Back Home Next

 

الشعرُ والشعراء والقرآن الكريم

آراء الكاتب

د.   عبد الجبار العبيدي
أستاذ جامعي
jabbarmansi@yahoo.    com

 

سؤال يتردد على السنة الناس عن سر العلاقة السلبية بين القرآن الكريم والشعراء ولم يجدوا له جوابا مقنعا من كل ما يقرأ ويسمع من الاخرين عنه،  وما ادلى به الشعراء والادباء من اراءٍ كثيرة،  واليوم سأحاول ان اعرضه وأتمنى من له علاقة بالشعر والأدب الأجابة عليه أجابة علمية بعيدة عن اي تفسير عاطفي او قومي أو ميثيولوجي. نقول :

احتل الشعر العربي قبل الاسلام وبمجيء الاسلام  مكانة التكريم عند العرب والمسلمين. فالشعر عند العرب هو منظوم القول،  وجمعه اشعار، وقائله شاعر، لأنه يشعر ما لا يشعر به غيره اي يعلم.

قال شاعر جاهلي :

على غيركم ما سائر الناس يشعر

شعرت لكم لما تبينت فضلكم

 (ابن منظور –لسان العرب مجلد 2 ص323 مادة شعر).

وقيل ما سمي الشاعر شاعرا الا لفطنته، أي لعلمه.

من هنا فأن بين كلمة شعر وشاعر وبين كلمة العلم صلة. ذلك ان الشاعر وفقاً لنظرة المجتمع له وقت ذاك هو أمرؤ اعتبره معاصروه شخصاً على علم خاص لم يكن في متناول كل الأخرين، لذا فنحن نرى ان كلمة علم ومشتقاتها ترد في معناها في كثير من اشعار الجاهلية وضدها بالطبع الجهل.

قال زيد بن الحكم :

ومُسترد القصائد والمضاهيٌ

سواءُ عند علام الرجال

 

وكما قلنا ينطبق على ضده الجهل ، والجهل ان تفعل فعلا بعيداً عن العلم.

قال ابن جني (ت392للهجرة) :

قالوا جهلاء كما قالوا علماء، حملا له على ضده. وفي الحديث الشريف: (ان من العلم جهلاً.) وهو ان يتكلف العالم الى علم ما لا يعلمه فًيجهله ً ذلك. وفي الحديث :انك أمرؤ فيك جاهلية. وهنا المقصود الحال التي كانت عليها العرب قبل الاسلام من الجهل بالله  والرسول والشرائع والمفاخرة والتجبر. فالانسان الجاهل ليس جاهلا لأن ذهنه يخلوا من كل معرفة بل هو كذلك لان لديه معارف خاطئة. والجاهلية أصطلاح مستحدث ظهر بظهور الاسلام، وقد اطلق على حال قبل الاسلام تمييزاً وتعريفاً لها عن الحال التي صار عليها العرب بظهور الرسالة من العلم.

قال عمرو بن كلثوم في معلقته المعروفة:

الا لا يجهلن احدً علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

 

من هنا كان الشعراء في الجاهلية هم أهل المعرفة، اي انهم كانوا من اثقف اهل زمانهم، وأنهم على مسوىً راقٍ وعالٍ في الفكر والرأي وفي فهم الامور. وفي الحديث :( ان من الشعر لحكمة ). اي ان في الشعر كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه وينهي عنهما، والحكَم هنا بمعنى العلم. قال الخليفة عمر بن الخطاب(رض) :الشعرً علم قوم لم يكن لهم اعلم منه،  انظر السيوطي ج2 ص47

وقال العسكري : لا تعرف انساب العرب وتواريخها وايامها ووقائعها الا من جملة اشعارها، فالشعر ديوان العرب، وخزانة حكمتها، ومستنبط آدابها، ومستودع علومها. من هنا فالشاعر هو الذي يتعاطى الشعر ومن يقوله او يكثر القول فيه.

وتأسيساً على هذا جُعل للشعراء مزايا،  ومنحهم العلماء امتيازات خاصة، لدرجة انهم اصبحوا يرون أنفسهم فوق الناس في الفطنة والفهم. كان الناس يرون هذا الراي فيهم لما وجدوا عندهم من فطنة وذكاء وحسً بديهة.

ولا يعني ان الشعراء كانوا كلهم من ارقى الناس عقلا ومن اكثرهم فهما وأدراكاً، ومن اعلمهم بالامور، وابصرهم في المعرفة، فبينهم ولا شك تفاوتا في الادراك، فهناك من هو ارقى منهم عقلا واكثر ادراكا، ومع ذلك لا يقولون الشعر ولا يمارسونه، مثل الحُكام والكهنة واصحاب الاراء الاخرى.

