Back Home Next

 

الموسيقى والغناء عند المسلمين
من كتاب فيه مصادر مختلفه

 بقلم الدكتور رضا العطار

ridhaalattar@yahoo.com

 

لقد اثارت مسالة الموسيقى والغناء والسماع اليهما جدلا شديدا بين رجال الدين استثني منهم الفيلسوف الامام ابو حامد الغزالي الذي جاء في كتابه – احياء علوم الدين في فضل اداب السماع – قوله: لا وجه لتحريم سماع صوت طيب.
ومنهم من حرمها كمالك بن انس الشافعي، وتشدد في التحريم لدرجة اعتبر ان مجرد ترنم الانسان بها في خلوته خطيئة. وبطبيعة الحال يستند كل فريق الى تفسيرات متضاربة للنصوص القرانية.

ان تاريخ فن الغناء والموسيقى في العالم العربي تاريخ قديم كقدم الحضارة السومرية، فقد كشفت الحفريات الاثرية ابان القرن العشرين في موقع الوركاء بمنطقة السماوة قرب نهر الفرات في معبد الهة الخصب – اينانا – على الات موسيقية، مثلما وجدت الات طرب اخرى في قصور وقبور الملوك، كانت ابرزها القيثارة السومرية الشهيرة ذات القيمة الفنية العالية والمرصعة بالاحجار الكريمة.
لم يقتصر العزف على الآلات الموسيقية داخل جو المعابد فحسب وانما كانت تعزف داخل قصور ملوك السومريين كذلك.
(راجع مقالة الحضارة السومرية لكاتب المقال)

ولو وضعنا موضوع الموسيقى والغناء في اطارها التاريخي، لعرفنا اسباب هذا التحامل على الغناء والمغنين وعلى الموسيقى والموسيقيين. فنحن اليوم نسمع الغناء والموسيقى من فنانين مرموقين محترمين، يدرسون هذا الفن دراسة علمية شاقة حتى يصلوا الى المستوى الرفيع وهم يعزفون او ينشدون كلاما ادبيا جميلا ينطوي على معان انسانية سامية ووطنية صادقة. كما ان هناك شريحة خاصة من المجتمع يستمع الى ما يعرف بالموسيقى الكلاسيكية الغربية. وهي قطع فنية جليلة وضعها موسيقيون موهوبون عبروا عما يجيش في خلدهم من احاسيس، ثبتوها بشكل نوتات موسيقية تصور بالنغم البديع ما يدور في الكون العظيم وما يجري في مجتمعنا من حوادث او ما يختلج النفس الانسانية من مشاعر، تصغي الى هذا كله بلهفة واهتمام بالغ. لذا نستغرب انه كيف يمكن لآنسان العصر الحديث ان يتنكر هذه الصورة الحضارية، ونتعجب لماذا يحرم او يرى فيه شيئا مخالفا للدين. علما ان الانسان قد تعلم الموسيقى من الطبيعة نفسها.

go to top of page  كان الموسيقار العالمي الشهير بيتهوفن المولود عام 1770 يطيل الجلوس تحت ظلال غابات فيينا، ساعات وساعات صامتا، صاغيا، متأملا. وحينما سأله النمساويون عن سر ذلك، اجابهم (اني اتلقى الهامي من الطبيعة، من وريقات الزهور، من اغصان الشجر ومن الرياحين المنتشرة في الرياض. انني ارهف السمع الى رفيف همساتها، فهي تطنطن في اذني، انها تطربني، انها تغني مثلنا بل وهي اكثر منا غبطة وسرورا. انني اتلقى منها الالحان واثبتها في دفتري كنوتات موسيقية بالشكل الذي يروق لي)

اذن فالطبيعة هي التي تفضي علينا هذه الالحان التي طنطنت في اذن بيتهوفن، وما علينا نحن البشر الا ان نحولها الى انغام ننشدها، فهي مصدر افراحنا وسعادتنا.
لاشك ان الطبيعة هي ينبوع الجمال، ويسرها ان تكون نفوسنا متطبعة بروح الجمال، و ان نكون سعداء مبتهجين لا مكتئبين مهمومين، فالصفة الاولى صفة حميدة صحية، والثانية مرضية ممقوتة. تقودنا الاولى الى النجاح في اعمالنا اليومية، بينما تدحرجنا الثانية الى حافة الهاوية.
ولولا حاجة الانسان للسعادة في الحياة، لما جاء ذكرها في القانون الاساسي للولايات المتحدة الامريكية عام 1789. فالدستور هذا هو الفريد من نوعه بين دساتير دول العالم اجمع الذي يؤكد فيه على ان من حق المواطن ان يعمل ليجد طريق السعادة. واني كمواطن عراقي امريكي فخور به

