قراءة في مستقبل التراث العربي الاسلامي
آراء الكاتب
د. عبد الجبار العبيدي
Jabbar44@verizon.net
من يتعرض لقراءة التراث العربي الاسلامي، لابد ان يوطن نفسه على مواجهة حشد كبير من المشاكل والصعوبات
قبل ان ينتهي الى رأي معين، يمكن الاعتماد عليه، شأنه في ذلك شأن كل الموضوعات الخاصة بالدولة العربية الاسلامية على مدى تاريخها، لان هذه الدولة وكل ما يتصل بها، وما وقع للمسلمين خلال
مدة حكمها يتعذر على الدارس ان يقول قولا ثابتاً فيها. لان الاصول التي تبنى عليها الدراسة السليمة واسعة ومختلفة ومتضاربة، لا سيما وان أغلب تلك الاصول جاءت أحادية الجانب في الرأي
والمادة التاريخية. لذا فإن بعضها يدخله الهوى من كل جانب. فالاخبار التي تناقلتها كتب التاريخ بخصوص الاحداث التاريخية وما رافقها كان بعضها مبالغاً فيه، لان المصادر التي كتبت في عهد
التدوين مثلت جانباً واحداً تماشياً مع رغبة الدولة وسياستها. لذا فمن كتب برضا الدولة استطاع ان يكتب، ومن خالفها فقد سكت وماتت الحقيقة التاريخية في صدره.
ولنعد الى
الموضوع فنقول: عندما جاء الاسلام،
جاء ليعلن نهاية العصور القديمة التي كانت السيادة فيها على الناس لطبقة محدودة تتصرف في اموالهم وحرياتهم دون ان تخشى رقيباً او حسيباَ. هذا الواقع المؤلم دعاه الى ضرورة التفكير
بتغييره، لذا عندما جاء الاسلام جاء ليقول للناس حكاماً ومحكومين، ان هناك رقيباً وحسيباً هو الله (الانعام آية 3)
وهو الله في السموات والارض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون |
فمعناه تحويل البشرية الى أمة إله واحد رقيب حسيب وخالق، وان الناس جميعا لابد ان يلتفوا
حول هذا اللواء الكبير القوي. لذا جاء بمبادىء اخلاقية ارسى دعائمها في سنيه الاولى قامت على اربعة دعائم اساسية هي:
-
الالوهية والتوحيد،
-
ودور العلم في المجتمع الانساني،
-
ومبدأ الحق والعدل،
-
ومبدأ الاخلاق السامية. والقرآن مليىء بالايات التي تؤكد ذلك.
هذه المبادىء الاربعة السامية، هي في ذاتها مبادىء سياسية، لو ان الامة سارت عليها لصلحت سياستها
وسارت في الطريق القويم الذي رسمته الشريعة لها. فعندما يقول الله تعالى:
واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا |
معنى ذلك ان هذا الاعتصام واجب التنفيذ ولا يجوز التفريط به، وهو امر
وليس خيارأ او استثناءً من هذا اوذاك. هنا يجب تطويع الأية القرآنية الكريمة الى قضية سياسية، لان الدعوة الاسلامية هي دعوة انقلابية في الفكر السياسي، قبل ان تكون دعوة في الفكر
الديني لان الاسلام لم يطالبنا بتكوين دولة دينية بل بدولة عادلة للجميع دون استثناء، والدولة لا تقاد الا بالسياسة العادلة، والعرب كانت لديهم ديانات كثيرة منها الحنيفية والصابئة
والمسحية واليهودية منتشرة بينهم، والتوحيد كان موجوداً. لكن الفرق بين الحالتين ان الاسلام كان عاما وشاملاً، بالاضافة كونه الزامي التنفيذ والتطبيق بينما الديانات الاخرى لم تكن بهذه
الشمولية، كما كانت اختيارية التطبيق.
وفي قوله تعالى:
ان هذه امتكم امةً واحدة وأنا ربكم فاعبدون |
معنى ذلك ان الامة ينبغي ان تكون واحدة، ولا يجوز لاي جماعة ان تنصرف عن هذه الوحدة
لاي سبب كان. ولهذا قال الرسول (ص) (لا تجمع امتي على ضلالة)، اي ان اجماع الامة واجتماع كلمتها لا بد ان يكون خيراً.
