الآسلام والفنون الجميلة. الحلقة الأولى
المساجد الاولى - ميلاد فن العمائر الاسلامية
مقتبس من كتاب عالم الاسلام لحسين مؤنس
بقلم
الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
للفنون في تاريخ الشعوب دور كبير جدير بان يقف عنده المؤرخ الاسلامي ويعطيه ما هو جدير به من عناية، لان الفنون ما هي الا انتاج
انساني خالص، يصور روح الشعب واحساسه ومشاعره وذوقه ومستواه الثقافي والاقتصادي في احيان كثيرة، وسواء كان الفنان مبدعا موهوبا يبتكر اسلوبا جديدا في التعبير الفني او كان صانعا يحافظ
بعمله على تقليد فن متوارث نابع من طبيعة الشعب الذي ينتسب اليه، فلا بد له من الاخلاص والاتقان في كل اصنافه. لان الفن في صميمه يقوم على الصدق والاخلاص مثلما يقوم على الاتقان.
وقد ظن اهل المحافظة على الموروثات ان الفن شر ينبغي تجنبه، معتقدين انه تعبير عن غرائز فاسدة يجب محاربتها. ومن عباراتهم في
ذلك –ان الانسان لا ينبغي ان يشتغل بما يشغله عن العبادة والتفكير في الله– وقد فاتهم ان التعبير الفني جزء من طبيعة الانسان. فاذا الانسان دفعته فطرته ان يغني في خلوته، فليس من الضروري
ان يفعل ذلك لانه قليل الرزانة، بل هو يغني لانه انسان.
وكذلك الحال في التصوير والنحت وغير ذلك من ضروب التعبير الفني، فكلها تصور لنا الطبع البشري الذي يميل الى الجمال وتصوير
الجمال ومشاهدة الجمال ومحاكاته. والانسان البدائي الذي خلف لنا رسومه على صخور جدران الكهوف في العصور السحيقة لم يكن خليعا ولا فاسدا انما كان محض انسان احس بالجمال فشعر بانسانيته
ودفعه شعوره الى التعبير عما يختلج صدره من مشاعر فانطلق يرسم على السليقة بما جادت به قريحته، فكانت تلك المرحلة هي الخطوة الاولى نحو الرقي.
عندما كشفت الحفريات الاثرية عام
1920 في المواقع السومرية جمدة نصر وكيش بمحافظة بابل على رسوم وصور يرجع تاريخا الى 3200 ق م. كانت هذه الاعمال الفنية البدائية الضاربة في عمق التاريخ هي البدايات التي صنعت الكتابة
التصويرية بعدئذ والتي بدورها تطورت تدريجيا حتى انتهت بالكتابة المسمارية، مفتاح عصور الحضارات السامية القديمة. فلو كان هذا الانسان السومري فكر يوما بان عمله الفني في رسم الصور
تعبير عن غرائز فاسدة، لما تطورت حضارة الانسان.
ومن المعروف ان الموسيقى والغناء عنصران اساسيان من حياة الشعوب البدائية التي لا تزال تعيش في عالمنا الراهن، وهي كذلك جزء هام
من حضارة ارقى الامم، فاينما وجد الانسان ظهر هناك تعبيره الفني ايا كان مستوى ذلك الانسان، وايا كان مستوى ذلك التعبير.
ولهذا كان من الطبيعي ان تكون للمجتمعات الاسلامية فنونها من كل نوع. وقد اتسعت ميادين هذه الفنون بقدر اتساع عالم الاسلام،
واختلفت اشكالها بقدر اختلاف طبائع شعوب الاسلام. فنحن هنا امام ميدان فسيح يشمل المنشئات العمارية والرسوم الجدارية واللوحات الفنية والمشاهد البديعة المزروقة بالفسيفساء وكذلك
الموسيفى والغناء واشكال كثيرة اخرى، تشمل الصنائع اليدوية للاغراض المنزلية كالارائك والسجاجيد وادوات الزينة كالخشب المخرم او المطعم بالصدف والعاج وانواع اخرى من الفخار والخزف
والزجاج. كما يتجلى الانتاج الفني الاسلامي في زخرفة صفحات الكتب وتزيينها برسوم المنمنمات وصنع الآلات الموسيقية، فضلا عن الانتاج الادبي الرائع الذي ينشد في الغناء الفردي والجماعي.
