الخير والشر من وجهة نظر التاريخ – نصيحة للحاكمين؟
آراء الكاتب
د. عبد الجبار العبيدي
أستاذ جامعي
jabbarmansi@yahoo. com
الخيرضد الشر وجمعه خيور، كما في قوله تعالى (فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيراً، سورة النور
33)، ومعناه ان علمتم انهم يكسبون ما يؤدونه. والشر هو جند من اجناد الرذيلة ويقرن بالاباطيل التي يصادفها الانسان ويتخلص منها بعمل الخير.
لكن كلمة الخير المطلق والشر المطلق غير معروضتين بمقياس التاريخ، لان كل خير قد يتولد منه شر والعكس صحيح. لذا لا معنى لهما في قاموس الحياة والتاريخ، لكن معناهما
عظيماً في الفلسفة والاخلاق. سئَلَ معاوية بن ابي سفيان احد المبايعين لخلافته فقال له: ياابن العرب اريدك ان تبايعني في الخلافة،
فردعليه الاعرابي، أبايعك يا معاوية واني لكاره لك، قال معاوية للاعرابي: " بايع فقد خلق الله في المكروه خيرا كثيرا".
من اين استمد معاوية هذه الفلسفة؟ استمد معاوية هذه الفلسفة من عكس المقصد عندما اشار الى النطفة التي تقذف من الرجل في رحم المرأة، (سورة الحج5)،
والتي ينتج عنها الانسان الذي اودعه الله العقل الذي يتميز به عن بقية المخلوقات ليفرق بين الحق والباطل، او الحقيقة والوهم، او قل بين الخير والشر، يقول الحق:
(وكان الانسان اكثر شيء جدلا، الكهف 54)..فلسفة رائعة لا يدركها الا النابهون.
لم يظهر الخير والشر في حياة الانسان الا بعد ان استقر ووعى ما يحيط به من
شرور وآثام، وحين ادرك ان العدوان عليه غير مقبول، كما انه ليس بأمكانه الاعتداء على الاخرين فهو غير مقبول ايضاً. من
هنا بدأ الانسان يضع اول خطوات السلوك الاخلاقي على الارض ويتعامل مع الاخرين، فكانت البداية حين وضع قاعدة سليمة للحياة المشتركة فيما بين البشر.
ثم تطورت مسئولية الحماية والالتزام الى حماية الارواح والممتلكات، ثم تحولت من مسئولية الفرد الى مسئولية القيادة الجماعية، هنا بدأ التطور
السياسي والاجتماعي يُظهر مسئولية الدولة، بعدها، اصبحت القيادة الجماعية في الدولة هي صاحبة المسئولية من اي تقصير.
كل شيء يتطور بمرور الزمن حتى اصبح العمل جائز وغير جائز، فالجائز هو الخير وغير الجائز هو الشر. ويعتقد علماء التاريخ ان هذا هو الذي أسموه الفلاسفة بعصر فجر الضمير.
ومن خلال دراسة حضارة المصريين والعراقيين القدماء، نجد ان الكثير من الوثائق عندهم تشير الى هذين المعنيين، وما تبعهما من الحق والواجب ويليق وما لا يليق، وقانون
حمورابي في الحضارة البابلية وردت في نصوصه كلمة الخير والشر(انظر بنود القانون في المسلة). وكذلك في البرديات المصرية القديمة. والاسلام تبنى الخير والشر كقانون في الاول للمكافئة
والتقدير وفي الثاني الملاحقة والعقاب.
من هنا نشأ الالتزام الضميري عند البشر بضرورة التقيد بين الخير والشر، وبمرور الزمن اصبح اشبه بالالتزام الديني الذي تحول الى قيام احساس بأن الالهة هي التي تحمي الناس من
الشر، فكان نشوء الفكر الديني وتقديس الالهة عند المصريين الذي تبعه قيام الفكر القانوني والتزام البشر بالمحافظة عليه دون خرق متعمد. ثم اصبح الخير جزءً اساسيا من حياة الناس،
فاعل الخير لا يٌمل، وفاعل الشر شريرا مكروهاً عند الناس، لا يستحسن التعامل معه ولا مجاراته في امور الحياة .
ومن منطلق الفكر الديني نشأ الفكر القانوني، فأن الخير يقابل بالخير من ناحية الناس،
ويقابل الشر بالعقاب من جانب السلطة الحاكمة، وهذه المعاني والاصطلاحات كلها ادت الى نشوء أسس القوانين والتشريعات في المجتمعات الانسانية فيما بعد، خاصة بعد ان أكدت عليها
الشرائع السماوية.
هنا ادخل العلماء اصطلاحات جديدة في تفسير الخير والشر( كمصطلح الحروب العبثية والرفاه المطلق بغير حدود). فهل آن الاوان لان ندخل في مناهجنا المدرسية هذه الدراسات الانسانية ليقف
منها الطالب والمواطن موقف الرضى او الاعتراض على ضوء ما درس وفهم، أم تبقى مناهجنا المدرسية بايدي التقليديين الذين لم يرفدوننا من فكرهم الا الخطأ والنزر القليل من فكر الخير.