في ظني ان الموسيقى والغناء الذي ينهاه رجال الدين هو ذلك الذي كان يجري في قصور المترفين وسط اجواء من الخمر والمجون اوفي حانات الليل ودور اللهو، وهذا النوع من الفن هو خليع ينفر منه الاناس المحترمون وهي مستهجنة مرذولة في كل زمان ومكان، يتحاشونها من دون تحذير واعظ او تحريم فقيه. اما جماعات اهل الريف فقلما كانت تتاح لهم فرصة الاستماع لموسيقى او غناء ما عدا ما كانوا يسمعونه في المناسبات الاجتماعية كالاعراس وما اليها. ومن ثم فهو لا يدخل في نطاق المكروه بل كان يجري حتى في ايام الرسول الكريم دون ان يلقى استهجانا.

go to top of page  هناك نوعان من الموسيقى والغناء عرفا منذ القرون الوسطى، اولهما كان مقتصرا على الغجر، وهو لهو مبتذل، يمارسه اناس متنقلون يسلون العوام ويجمعون ما تيسر لهم من المال وهم لا يتعففوا عن عمل الموبقات وهذا ما يبتعد عنه اهل الحشمة، ومن هنا يكون موقف العداء الذي وقفه رجال الدين من الموسيقى والغناء موقف معقول. اما الموسيقى والغناء في ذاتهما فلم يستنكرهما احد انما استنكرو الجو غير المحتشم الذي يحيط بهما. انه من الممكن ان تعزف الموسيقى اذا كان جو السماع متسما يالنغم المحتشم الذي يعلو بالنفس الى الافاق السامية وينشد الغناء اذا كان المتن متضمنا مشاعر انسانية كريمة.
لم يعد الغناء الجماعي الذي ينشده الجوالون في الاسواق مقتصرا على الغجر انما استعمله اصحاب الملكات الشعرية العالية، فابتكروا الزجل وهو نظم عامي بين الناس يصوغونه على اوزان الشعر الفصيح ظهر خلال القرن التاسع الميلادي ثم طوره العلامة –ابو بكر عباده بن ماء السماء– في اسبانيا على نحو لم نجد له مثيلا في اي عمل ادبي اخر.

كانت العادة جارية قديما ان ينظم الناس الشعر ثم يضعوا له الالحان لكن الامر مع الزجل كان على عكس ذلك، حيث كان الزجالون ياخذون انغاما شعبية ويضعون لها الكلام على نحو يتفق مع طريقة انشاد هذه الالحان. وقد شاع الزجل شيوعا كبيرا في الاندلس ومن هناك انتقل الى الشرق. والزجل اولد الموشح. والموشح هو زجل لكنه بالعربية الفصحى. وقد لقيت الموشحات الاندلسية اقبالا منقطع النظير وانصرف الى صياغتها شعراء كبار حذقوا وتفننوا فيها. ومثلما انتقل الزجل الى الشرق كذلك كان الامر مع الموشح.

go to top of page  اما بالنسبة الى نغم البادية لدى العرب، فكان الغناء الشعبي الاصيل عندهم هو الحداء وهو انشاد راكب الجمل على وقع خطواته في الرمال. وهوغناء ساذج لطيف تستريح له الاذان وتانس له الابل اثناء السير. وقد ابتكر العرب البدو اناشيد رقيقة جميلة تتماشى معانيها مع طبيعة الحياة الصحراوية. وقد انتقل الحداء مع العرب الى كل بلد ذهبوا اليه فقد صبوه في تيار موسيقاهم الشعبية وما زال حيا قائما في كل انحاء صحراء جزيرة العرب وفي كل ناحية صحراوية في العالم الاسلامي.