لقد شهد ميلاد الفن الاسلامي فيضا هادرا من العاطفة الدينية الجياشة عند المسلمين. كان في بدايته تعبيرا عن مشاعره الايمانية، فقارئ
القران يصادف في بعض اياته ما يدفع عقله الى التفكير في سعة الكون وجلال عظمته ويدعوه بعفوية الى التامل في سر الخلق و روعة الوجود، كما يجعله ان يستشعر بان الحياة ما هي الا قطعة
فنية زاخرة بالجمال والا فما هو مضمون الاية من سورة النور, ان قراتها بتأني:
الله نور السموات والارض مثل نوره كمشكوة فيها مصباح، المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري
يوقد من شجرة مباركة زيتونه لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضي ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الامثال للناس والله بكل شيئ عليم |
اذا لا غرابة ان كان القران الكريم نفسه منبعا للالهام الفني المنهل.
يتكلم القران عن جمال السماء وزينتها وما فيها من الكواكب، وانها تضئ كالمصابيح المتلآلئة. ويتكلم ايضا عن الشمس والقمر على
نحو يبعث في نفس المتأمل شعورا برهبة الفضاء وامتدادها اللامتناهي. وطبقا لوصف الفيلسوف العالمي ايمانوئيل كانت (ان لجمال الكون نظام رياضي جليل).
كما تكلم القران عن زينة الارض، ان هزها الربيع، ونبت فيها من كل زوج بهيج، فهي تسرنا بروعة زهورها و تنعمنا بطيب ثمارها، وتقر
عيوننا برؤية رياضها، وتنعش قلوبنا بشذى اجوائها. كما ذكر القران ان كل شئ في الدنيا له جماله، لانه من صنع احسن الخالقين، الذي اتقن كل شئ، واحسن كل شئ خلقه . من هنا يجعلنا القران ان
ندرك مغزى الجمال وعالمه، فالاعمال الخيرة وصفها بالحسنات والله تعالى له (الاسماء الحسنى).
وعلى هذا فلا يمكن ان يكون هناك تعارض بين الفن والدين، وفي اعتقادي ان هناك صلة وثيقة بينهما. فلكلاهما مشكاة، تستقي كل واحدة
منهما النور من مصدر الهي واحد. فمشكاة الدين تملآ قلوب البشر بالصفاء والايمان والمحبة، بينما مشكاة الفن تضيئ خلجات النفوس بنور يطفح بالمشاعر السامية، تصقل ذوق الانسان وتجعله اكثر
رقة وانسانية، تقوده الى التأمل الواعي وتقربه اكثر الى فهم معنى الحياة، علما ان الفن ما هو الا رحيق ثمرة حضارة الآنسان.
ان فكرة اقامة المساجد هي في الاساس
المولد الاول لفن العمارة الاسلامية، اما الزخارف والنقوش فنشأت بعدئذ، مثل تزيين النوافذ وتجميل السقوف بأشكال هندسية او نباتية جميلة بعيدة عن تصوير الشخوص. واستعمل المسلمون
الكتابة كوسيلة حتى يستطيعوا التفنن في زخرفة خطوط الايات القرانية. وقد بلغ الفنانون المسلمون في ابتكار صبغ الالوان قمة الابداع فكان عندهم اللون الازرق العربي والاخضر الزمردي
والاصفر الصحراوي.