ان الذي حدث ان
البعض من المسلمين تصور ان العقيدة الدينية هي عقيدة دينية حسب، بينما هي في ذاتها قواعد سياسية، فالدين بمعناه الشمولي هو منهج الحياة المتكامل عقيدة وشريعة واسلوب حياة.
لذا قام المنهج الاسلامي على المساواة الكاملة بين افراد الامة، فلا تميز بين حاكم ومحكوم الا بما يقضي به الشرع. لان الله لم يميز بين انسانٍ واخر الا بمدى اتباعه لاوامر الله،
وهذا ما يسمى بالتقوى
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم |
الشريعة الاسلامية ساوت بين الحاكم والمحكوم في سريان القانون وفي مسؤولية الجميع عن
التصرف اياً كان نوعه، لذا فإن الحاكم لا يتمتع بصفة القداسة، ولم يمنح احدا سرأ مقدساً من اسرار الخلق دون الاخرين
- (البقرة آية 159):
ان الذين يكتمون ما انزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون |
هذه مسالة ظل يعاني منها التراث العربي الاسلامي حتى الوقت الحاضر. لان لا احد مقدس، سوى
الله والقرآن والرسول. فالحاكم اذا خرج على منهج الشريعة وجب على جماعة المسلمين عزله عن السلطة لان تعينه جاء مشروطا بتطبيق الشريعة، فالاخلال بها هو إخلال باستمرارية الحكم، لان
الحكم في الاسلام تراضٍ بن الحاكم والمحكوم.
هذا الجانب
السياسي في الدعوة الاسلامية كان من اخطر المشاكل واهمها الذي تعرض له الرسول (ص) وكان يدرك ان مسئلة رياسة الدولة والحقوق والواجبات والحدود العامة ستكون في غاية الخطورة
من بعده، لذا لابد من وضع تشريع مكتوب وضوابط واضحة يتماشى وطبيعة الدولة الجديدة لان الدولة الاسلامية ليست هي الوحيدة في ذلك الوقت، بل هناك دولاً عديدة تحيط بها،
كالدولة الفارسية والرومية والحبشية، لذا كان عليه ان ياتي بجديد ليكسب رضا العامة والخاصة في وقت كانت حقوق الناس مهدورة في تلك الدول لسيادة نظام الطبقات البغيض بينهم، وخاصة
ما كانوا يسمونهم بالعبيد وهم الاكثرية في المجتمع.
هنا كان التفكير جديا ومصيريا لاثبات احقية الدولة وتمايزها على الاخريات. لذا قرر الرسول الكريم (ص)
في السنة الخامسة للهجرة والامة الاسلامية تتقدم كل يوم وتتوسع ان يضع دستوراً مكتوبا ًوواضحاً ليتماشى وطبيعة تلك الفترة، فكان دستور المدينة والذي سماه (بالصحيفة) وقد نص الدستور على (72 مادة قانونية) شملت الحقوق والواجبات والثوابت الوطنية والاخلاقية في حماية الدولة والفرد معاً. هذه الصحيفة غيبت بعد وفاته (ص)، ولم يرد ذكرها الا عن طريق مؤرخ واحد هو أبن أسحاق في
السيرة النبوية والمؤرخ كان محاربأ في كتاباته وتوجهاته لانها لاتتفق مع سياسة الامويين والعباسيين فيما بعد. ومن يريد الاطلاع عليه فهو مدون بالوثائق النبوية للمؤرخ احمد حميد الله
والمودع بالمتحف البريطاني في لندن وقد اطلعت عليها بنفسي حين اعداد رسالة الماجستير. والواقدي المتوفى في (207 للهجرة) وهو المؤرخ الوحيد الذي يؤكد على وجود هذه الوثيقة المحمدية.
وسنحاول ان نقتطف بعض بنود هذا الدستور لنبين اهمية دستورية الدولة في عهده (ص) سياسياً، منها:
-
ان المؤمنين الذين اشتركوا في تكوين أمة الاسلام يكونون وحدة اعتقادية مستقلة بذاتها.
-
افراد الامة الاسلامية متكافلون فيما بينهم.
-
الوثيقة تحرم تحريماً كاملاً الاقتتال بين المسلمين حفاظاً على الوحدة الداخلية للامة.
-
تحدد الوثيقة مسئولية الدفاع المشترك عن الامة، ولا يجوز التهاون في الاعتداء على الوطن الاسلامي والمسئولية جماعية لا يحق
لاحد التخلي عنها.
-
الجار كالنفس لا يضار ولا يعتدى عليه بأي حال من الاحوال ومهما كانت الظروف.