وهناك نوع اخر من الموسيقى والغناء في البلاد الاسلامية قام حوله جدل طويل، هو انشاد الصوفية، وقد انكر غالبية الفقهاء وفي مقدمتهم الامام جعفر الصادق في العهد العباسي هذا اللون من الممارسة وما يصاحبها من ايقاع و حركات وغناء يتنافى وجو الخشوع الذي يغمر المصلي عادة. اما في الشعر الصوفي فقد برز الحلاج في بغداد زمن العباسيين، لكنه تطرف في العقيدة الصوفية الى درجة ادعى عندها ان روح الله حلت في جسده فكان يردد –انا الله– وقد افتى مجلس القضاة للمذاهب الاسلامية على قتله.

ومن نظمه وهو يخاطب ربه:

انا من اهوى ومن اهوى انا

 نحن روحان حلت بدنا

فاذا ابصرتني ابصرته

 واذا ابصرته ابصرتنا

 

ويضيف كذلك قوله:

مزجت روحك في روحي

 كما تمزج الخمرة بالماء الزلال

فاذا مسك شيئ مسني

 فاذا انت انا في كل حال

 

كما كانت هناك في تركية طوائف اخرى من الطرق الصوفية مثل المولوية والبكتاشية التي طورت الغناء والرقص الصوفي حتى خرج من اطار العقيدة الدينية وتحول الى فن مستقل لذاته، ليس له علاقة بالعبادة، ليصبح فنا مستقلا وتحول تدريجيا الى ما يشبه الرقصات الراقية في فن الباليه. والى قبيل الحرب العالمية الاولى كان السواح الغربييون يفدون على تركيا بغية مشاهدة رقصة الدراويش المسلية داخل محافلهم، والاتراك كانوا معتزين بها كتراث فولكلوري طريف.

go to top of page  اما عن علم الموسيقى عند المسلمين يمكن القول ان فلاسفة المسلمين وعلماء الموسيقى درسوا هذا الفن على اساس نظري بحت لا علاقة له بالموسيقى المعزوفة او المسموعة. فهم درسوا النغم وماهيتها وانواعها ومدى مطابقة هذه الانواع الى الطبائع البشرية، حيث انهم قسموا المواد التي خلقت منها الاشياء الى اربعة وهي الماء والهواء والتراب والنار. وقالوا ان الانسان مركب من عناصر اربعة وهي الدم والنفس والجسد والروح. وقالوا ان طبائع الاجساد البشرية اربعة وهي الحرارة واليبوسة والرطوبة والصفراء، وهذه الطبائع الاربع تسمى ايضا بالامزجة. فلكل انسان مزاجه وهو الغالب على تركيبه من هذه الاربعة. وعلى هذا الاساس قالوا ان الة العود هي الالة الموسيقية الكاملة لانها تتركب من اربعة اوتار تتقابل مع الطبائع والامزجة الاربعة المذكورة. ثم قالوا عن الانغام والاصوات وربطوها بالكون والنجوم (1) (للمزيد من المعلومات راجع حركة اخوان الصفا وخلان الوفا لكاتب المقال على موقع islamicbooks.info).

لقد اخذ العرب علم الموسيقى النظري من اليونان ثم استقلوا بانفسهم وكتبوا في الايقاع والصوت والنغم والقياس. واول من الف في ذلك من العرب كان رجل في الحجاز اسمه –ابن مسجح– الذي مات عام 96 للهجرة. فقد اعتمد هذا المتتبع على نظريات اجنبية من فارسية ويونانية، واتخذ السلم الموسيقي الفيثاغوري اساسا لقياس الانغام. علما ان هذا السلم قد خضع للتعديل من قبل اسحاق الموصلي، مغني هارون الرشيد.