كما وجدنا الفنان العربي يستلهم نقوش الزخرفة وهو يقرا القران كما حدث ذلك في زخارف قاعة السفراء في قصر الحمراء بغرناطة في
اسبانيا العربية، فهي تصوير زخرفي للايات 3- 6 الكريمة من سورة الملك.
اما بشان الموسيقى فقد نشات في الاصل من تراتيل واناشيد دينية في محاولة لتجويد القران ثم اتسع مجالها حتى قيل قديما ان الالحان
انبعثت في الاصل من اعماق دور العبادة، لذا فالكلام، اي كلام الفاقد للحن، يكون سمعه عادة غير مستساغ. ولهذا يحاول الفنان ان يضفي على انتاجه لحنا مناسبا ليكون لدى المستقبلين اكثر
قبولا، وما ابتكرت المقامات الا لضبط الآلحان.
لكن هذا لايعني ان الاصول الفنية للموسيقى العربية كانت كلها اصول دينية اسلامية. بل انها تدفقت من مناهل ومصادر شتى ترجع الى
اديان وحضارات سابقة، ففيها عناصر فرعونية وفارسية وهندية ويونانية وافريقية وعربية جاهلية، لكنها انصبغت بصبغة العاطفة الاسلامية، التي افضت عليها طابعا دينيا عاما شاملا لازمها الى
يومنا هذا، ولازال الغناء العربي يوصف بالترتيل والترجيع، فيما عدا بعض الانغام التي يغلب عليها الطابع الاوربي. فالصلة الوثيقة التي تربط الاحساس الفني لدى الشعوب قد تميزت بعمق
المشاعر وسعة الخيال. وبهذه المناسبة صرح الموسيقار الالماني الشهير –سباستيان باخ– قائلا (ان شعوري بجلال الخالق يصل الى اقصاه عندما اجلس الى الاراغون في الكنيسة واعزف مقطوعاتي
الموسيقية في الابتهال والتضرع).
عندما ندرس تاريخ الفنون عند الامم نكتشف فيها نوعين من التعبير الفني، نوع شعبي ساذج واخر متطور مصقول، فالشعبي ما يصدر عن
جمهور الناس بالفطرة من انشاد جماعي او فردي. وغنائه بسيط يتماشى مع محيطهم، كالحداء اثناء رحيل الجمال او تنمنم العامل اثناء العمل اوغناء الفلاحين في الحقول او عزف الراعي لماشيته .
اما الصور والتماثيل التي يصنعها الانسان سواء اكانت بدائية او متقدمة فهي في مجموعها تدعى بالفنون الشعبية او الفولكلورية. بينما النوع
الثاني يكون في الاصل ضرب من الفنون الشعبية يصوغه افراد بلغوا مستويات ثقافية متفاوتة، تفتح امام اهله ابواب الانتاج الفني المنهجي المنظم كما نرى ذلك في الشعر الموزون المقفى على
البحور والنثر الفني الرائع، كذلك في الموسيقى المنهجية التي تقوم على العلوم النغمية ودراسة الاصوات واشكالها ودرجاتها.
وقد عرف المسلمون هذين النوعين من فن الغناء منذ ماضي الزمان فكانا دائما جنب الى جنب، فعاش الرجز ثم الموشح الى جانب القصيدة
وعاشت رسوم مناظر الطبيعة على جدران البيوت الى جانب روائع الاعمال الفنية في زينة المساجد والقصور. وقد يبدو لنا الانتاج الفني الشعبي ساذجا وربما جافيا لكنه في الحقيقة صادق وديع نابع
من طبيعة الحياة نفسها دون تكلف، ومن ثم فان اثره في النفوس اوسع مدى من اثر الانتاج الادبي المصقول الذي غالبا لا يخلو من تصنع.
اما ميلاد اول مسجد في الاسلام فقد تم بناؤه
على يد النبي الكريم محمد (ص) في يثرب في العام الاول للهجرة، والمسجد يعني بيت القاضي ودار الدولة، الذي قضى فيه الرسول بقية حياته، وعندما وافاه الآجل،
دفن جثمانه الشريف فيه.