-
الزامية الحق والعدل بين الناس، وان مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
-
ومواد اخرى كثيرة نظمت حياة الناس وحقوقهم العامة والخاصة.
لقد اظهرت الوثيقة ان كل تصرفات الرسول (ص) كانت بحدود قانون محدد ومكتوب وملزم، رغم وجود
القرآن، لتكون مرتكزا في تثبيت حقوق الدولة والمواطن. وهكذا استطاع الرسول (ص) ان يبني مؤسسةً سياسية مستقلة في حكم الدولة والناس. ولانها جاءت وامامها حضارات اعرق منها ولديها من
النتاج العقلي والفكري ما يمكن ان يطرح تساؤلات كثيرة عن الدولة الجديدة، لذا علينا ان نعي مسألة مهمة اولى وهي ان القرأن ليس بدستور للمسلمين، وانما هو كتاب هداية وعقيدة، منه تشتق
القوانين التي تستجد وتتطور نتيجة للتطور الاجتماعي في الدولة.
بعد وفاة الرسول (ص) في
11 للهجرة, تركت وفاته فراغاً وارتباكاً في هذه الدولة الفتية،
خاصة وانه لم يترك وصية صريحة حول كيفية الحكم ومن يخلفه من بعد فيه. وكل ما قيل من وصايا فما هي الا اجتهادات من وحي الجماعات التي كانت تدعي الافضلية، عندي ان الرسول الكريم لم يترك
وصية يحدد فيها من يأتي لحكم الدولة من بعده، لان ذلك ينافي آية شورى الاختيار. أما ما يقال انه اوصى لعلي في خطية حجة الوداع -ان صحت- فهو لايعدو سوى تذكير بالكفاءة والمقدرة
في ادراة الدولة لهذه الشخصية العظيمة، فهي وصية معنوية لا دخل للسياسة فيها.
وحتى لاندخل في تفاصيل الخلافة ونحن في غنى عنها اليوم نقول، ان الخلافة كانت ابتكارأ من
ابي بكر وعمر، لكن الخلافة واجهت معضلات كثيرة تمثلت في الردة والفتنة والخوارج واطماع الامويين في سلطة الدولة. لذا كانت الخلافة بحاجة الى دراسة وتثبيت، ويقف على رأسها:
-
قانونية اختيار الخليفة من الامة وهي التي تختاره وهي التي تعزله اذا لم ترضى عنه. والسقيفة ما كانت الا مشاركة فئوية خاصة،
لذا ظهر الارتداد ومقارعة السلطة.
-
ان تحد الخلافة بمدة معينة، كأن تكون خمس او ست سنوات، ثم يعود الامر الى الامة في التجديد من عدمة.
-
تحديد سلطة الخليفة، في حقه القانوني، وكيفية اختيار موظفيه وعماله على الولايات، وكيفية التصرف باموال الدولة. وقيادة الجيش
واعلان الحرب وعقد معاهدات الصلح.
-
وهل يمكن ان يكون للمسلمين أكثر من خليفة في وقت واحد.
هذه كلها امور هامة ظلت دون حل او توصيف لها، وكل ما نقرأه عند الفقهاء هو عائم وغامض.
يبدو ان
العرب والمسلمين قد انبهروا بالدولة الجديدة ونسوا انها كانت تدار بشخصية الرسول العظيمة والمهيمنة نفسياً على النفوس فكرا واحتراما واجماعاً، وان من جاء من بعده لم يكن
بمستواه ثقةً واحتراماً واجماعاً، هنا كان يعوزهم التفكير الواقعي في حكم الدولة والناس، والتفكير هو الهدف الاساسي في هذه الفصول السياسية الجديدة عليهم والمعقدة فيما بعد، والحقيقة
ان القرارات كانت بحاجة الى تفكيروتنظيم، وليس في الدنيا أخطر من العيش بدون تفكير، فوقع الجميع في محنة الزمن التي لازلنا نعاني منها الى الان، فكيف الحل؟
في دراسة التراث ينبغي علينا ان لا نحمل احدا مسؤولية التقصير في دراسته وتدوينه، لا
الامويين ولا العباسيين ولا من جاء من بعدهم، فالمسؤولية جماعية ينبغي علينا الان ان نعمل على كيفية قراءتها قراءة صحيحة حتى لا نقع فيما وقع به السلف من اخطاء.