فالحرب شر مستطير، لكن الحروب على ضراوتها وما تسببه من خسائر وضحايا لا تخلو من فوائد. فالحروب الكونية ادت الى دمار شامل، لكنها في النهاية قضت على عصر الطغاة المتجبرين والمستبدين
بامر الناس امثال هتلر وموسليني والاخرين. واثبتت ان نزوع فرد واحد الى التحكم في مصائر آمة او اكثر لا يمكن ان يؤدي الى خير، لذا فكل الدكتاتوريات الى زوال. وفائدة اخرى منها ان
الحروب تسرع في تقدم المخترعات، فمعظم ما تقدم من مخترعات كانت نتيجته الحرب العالمية الثانية. رغم ان التفكير بها كان من اجل الدمار، لكن شرها انقلب الى خير حينما اصبحت تلك
العلوم والمخترعات آلة تستخدم لصالح الانسان والتقدم المدني فكل ادوات الحرب انتقلت الى ادوات يستخدمها الانسان في حياة السلم الاهلي فأدت الى رفاهيته وتقدمه الحضاري. وهنا تأتي مقولة
معاوية أبن ابي سفيان في محلها مؤيدة بالتاريخ.
والخمور ايضا ثمرة من ثمرات الحضارة، لكن شاربيها يعجزون من السيطرة عليها، ولهذا وقفت
منها القوانين موقف الحذر والترصد. وحرمها الاسلام مع تقدير القرأن الكريم بأن شرها يرافقه منافع منها للانسان او قل لشاربيها، يقول الحق:
(يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما آثم كبير ومنافع للناس، وأثمهما اكبر من نفعهما،
البقرة 219) |
لكن الفقهاء ذهبوا الى ابعد مدى في التفسير حين قالوا (ما اسكرَ كثيرهُ فقليله حرام، فوضعوا حدا واضحا ونافعا لخدمة الانسان).
والترف الحياتي ليس مرحلة من مراحل تطور الافراد والجماعات وليس مسألة فقر اوغنى، وأنما هو موقف من الحياة، يتحول الى سلوك، فلا هو خير ولا هو شر بالمقياس النسبي للزمن
التاريخي. فحين يتحول الرفه الى الاستمتاع بخيرات الدنيا ويقدم المُترف المساعدة والمعاونة للاخرين، هنا يصبح الترف سلوكا ايجابيا في الحياة، فهو خير. اما اذا استخدم الترف للاستمتاع
بخيرات الدنيا دون ضوابط اخلاقية واستغلال اموال الدولة والمستضعفين الاخرين، يصبح الترف مفسدة للناس والمجتمع، فيكون شراً عليه وعلى الاخرين .
ان مفهوم الخير والشر والنافع والضار لامكان لهما في دراسة التاريخ. لانهما نسبيان لا مكان لهما في النتائج الحتمية المحتملة.
ان النتيجة في الخير والشر يحددها طرق استخدام نعَم الحضارة بين البشر، ويبقى
المستوى الثقافي هو الذي يعين الانسان على اتخاذ موقف سليم من الحياة. هنا تدخل الدين والعلماء والفلاسفة لوضع حد للشرعلى الناس، وفتح مجالات الخير المتعددة عند الانسان منها:
-
التحضر والتدرج في مراتب الحضارة لاكتساب العلم والمعرفة والخبرة والتجربة التي تنقل الانسان من الاعوجاج الى الاستقامة.
-
والخير الذي يبعد الانسان عن التبطر والدعة واستغلال الاخرين، والانتفاع مما ليس له فيه من حق، لكنه يقربه من المساهمة في عون
الاخرين.
فبالخير والشر تحددت مقاييس البشر ووضعت القوانين والتشريعات التي احكمت حياة الناس. ومن يقرأ القرآن والكتب السماوية الاخرى
والسيَرالنبوية في الديانات السماوية وحتى الوضعية يدرك ان هناك سرأ اودعه الله للبشرية أسمه الخير، لا احد يستطيع أدراكه الا العالمون .
لذا وقف التاريخ منه موقف الايجاب والحث على اتباعه، فهل يدرك الحاكمون
ما نقول وهم بحاجة ماسة الى معرفة سنن الله ومعاييرالضمير وقوانين حقوق الانسان ومعاملة الناس بالحسنى (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته)، فلم ينَم محمد (ص) واتباعه ليلة واحدة ولم
يدخل عيونهم غمض والناس في عوز الحاجة، فهم ولاة امور الامة، فهل ادرك الحاكمون تاريخهم. وهل باستطاعة الحاكم ان يدرك كل هذا دون ارضية ثقافية عالية مكتسبة من الفلاسفة والعلماء
الاخرين.
ان مرحلة الاعداد الحضاري المسبق للذي يتزعم قيادة المجتمع مهمة تاريخية وهي التي تحدد امكانية الحاكم بالنجاح وحفظ حقوق الناس، فقديما في عصر الامبراطوريات الكبرى الرومانية
والبيزنطية وحتى الفارسية لا يختار الحاكم لقيادة الدولة الا اذا توفرت فيه شروط الكفاءة والمقدرة والالتزام، والقانون الروماني ظهر قبل الاسلام بقرون كان لديهم لجنة لتقييم تحديد
كفاءة القائد ليصادق عليه مجلس البرلمان وبعدها يؤدي القسم وكلمة الخير تذكر في هذا القسم (راجع دائرة المعارف الرومانية، كلمة قسم)، والاسلام اكد على هذا المنحى العتيد حين
يقول دستور المدينة المغيب فقره 6 "بتصرف":(ان على من يقود الامة ان يكون قادرا على ادارتها بالحق والعدل قولا وتطبيقاً)، لذا اصبح القسَم القرآني شرطاً لازماً لمن يكلف بوظيفة
القيادة في الدولة، ومن يخالفه يقدم لمحاسبة القانون، ألم يحاسب محمد (ص) اصحابه حين غفلوا عن المهمة ومالوا الى الغنائم فخسر معركة أحد بعد ان اقسموا له بالانصياع دون تردد. لذا فأن
القسم فرض عينُ ملزم التنفيذ. فهل حكامنا اليوم من هذا الطراز من البشر؟ نرجو ذلك.
Back
to Home