، وأن هناك بعض "الخبراء" قد سافروا بعلمهم. وأريد أن أذكر ان قانون إدارة الدولة العراقية والدستور الدائم أقرّا مبدأ ازدواجية الجنسية. وازدواجية الجنسية حسب تقديري مبدأ صحيح في عالم اليوم وهناك أكثر من مليوني عراقي يحملون جنسيات اخرى، لذلك لابد من استعادتهم والسماح لهم بازدواجية الجنسية، لكن هذا القانون جاء غير مقيّد أي أنه اعتبر كل عراقي أسقطت عنه الجنسية سابقاً، أو من حقه أن يستعيد جنسيته بدون ضوابط، بهذا المعنى أن هناك قانوناً صدر عام 1950 قضى بإسقاط الجنسية عن اليهود، وبموجب هذا القانون هجّر بدون وجه حق حوالي 125 ألف يهودي إلى الخارج، ومن هناك ذهبوا إلى إسرائيل في مؤامرة لتزويد إسرائيل آنذاك، بالعنصر البشري الذي تحتاجه، وهناك أطرافاً تواطأت في هذه المؤامرة، ولكن الآن وبعد نحو خمسة عقود ونصف، اي اكثر من جيلين كيف يمكن العودة دون ضوابط، وهنا لا بدّ من التحذير لمراعاة بعض المعايير، كأن يكون المتقدم بطلب إعادة الجنسية لم يسبق له العمل في جيش الدفاع الإسرائيلي، او المشاركة في حروب ضد العرب، أو العمل في جهاز الموساد أو غيرها أو قتل عربياً. ولا بد اذن من وضع ضوابط بحيث تمنع عملية التسلل والتسرب خدمة للأمن الوطني العراقي والأمن القومي العربي إلخ. فلم يتبلور بعد منتج جامع ومانع وشامل لمقاومة الاحتلال الذي عزف على أنغام الاحتقان الطائفي والاثني، لذلك اعتقدت بعض الأحزاب الإسلامية الشيعية، أن هذه فرصتها حيث تبرر: ان الشيعة خسروا مواقعهم في العشرينات، عندما رفضوا التعامل مع الاحتلال، وهذه الفرصة الجديدة ممنوحة لهم لكي يتعاملوا معه للحصول على مواقع النفوذ. اعتقد أن الامر بالمعكوس فهم في العشرينات ربحوا الوطنية وربحوا الوطن، وهذا كان موقف غالبية العراقيين وانشطتهم الفكرية والسياسية والدينية وإن كانوا قد خسروا المواقع بما فيها السلطة كما يعتقدون، وفي الوقت الحاضر فإن الذين كسبوا المواقع، فإنهم خسروا الوطن والوطنية. ولهذا اعتقد ان معيار الوطن والوطنية هو الباقي وهو الأجدر، في حين ان السلطة والمواقع ستكون زائلة، وعندما أقول لابدّ من رد الاعتبار للمواطنة والوطنية العراقية، وهي التي ستتصدر الساحة لاحقاً، وستضطر أوساطاً من هؤلاء بعد أن تتخلخل مواقعهم، للانتقال إلى مواقع المقاومة، لأنه لا يعقل أن يكون المشروع الأمريكي قادماً للبلاد وقاطعاً كل هذه المسافات ويتعرض الى خسائر فادحة بشرياً ومادياً ثم يسلّم الحكم على طبق من فضة أو من ذهب إلى مجموعات إسلامية يقال أن امتداداتها في إيران أو لإيران مباشرة، وايران كدولة متهمة بالتطرف والارهاب والسعي لامتلاك السلاح النووي من جانب الولايات المتحدة وحلفائها، فكيف سيتم تبرير ذلك!؟
عندما أرى الآلاف المؤلفة تهتف باسم السيستاني على سبيل المثال او تخرج في مسيرات بمناسبة دينية شيعية وبخاصة في ذكرى استشهاد الحسين في كربلاء لمعركة الطف الشهيرة، لا يمكنني الحكم ان هذه الجماهير تأتمر بأمر الاحزاب الشيعية، ولكن نشاط هذه الاحزاب والقوى كبير في صفوفها بحكم "تفوقها" السياسي والمعنوي والمالي، والدعم غير المحدود الذي حصلت عليه من ايران ايضاً، فضلاً عن مواقع السلطة التي توّفرت لها، خصوصاً بعد تعاونها مع الاحتلال سواءًا في مجلس الحكم الانتقالي والوزارة المنبثقة عنه او في ظل انتخابات جرت في ظروف الاحتقان المذهبي والطائفي والاثني والتحديات والتوظيفات التي أريد لها ان تتحكم بادارة الدولة خصوصاً مع وجود ميليشيات ومسلحين وغير ذلك. لا أستطيع أن أقول أن الشارع حالياً هو اسلامي مع وجود تيار غالب بإسم الاسلام السياسي، ولذلك يصحّ القول ان هذه الأعداد الغفيرة نفسها هتفت في الخمسينات، لشعارات اليسار، وأعني بذلك اليسار الماركسي او القومي فيما بعد. فإذا كان هذا الجمهور يتم التاثير عليه من الفكر الديني والقوى الدينية فالسبب هو غياب الحريات وتفشي القمع لسنوات طويلة وحالة من حالات تزييف الوعي في ظرف معقد وملتبس ولهذا سياق تاريخي معيّن خصوصاً في المناسبات الدينية. وأستطيع القول لو أن السيستاني غداً يريد أن يرفع شعار مقاومة المحتل، فهل سيسير الجمهور وراء السيسيتاني؟ ربما سيقول كلاّ خصوصاً اذا لم يكن هناك استعداد نضالي، للانتقال إلى صف المقاومين، واذا لم يكن هناك استعداد عملي بمعنى تهيئة وقناعات ومستلزمات، أي حدوث الانفصال بين قيادة الحركة السياسية والمرجعية الدينية من جهة، ومن جهة ثانية وصول اللحظة التاريخية الى مفترق الطرق، حين ذاك سوف تأخذ الجماهير زمام أمرها بيدها، فإما أن تلتحق الزعامات الدينية بها، او انها ستعارض توجهاتها وبالتالي ستبحث هي عن زعامة دينية تنسجم مع قناعاتها. لقد تصدّى الخميني للسائد والتقليدي من التيار الديني واقتنص اللحظة التاريخية سياسياً وثورياً، فتماهى مع حركة الجماهير وكان قائداً لها، وترك أقرانه خلفه، وإن لم يفعل ذلك فقد تبحث الجماهير عن قائد أو رمز آخر. وقد حصل مثل هذا الانقسام الى حد ما في الخمسينات، لكنه ظل محدوداً بعد فتوى السيد محسن الحكيم "الشيوعية كفر وإلحاد" وقد خالفت جماهير شيعية غير قليلة هذه الفتوى وتوجهت الى زعامات دينية اخرى لتعوّضها عن مرجعية الحكيم او تقليده! هذه القضية أنا أقولها للتاريخ وستثبت أو سنرى الأحداث كيف ستسير؟
اعتقد أن النظام الفيدرالي هو نظام متطور وعصري وقد يصلح للعراق، خصوصاً في توزيع سلطات الدولة المركزية، ولعل اكثر من 25 دولة تطبق فيها الفيدرالية، وما يزيد عن 43 من سكان الكرة الارضية، هم تحت النظام الفيدرالي، ولكن الفيدرالية شيء والديمقراطية شيء آخر، وليس بالضرورة كل نظام فيدرالي ديمقراطي.
عانينا كثيرا من دولة مركزية شديدة الصرامة، دولة شمولية تتدخل في كل شيء كان فلابد من توزيع صلاحيات السلطة المركزية على الأقاليم، والاحتفاظ بثلاث أركان رئيسية تمثل الفيدرالية،
ما عدى ذلك الصحة والتعليم والتربية والبيئة والبلديات والرياضة والسياحة والثقافة وغيرها كله يمكن أن يتبع الأقاليم عن نظام لا مركزي سياسياً وادارياً. وكلما توزعت الصلاحيات بين السلطة المركزية والأقاليم استطاع سكان الأقاليم أن يأخذوا مصيرهم بأيديهم وأن يبنوا مناطقهم وفق الخطط الرئيسية. وهذا الامر لاعلاقة له بالفيدراليات الجنوبية التي يتم الحديث عنها على اساس طائفي او مذهبي تلك التي تفتح شهية بعض المغامرين والطامعين. الفيدرالية التي يجري الحديث عنها في العراق لا علاقة لها بالقواعد العامة للنظام الفيدرالي، خصوصاً وانه يتم فرضه في ظروف غير طبيعية وغير سلمية وفي ظل الاحتلال، ناهيكم عن الصلاحيات التي يمنحها الدستور للفيدراليات التي تعوّم الدولة وتجعلها مفتتة فعلياً. وهنا أود التأكيد بأن هناك فارقاً بين تأييد حقوق الشعب الكردي وبين رأي القيادات الكردية، التي ليست بالضرورة تتطابق تماماً مع مصالح الشعب الكردي أو تعبّر عنها تعبيراً دقيقاً، كما لا بدّ من الاشارة الى أن الفيدرالية ليست صفقة سياسية بين هذا الفريق الاثني وذاك الفريق الطائفي، بل ينبغي لها أن تكون بقناعات شعبية تعبيراً عن الدولة العصرية المدنية.
* الاصل في هذه المادة محاضرة ألقيت في كل من مركز البحوث العربية والافريقية (القاهرة) ومنتدى الجاحظ الثقافي (تونس) تحت عنوان :" الشيعة والدولة" ونشرت في مجلة الدراسات الاستراتيجية(البحرين) العدد 8 ، خريف 2007 تحت عنوان:" الشيعة والنظام السياسي المعاصر في العراق" . * * كاتب ومفكر عراقي له العديد من المؤلفات منها: النزاع العراقي - الايراني، الصراع الايديولوجي في العلاقات الدولية، الصهيونية المعاصرة والقانون الدولي، عاصفة على بلاد الشمس، من هو العراقي؟، الاسلام وحقوق الانسان ، الاسلام والارهاب الدولي، جامعة الدول العربية والمجتمع المدني، العراق: الدستور والدولة من الاحتلال الى الاحتلال، فقه التسامح في الفكر العربي- الاسلامي، وجذور التيار الديمقراطي في العراق. "المعارضة الصامتة" التي تمثل قطاعات واسعة. وقد استندت الدعوة الشيعية التي تقول أنها تنتمي لآل البيت الى فكرة جوهرية ثار الحسين من أجلها ودفع حياته ثمناً لها، وهي رفض الظلم وإقامة العدل. لكن المذهب الشيعي إكتسب بُعداً اجتهادياً وفقهياً كمذهب متميّز بجهود الإمام جعفر الصادق في وقت لاحق، لذلك يسمى أحياناً بإسم "المذهب الجعفري" وهو ما ورد في الكتب الاربعة المُعتبرة لدى الشيعة وهي:
|