ابتداءً نقول ان اية امة لايمكن ان تنهض بقواها البشرية دون قضية تحركها وقيم معنوية تلعب
فيها دور المحرك نحو التغيير. لذا لابد من الالتفات الى العلاقات الاجتماعية والاقتصادية واللغوية، لنستنتج منها كل العناصر المحركة لها. ولابد من دراسة متخصصة لكل جانب لنتعرف على
مواطن الخلل والضعف فيه بغض النظر عن الجوانب الاخرى، لاسيما وان النص الديني لم يقرأ او يؤول قراءة صحيحة، وهكذا مع بقية العوامل، فإن قرأناها قراءة متمعنة سنحصل على العامل الاساس في تكوين الشخصية العربية الفردية والجماعية معاً. ولا بد لنا من
ان نعترف وبلا مبالغة ان العامل التاريخي لامة العرب لعب دوراً بارزاً في تكوين هذه الشخصية وانعكاسها على التاريخ العربي، لكونهم مشتركون في الدين والاصل واللغة، لذا لعبت هذه العوامل
دورا في تاريخهم الواحد.
ان الدراسة
يجب ان لا تعتمد الا على المنهج
الحيادي بما يكفل عدم اثارة المشاكل والميل الاحادي نحو هذا اوذاك. من هذا المنطلق سيتبين لنا ان التراث هو قضية تاريخية، يجب
محاورتها بصدق وامانة مبتعدين عن العاطفة والتقديس حتى لا نقع في الخطأ، لذا يجب عرض التراث بصورة موضوعية بعيدا عن روح الصفقات الفكرية وعدم الانتصار لموقف ضد اخر، لان المحرك الاساس
في الدراسة هو خط العدل المحرض على العدالة والانصاف والمبدئية. لان الباطل وقوته الغاشمة تتقاطع خطوطها دوما في الماضي والحاضر والمستقبل ما دامت تخدم القوة والتسلط والظلم.
-
فالردة لم
تدرس دراسة علمية واقعية بعيدة عن الانحيازية الدينية والعاطفية بعد، هنا نحن بحاجة الى مراجعتها مراجعة بعيدة عن كل انحياز.
-
والفتوح الاسلامية للبلدان الاخرى، لازالت بحاجة الى مراجعة حقيقية للوقوف على اسبابها
الدينية والسياسية، وما اسفرت عن نتائج ايجابية كانت ام سلبية على التاريخ العربي وعلاقتها بالشعوب الاخرى.
-
ولا زالت فتنة عثمان مغيبة فيها النصوص ولم تكشف لحد الان لمعرفة دوافعها الحقيقية.
-
اما مشكلة الخوارج والفرق المتطرفة الاخرى كلها لا زالت بحاجة الى مراجعة حقيقية وفق نظرية
دراسة النص العلمية لنقول قولا ثابتاً فيها.
في الفترة الاولى من ظهور الدولة الاسلامية برزت خطوط كثيرة عرقلت مسيرتها تمثلت:
-
بخط الاعتزال عن قول الحق في الخلاف الشرعي بين علي ومعاوية.
-
وظهور تيار الارجاء الانتهازي مؤسساً لخط الضعف وضياع الحق بالتقادم؟
-
ثم ظهور الكتلة الساكتة في الاسلام التي مهدت لظهور علماء الجبر كالماوردي (ت450)
والغزالي (ت505) ومن بعدهم بدر الدين بن جماعة، وابن تيمية نوابن الازرق، والطرطوشي،
-
اما المحدثين فهم (على سبيل المثال لا الحصر) الشيخ محمد عبدة ومحمد عابد الجابري وغيرهم
كثير.
-
ثم تشجيع فكرة القدر
-
وقفل باب الاجتهاد في النص،
وبذلك تم القضاء على اية فكرة يتوسم منها العدل والفلاح والصلاح في حكم الامة، فكانت خلافة
المتوكل العباسي سنة 232 للهجرة
(ومن جاء من بعده) القشره التي قصمت ظهر البعير لصالح الانغلاقية الفكرية واقعدته على الارض الى يومنا هذا.
لكننا يجب ان
لاننسى شذرات من خط القوة
نعود اليها لنستلهم الدرس في خط الاستقامة حين نعود الى دراسة التراث، كما جاء في مواقف القرآن وشورى الامر، والرسول (ص) والموقف من قريش، وعمر
والموقف من القضاء والعدالة، وعلي وصلابة الموقف من الحق ومقارعة الباطل، وابوذر، وعمر بن عبد العزيز، والامام الحسين والموقف البطولي من العقيدة الاسلامية، وموسى بن
جعفر ومقارعته للظلم والظالمين، وخالد بن يزيد، وجمال الدين الافغاني، وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهم.