لقد الف في النظريات الموسيقية عدد كبير من المسلمين، كان اشهرهم فيلسوف العرب الاكبر ابو يعقوب الكندي، ت 261 ه. كما الف في الموسيقى محمد بن زكريا الرازي. لكن علم الموسيقى بلغ ذروته عند ابي نصر الفارابي. ولم تظهر بعد ذلك اضافات جديرة بالذكر الا بعد ظهور كتاب ( المدخل الى صنعة الموسيقى ) للطبيب الشهير ابو علي ين سينا صاحب موسوعة –كتاب الشفاء–

go to top of page  وفي القرن السابع الهجري ظهرت طبقة من علماء الموسيقى يتوسطون بين النظريين والعمليين. هؤلاء الفنانون درسوا علم الموسيقى ثم عزفوا على الاتها، كان اشهرهم صفي الدين الذي الف كتاب –طرائق الالحان–. ومن ابرز تلاميذه زرياب، الذي يعد بحق من اعلام اهل الفن والتجديد في تاريخنا الثقافي القديم. ترك بغداد الى القيروان ومنها رحل الى الاندلس واستقر فيها. ثم انشأ هناك مدرسة للموسيقى وابتكر الغناء الجماعي واضاف الى العود وترا، فزاد من سعته الموسيقية، وعود زرياب هو القيثارة الاسبانية، كان الشعب الاسباني يطرب الى موسيقى زرياب كونها نوعا من الثقافة العالمية الحديثة، كما هي الحاله في الموسيقية الكلاسيكية. لقد اعلى هذا الفنان المبدع سمعة الفن والفنانين، فكان لا يزور القصر الرئاسي الا لاقامة حفلة موسيقية، فارتفع على يديه شأن الموسيقى والموسيقيين، واصبحوا فنانين محترمين لا مسلين مهرجين.

كما وصل فن الموسيقى الرفيعة ذروتها على يد الفيلسوف الموسيقي –ابن باجة– عام 1138 م. وفي عالم الموسيقى كان يلقب يالامام الاعظم، الذي تمكن من مزج غناء المسيحيين بغناء المسلمين واخراج نموذج جديد لا وجود له الا في اسبانيا، حتى مال اليها طبع اهلها، فرفضوا ما سواها.

كانت موسيقى اهل الاندلس في بداية الامر مقتصرة اما على طريقة النصارى او على طريقة حداة العرب الى ان جاء زرياب وابتكر موسيقاه العذبة، وبذلك ذاع صيته، ثم جاء ابن باجه فمزج العناصر الثلاثة واستخرج منها طراز فريدا من التلحين ما زالت بقاياه معروفة متداولة الى يومنا هذا. ففي الغرب تغنيها فرق فنية مدربة باتقان تام. اذا سمعها الانسان اليوم تراى له وكأنه يعيش في عصر ابن باجه اى في القرن الثالث عشر، بل في ايام زرياب في القرن التاسع الميلادي.

go to top of page  لقد عرف العرب والمسلمون من الآلات الموسيقية عددا كبيرا، حتى بلغ من كثرتها ان قال الباحث –هنري جورج– اننا لا نستطيع ان نحصيها على كثرتها الا عشرها. ففي مجموعة الوتريات فقط نجد المزهر، وهو العود العربي الجاهلي، والربابة وهي التي تعزف بالقوس لا بريش الطير، وهي ام الآلات عند العرب، ومنها تفرعت الكمنجة والقانون والنزهه والسنطور والجنك او الهارب.
ومن النايات: البم والشبانه والجواق والصفارة.
ومن الدفوف: الطار والدائرة والمثمنة.
ومن الطبول: النقارة و الطبل والقصعة.
كما عرف المسلمون في القرن العاشر الميلادي الاراغون وموسيقى القرب الذي شاع استعماله خاصة في الهند وبلاد الملايو والاندلس.

لكننا نعود ونقول ان الموسيقى التي كتب لها ان تبقى سليمة حية في المجتمعات الاسلامية هي الموسيقى الشعبية التي كانت جماعات المسلمين تغنيها في حفلاتهم فهي بسيطة في نغمها، طبيعية في صياغتها تتماشى مع الذوق السليم، لآن موسيقى الشعوب هي مرأة للذوق المحلي تعكس تطلعات الانسان بصورة صادقة ولا يستطيع رجال الدين حيالها ان يعملوا شيئا لآنها جزء من حياتهم نفسها شأنها شأن الماء والطعام فهي ليست مظهرا من مظاهر الترف ولا محاولة لارتكاب المعاصي انما هي تعبير فطري ساذج تعكس الانفعالات العاطفية البريئة لدى الانسان، ولهذا عاشت هذه الموسيقى واصبحت جزا لا يتجزأ من حياة الشعوب فهي ثروة وطنية عظيمة.