 وأياً ما كان  فهذا دليل على ان المعرفة العلمية  كانت معروفة ومنتشرة بين العرب قبل الاسلام ، وكان لكلمة علم عندهم مفهوم ومدلول.

هذه المنزلة الشعرية الرفيعة  للشعراء عند العرب يقابلها الموقف المضاد في القرآن الكريم كما جاء في الآية  224-227  من سورة الشعراء.

يقول القرآن الكريم :

والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترأنهم في كل وادٍ يهيمون، وانهم يقولون ما لا يفعلون، الا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وأنتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون

 

يقول بعض المفسرين :ان الشعراء المشركين يتبعهم غواة الناس ومرده الانحراف في القول والعقيدة ، فهم هائمون على وجوههم لا يلون على شيء مقصود فتجاوزوا طريق الحق والاستقامة والرشاد وقصد السبيل. والشعراء من هذه الطبقة لا تربطهم بالحق رابطة وبالاستقامة طريق.

ويصف الطبري نزول الآية  بذم الشعراء الذين هم من اهل البغي والنفاق، لا أهل الارشاد والهدى، لذا وصفوا بالشياطين من العصاة للحق. أما الذين عملوا الصالحات فهم الذين وقفوا بجانب الدعوة المحمدية يدافعون عنها بالقول والحكمة  كحسان بن ثابت  وكعب بن مالك.

ويقول ابن عربي :ان الشعر ليس يكره لذاته، وانما يكره لمتضمناته، وله عند العرب عظيم المكانة حتى قيل عنه: جرح اللسان كجرح اليد وأمضى.

وقال رسول الله(ص) ان شعر حسان بن ثابت في المشركين اسرع فيهم النُبل، اي ان قول حسان أمضى في المشركين من السيف، فكان يورقهم ويتعبهم ويوهنهم .

يفسر البعض الآيات 15-16 من سورة النور ما يجوز انشاده  ويكره ويحرم قوله. وقيل ان رسول الله فرح حين سمع شعر لبيد قي قوله  :(ان كل شيء ما خلا الله باطل). فالشعر في ميزان الدعوة هو متضمناته وليس يكره لذاته.

ويقال ايضاً ان المقصودين بالآيات شعراء المشركين الذين نالوا من رسول الله (ص) بالهجاء ومسوه بالآذى، ولم يتركوه من شرهم وعدائهم له من أمثال :أمية بن أبي الصلت ومسعود بن متعب وغيرهم من شعراء الجاهلية المعاندين للدعوة المحمدية.

 

ان اللغة هي حاملة للفكر الانساني، لكن الفكر الانساني يمكن ان يكون صادقاً، ويمكن ان يكون كاذباً، وهذا يعني ان توفر الرباط المنطقي، وصحة الشكل اللغوي في النص لا يعني بالضرورة أنه حقيقي، وجمال التركيب اللغوي ومتانته في النص لا يعني بالضرورة أنه صادق. لذا قالت العرب ان " أجمل الشعر أكذبه". وهذه الحقيقة أكدها القرآن الكريم في وصفه للشعراءبأنهم (يقولون ما لا يفعلون) لأنهم يستعملون تراكيب لغوية خيالية غير قابلة للتحقق في عالم الواقع كما في قول الشاعر:

وصرت أذا أصابتني سهامُ

تكسرت النصال على النصالٌ

 

       

فالصورة البلاغية المغالية في الخيال هي التي جعلت الشاعر كاذباً، لذا فأن الايمان بالقول هو اساس المصداقية في القول، لذا كان الوصف القرآني للشعراء بأن الخبر القرآني صادق وحقيقي.

 ورغم ما في هذه الاية الكريمة من وصف جميل وبلاغة مطلقة وهدف رائع التحقيق، الا ان الذي دعاني الى كتابة هذه السطور المتواضعة هو قصد مهم ينفع الناس ويُحل بينهم الوئام ويبعدهم عن الخصام، وهو ما تعارف عليه الناس خطئا حين قراءة الايات القرانية الكريمة مقطوعة التواصل.ففي آية الشعراء يقرأون من الاية المقطع الذي يتهم الشعراء بالاعوجاج وعدم الاستقامة كما في قوله تعالى: "والشعراء يتبعهم الغاوون ألم ترأنهم في كل وادٍ يهيمون يقولون ما لا يفعلون". وينسون ان للآية الكريمة تتمة وهي:  "الا الذين امنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون."   لذا فأن الشعر لن يكون في موضع الاتهام من القرآن الكريم، بل كان في موضع الاصلاح وتبيان المنفعة العامة منه.

 

Back Home Nextgo to top of page