ولنعود الى الاسباب التي تستدعي دراسة التراث مجدداً فنقول: ان اول عيب واجهناه في
دراسة التراث هو اهمال دستور المدينة الذي كتبه الرسول في السنة الخامسة للهجرة ووضعه كمقدمة لقوننة الدولة وعدم السماح بالخروج عليها، ولعب الامويون والعباسيين الدور الاساس في هذا
القصور، لتعارضه مع توجهاتهم الجبرية والعنصرية في حكم الدولة. لذا بقيت الدولة بلا دستور يضبط نظم الحكم فيها من حيث حقوق وواجبات الخليفة ومدة حكمه ومدى سلطته على الناس بالاضافة
الى تنظيم امور المال والاقتصاد وشئون موظفي الدولة ووارداتها وبيت المال واوجه الصرف منه. لذا لم يعد بالامكان التفكير فقط بما جرى لان التاريخ والتراث ليس هو الماضي، بل هو الزمان
كله. ورغم كل هذا الذي حدث وقف الفقهاء موقف العاجزمن تصرفات الخطأ فحين غيب الدستور وحق الامة في الانتخاب الحر ضاعت المعايير السياسية الحقة في حكم الناس، فحل محلها العنف والقسوة
والغدر والغش والخداع. واصبح حكم الدولة بعيدا عن الاسلام الحق حين تحولت فيه الامامة ملكاً كسروياً والخلافة غصباً قيصريأً ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق حين عطلت الحدود بالشفاعة
والقرابة فجحد بالاحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة وبذلك اصيب الفكر السياسي بالشلل بعد ان اصبح النص الديني لا يشكل المعيار الوحيد للسلوك السياسي.
ومن حق الجاحظ ان
يصفنا وهو معلم العرب الاول فكرا واسلوباً واصالة وعقلاً حين قال: (نحن الذين جحدنا بالقرآن والسنُة وعقاب القرآن علينا أشد وامضى). بهذا الوصف، ما دامت طبيعة نظام الامة
قد تغيرت،
-
فالخليفة لم يعد في حقيقة الامر والواقع خليفة رسول الله (ص) بل اصبح ملكاً،
-
والامة لم تعد جماعة متعاونة مع هيئة الحكم لرفع شأنها وتوسيع نطاقها عن طريق نشر الاسلام
فكرأ وحوارأ، بل اصبحت رعية لا رأي لها،
-
والمقاتلون لم يعودوا مجاهدين في سبيل الله، بل اصبحوا جنوداً للدولة مأجورين فيها لتحقيق
اهدافها وخدمة رجالها،
-
والاموال لم تعد تقتصر على ما يرضاه الشرع، بل أصبحت جبايات مفروضة من الخليفة ورجال دولته
تستخدم لصالحهم،
-
والجنود اصبحوا مأجورين من بيت مال الخليفة، لا من بيت مال المسلمين،
هذا ماحدث لدولتنا الاسلامية، فهل لنا من دراسة جادة لتراثها وكتابته من جديد، ولعل هذا هو
السرفي المحنة الثقافية التي تواجهنا في دراسة التراث بعد ان تورطنا بلغة بعيدة عن الواقع واصبح الاسلام يعيش في لغة الناس وليس في واقعهم، ويا لها من محنة نعايشها الى اليوم.
وانا اكتب هذه السطور للناس، فليس هناك احسن ولا احلى من الصدق فأقول: علينا واجباً شرعياً
والى وقفة تقييمية حقيقية حتى ندافع عن انفسنا. فقد عاشت الامة دائماً في ظل الاستبداد السياسي، ولم يؤذن لها قط ان تقول كلمة حق بوجه سلطان جائر كما امرنا الرسول الكريم (ص) وديننا
العظيم، وهكذا غيرَ الحكم المطلق اخلاق الناس ولازال نحو الخنوع والانكسار وهمود الهمة وفقدان العزيمة.
ومن يريد ان يبحث عن تراثنا المهدور عليه مراجعة مؤرخينا امثالا الطبري واليعقوبي وابن
الاثير وابي الفدا سيجد ضالته عندهم.
Back
to Home