go to top of page  والطريف في هذا الشأن ان موسيقى المسلمين في جميع البلدان الاسلامية تتشابه في ذوقها ونغمها، فالموسيقى التي تعزف في العراق مثلا يقبل عليها اهل المغرب العربي. والنوتات الموسيقية التي توضع في الاندلس تجد اقبالا واسعا في مصر وتركيا والباكستان. والانغام الموسيقية في اندونيسيا هي ذات طابع صيني، لكنها اقرب الى موسيقى المسلمين من الصينية، فكأن الامم الاسلامية تقاربت في عالم الانشاد والنغم مثلما تقاربت في عالم العقيدة الاسلامية، و مبادئها الاخلاقية الفاضلة.

وقبل ان اختتم حديثي اود الاشارة الى ان الموسيقية العربية الاولى ظهرت من قبل فنانين مهرة في العهد العباسي الاول في بغداد ويقى العراقيون يطربون اليها طيلة القرن الثاني والثالث الهجري، لكنها تلاشت تدريجيا خلال القرن السابع منه. وكان لابد من الاقتباس من مصادر اجنبية، فكانت للانغام التركية والفارسية منها حصة الاسد. وما يعرف اليوم بالموسيقى العربية ليس فيها من العربية الا الشئ الضئيل.
لقد عاشت موسيقى الشعوب الاسلامية عمرها دون ان تدون واعتمدت على التلقين دون الكتابة والتسجيل حتى لدى كبار قارئ القران الكريم.
وان ما لدينا من الموسيقى التي يروق لنا ان نسميها بالموسيقى العربية ماهي الا موروثات اجنبية استقبلناها من فنانين اتراك من امثال –عاشق افندي– والمعروف عن هذا الفنان المبدع انه صاغ انغاما ممزوجة مابين عربية وفارسية وتركية اسماها بمصطلحات عديدة منها –العجم–   و–عشيران–   و–النهاوند– وما الى ذلك.

وما زالت الموسيقى العربية والاسلامية تراوح على النغمة الواحدة –الميلودي– الذي ينشده المغني وحده او ينشده الفريق كله دون الاتجاء الى التلوين النغمي المعروف بالهارمونيا التي تصنع السنفونية. هذا اللون من الموسيقى يتأتى جمالها من اختلاف عناصرها لكنها تعزف مع انسجام الانغام، فعندما تتوسع افاق العمل وتتناغم الات النغم في الاداء العام تجعل المستمع يقترب اكثر فاكثر على فهم طبيعة الحياة وما يجري فيها.

go to top of page  فالمعروف ان موسيقى الكلاسيك ترهف حس الانسان وتصقل ذوقه وتبلور افكاره على نحو يكون اكثر رقة وانسانية، فعاشق هذا الفن الرفيع يكون في الغالب اكثر ميلا الى الاتقان في انجاز العمل والى احترام قوانين المجتمع، و الالتزام بثوابت الاخلاق، يمتاز في معاملته للاخرين باسلوبه السلمي السليم، فهو هادئ عطوف رحيم، يتحلى شعوره الفياض بصفاء القصد وحسن النية (4).

عندما كنت في الستينيات من القرن الماضي في المانيا، كنت الاحظ في بيوت زملائي الاطباء دون استثناء جهاز البيانو يتصدر عندهم قاعة الضيوف، مما اثار فضولي، وعندما سألت احدهم عن سبب اهتمامهم الخاص بهذا اللون من الفن قال:
(اننا نبتغي ان ينشأ اطفالنا مواطنون صالحون، يحترمون قوانين بلدهم، علما ان للبيانو هذا طاقة خلاقة، يكسبهم تعلم النظم الصحيحة و التربية المرموقة).(5)

 