والمسجد في اصله ليس مجرد مصلى فحسب بل هو مكان اجتماع للمسلمين ايضا ومركز دراسة وعلم واعلام ورابطة حقيقية بين الناس. كما هو
ملاذ في اوقات الشدة ومحكمة وشبه برلمان للمسلمين، يصدرون قراراتهم بعد المداولة، وهي تعمل على ارض الواقع بقوة القانون، ومن هنا فأن وجود المسجد اساسي بالنسبة لجماعة المسلمين والمسجد
يجعل جماعة المسلمين متماسكين مترابطين ذات كيان وقوة ومستقبل. والمسلمين الذين لا مسجد لهم مصيرهم الى الزوال.
,
لقد بني جداره الخارجي من الطين وطلي بالنورة، فكان ابيض اللون. واللون الآبيض يعكس معاني السلام والآمان والطهارة. كان
انشاؤه في بالغ البساطة لكنه ضمن الحد الادنى الضروري لآقامة الصلاة وان تصميمه الاساسي جمع كل العناصر التي ستتكون منها المساجد الاسلامية فيما بعد. فكان فيه بيت الصلاة والصحن والقبلة
والمحراب والمنبر فقط، اما الاجزاء الاخرى كلمأذنة والقبة فقد اعتبرت محسنات اضيفت اليه فيما بعد.
كان المسجد بداية على هيئة مستطيل طوله سبعون ذراعا وعرضه ثلاثة وستون، (اي في حدود الف متر مربع) وجعل جداره الشمالي ناحية
القبلة، وكانت القبلة يومذاك باتجاه بيت المقدس. ثم انشأ بمحاذات ذلك الجدار ظلة مغطاة بسعف النخيل، مرفوعة على ستين جذع نخلة. تلا ذلك جزء واسع مكشوف يدعى الصحن الذي كان المسلمون
يتجمعون فيه خاصة ايام الجمعة. اما الصلاة فكانت تقام في بيت الصلاة. والى الشرق من تلك الظلة ابتنى الرسول حجراته التي كانت ابوابها تفتح على صحن الجامع. وفي الجوف من بيت الصلاة وضع
الرسول الكريم حربة تعين اتجاه القبلة وسمي موضع الحربة بالمحراب، والى يمين المحراب انشأ شئ اشبه بسلم يتكون من بضع درجات ينتهي بموضع صغير كان الرسول يقف فيه ليلقي خطبه من عليه وهذا
هو المنبر. اما الاذان فكان ينشده النبي بنفسه من على سطح غرفة حصفة ام المؤمنين زوجته. وهذه هي الصورة الاولى للمئذنة. وعلى هذا كان المسجد يمثل الحالة الحضارية المتقدمة بالنسبة الى
المدينة المنورة في ذلك العصر.
وقد وسع المسجد بعدئذ حينما تزايد عدد المسلمين، واجريت عليه بعض التحسينات زمن الخليفة عمر بن الخطاب (رض) الذي اوعز ان
تستبدل جذوع النخل باساطين من اللبن و سعف السقف بالخشب كما ضاعف عمر مساحة الجامع.
وقبل ان يتسنم عمر بن عبد العزيز سلطة الخلافة الاسلامية في الشام قام بهدم الجامع واعاد بنائه بالحجارة واستبدل ابوابه
بأخرى اكثر رونقا.
بعد ذلك انطلق بناء المساجد في العالم الاسلامي يزداد بأطراد و يتطور خطوة بعد خطوة عبر اربعة عشر قرنا متتالية حتى توج
اخيرا ببناء المسجد النبوي الشريف بالمدينة المنورة في اواخر القرن العشرين وهو يمثل ذروة الفن في هندسة العمائر الاسلامية الحديثة مع المحافظة على الشكل والشخصية.
المسجد النبوي، 1430 للهجره ( ميلاديه 2009)
الى الحلقة القادمة.