 يغمرني الإعتقاد ان هنالك صله بين الدين الحنيف والفن الطاهر سواء اكان ذلك الفن رسما او نحتا او شعرا او لحنا، فكلاهما مشكاة تضي، فالدين هو ذلك القبس السماوي الذي يملآ القلوب بالصفاء والآيمان وحب الآخرين، اما الفن فأنه ذلك القبس العاطفي الذي يسمو بمشاعر الآنسان الى الآفاق الرحيبة بكل ما يتعلق بأحاسيسه الذاتية السامية، فكلاهما قائم على قواعد الآخلاق.
ومن هنا يمكن القول بأن الدين يرعى عقل الانسان يرفعه الى مستوى الفضائل الآخلاقية
، والفن في جميع صوره واشكاله يرعى ذوق الانسان، يصقل مواهبه الفطرية ويبلور قدراته الخلاقة التي تجعل سنوات عمره حياة.
خلال سنوات اقامتي في المانيا في ستينيات القرن الماضي كنت اشاهد في بيوت زملائي من الاطباء الة البيانو , الجهاز الموسيقي المعروف يتصدر وسط قاعة الضيوف مما اثار فضولي وعندما سألت احدهم عن سر هذا الاهتمام بهذا النوع من الفن على نحو خاص اجاب قائلا : اننا نبغي من وراء ذلك ان ينشأ ابناؤنا على اسس تربوية قويمة
، يحترمون الانظمة والقوانين، وللبيانو قدرة عالية في صقل السلوك يجعلهم متميزين عندما يكبرون .

فأني اود ان انقل هنا نتائج البحث العلمي الذي قامت به بنتي الصغرى
لينا عندما كانت طالبة في كلية الفن في جامعة ولاية تنسي للمنطقة الوسطى في الولايات المتحدة عام 1992
، بتكليف من قبل استاذ الصف للتأكد من تأثير الموسيقى على نمو النبات، لهذا جلبت الى الدار ثلاثة شتلات صغيرة من الزهور الطرية في فصل الربيع والآوراد جنابذ، ووضعتها في اماكن بعيدة عن بعضها، ثم قامت بأخضاع المجموعة الآولى (لسماع) موسيقى الكلاسيك اقتصرت على مقطوعات ليوهان سباستيان باخ المنحدرة اصلا من الموسيقى الكنائسية، بينما اخضعت المجموعة الثانية الى موسيقى الرقصات الشعبية. لمدة ساعة واحدة كل يوم ولمدة ثلاثين يوما متتاليا، كانت النتيجة ان الشتلة الآولى قد اظهرت نموا واضحا ملموسا، فقد تأثرت بألالحان الموسيقية، بينما لم تتأثر الشتلة الثانية بالآلحان قط ولم تظهر زيادة في النمو مقارنة بالشتلة الثالثة التي لم تخضع للتجربة اصلا.


لقد دهشت كثيرا عندما لاحظت انه كيف ان النبات يتأثر باللحن الشجي المتناغم الهادى الجليل كما هي الحالة في موسيقى الكلاسيك لكنه لم يتأثر بلحن الموسيقى الراقصة في الاغاني الشعبية الموصوفة بالصخب والطقطقة المدوية. انه حقا لآمر عجيب ولغز محير. وقد قادتني حيرتي دون قصد الى التأمل الفلسفي والديني الطويل
، اتسائل فيما لو كانت بنية الطبيعة الخلاقة وكنهها الروحي الكريم – تفقه – حقا؟ اهي قائمة على (قيم واخلاق)؟ .... انني ارى بأم عيني كيف ان هذا الكائن النباتي يتحسس، وكأنه يملك عقلا يدرك ويتفاعل، يميز بين الحسن والقبيح والجيد والردئ والصالح والطالح
سبحانك يا رب.

go to top of page  المصادر
1- الدكتور حسين مؤنس في كتابه عالم الاسلام، الفصل السادس، الفنون عند المسلمين ص 295 – 341 دار نشر الزهراء للاعلام العربي 1989 القاهرة
2- شوقي ضيف في العهد العباسي الثاني – الحلاج - ص 480 القاهرة 1982
3- الدكتور حسين مؤنس في كتابه الحضارة من منشورات المجلس الثقافي للفنون والاداب. الكويت 1990
4- الدكتور ابو الحمد محمد الفرغلي في كتابه الفنون الزخرفية الاسلامية في عصر الصفويين بايران، كلية الاثار - جامعة القاهرة مكتبة مدبولي 1990، القاهرة
5- راي كاتب المقال
6- من خاطرات الماضي

 

    Back Home Nextgo to top of page