Back Home Next

 

زهو الفن العربي، يتجلّى في قصر الحمراء بغرناطة

 مقتبس من افاق الفن لاسكندر اليوث وترجمة جبرا ابراهيم جبرا

 بقلم الدكتور رضا العطار بتصرف

ridhaalattar@yahoo.com


عندما تسمو القطعة الفنية في عمل يستهدف اللذة والامتاع، كنغمة موسيقية عذبة، او وثبة راقصة الباليه، حينذاك ما الذي يكمن وراء مبدأي الالم و اللذة ؟
قد يكون في المرض من الرعب اكثر مما فيه من الالم، عندما يوحي بموت قريب.
والصحة من ناحية اخرى تهب المرء حالة طمأنينة اكثر مما هي، عندما تهيء له تماسا شافيا بالأبدية واللامحدود.

كل منا يعرف شكل هذا التماس من تجربته الخاصة، نسترسل في التفكير في هياكل ذات شرفات معلقة واورقة شاهقة من التأمل، بينما الكاثوليكي الاوربي يرى قباب كاتدرائية مدينته وهي تشير الى السماء وترتفع رويدا رويدا وهو يسوق سيارته عبر السهول الى داره ورحالة القرون الخوالي ربما كانوا يفكرون في شواهق الاماكن حيث ينفتح اخيرا شق ضيق في الجبل على منبسط فسيح حيث تتقافز الصخور نحو السماء. والانسان التطلع الى الله يرى ان الرحلة الى الخارج تشبه الرحلة الى الداخل: صلاة الفارس حجّ.

حين يذهب المسافر الى غرناطة في سيارة، فإنه يقطع سلسلة عالية من الجبال. حيث يعيش الناس في كهوف، ابوابها ونوافذها مفتوحة كالعيون. وغرناطة انما هي تلافيف عميقة من الشمس الخاطفة والظلال اشبه بالافعى، تحيط بجبل الحمراء الاخضر القرير، وهو جبل تروّح عنه النوافير. فضمن حلقة القمم الجبلية يقع السهل اللاهب، وضمن السهل تلتف غرناطة البيضاء، وضمن غرناطة يعلو تلّ الحمراء الأخضر، وعلى ذروة التلّ يرفرف القصر كالسراب، والدخول هنا انسحاب من العالم.

زخارف على زخارف تقتنص العين، كلها جذلان لا حد له. وهي في الغرف السامقة ترتفع الى اعلا لتنفجر بأتجاه السماء بالشهب والرذاذ، وتقذف عند القمة بأشكال تنبض وتدوم كأطباق من الزهور، وقد جُعلت السقوف كبواطن مياه النوافير، تفيض لتغمر الأرض الخضراء.

اذا ارسل المرء بصره وهو في القصر الى الخارج فانه يؤمن بالبساط الطائر.
واذا نظر الى الاسفل ليرنو الى البرك التي في حدائقه تصور حصيرة سحرية تعوم فوق مياه البحر. فالطبيعة حين تلمح الى الابدية. فالطبيعة حين تلمح الى الابدية تفعل ذلك بانفتاحها الى الخارج – كالسحب الجارية ترى من قمة شجرة مترنحة. اما اذا فعل الفن ذلك فانه يتجه نحو الداخل – كالريح وهي تحمّر ماء بركة طينية.

ان قصر الحمراء يكاد يحجب عن نفسه الطبيعة : فكله متجه نحو الداخل. والجدران والابواب المخرمة اشبه بالأذان والعيون التي ينسحب المرء الى داخلها ويوغل فيها. هكذا يتراجع المرء حتى من رغبة اللمس، لأن بلاط الأرض بألافه يسطع كألوان تعصي على اللمس. وفي الاعماق تقوم هذه القباب المجمدة السائلة المفعمة بدقيق الزخارف، في نشر صور جميلة وجذابة في ذهن المشاهد، يعجز عنه التأمل.

يدنو المرء من الوسط حيث فناء تلتقي فيه اربعة جداول، تمثل انهر الجنة، عند نافورة تحرسها اسود حجرية في دائرة، لم الأسود؟ لماذا وضعت هنا مخلوقات في قلب خلو من المخلوقات ؟ انها متحفزة وساكنة. اليمُ رؤيتها هذه الوحوش وقد ركنت كما في بيتها الى مكان مقدس معزول، غير انها في بيتها كالزمن العسجدي الذي يدور دوما ويلتهم كل شيء. ومن افواهها العاتية يجري ماء سلسبيل. وهم يزعمون ان ما من احد يعرف الشباب الابدي الا اذا شرب من هذا الماء وهو في سورة الظمأ.

لم يظهر بناء في الهندسة المسيحية برهافة الحمراء الذاتية حتى في العصر القوطي. فالكنائس البيزنطية والرومانسكية كانت اماكن عبادة جماعية حيث يجتمع المؤمنون معا آمنين. اما الكنائس القوطية فقد غدت اماكن تأمل حيث المتشككون فرادى وان كانوا مجتمعين، قد يتجولون الى اناس يتشبثون بالحياة الروحية. فالحجر ينادي بجلال وروعة جسدا، كتب عليه الفناء تماما كما تردد الموسيقى وتمجد ذهنا كتب عليه الفناء.

ولنفرض ان البعض يذهب الى هناك بغير حرارة الايمان او بخشوع الحاج، ليستمد متعة – متعة لا لوم فيها، يجد المرء نفسه امام الهيكل، فالجناح المنفتح الى الخارج والوسط المنفتح الى الاعلى يغريانه بالوقوف. فغذا ما ارسل ناظريه الى ما فوق، رأى سماء ليلية تحززها مجاميع النجوم، فيشتد في دخيلته توق الى القفز عاليا اليها، كالنوافذ السامقة التي تذرذر وهجا من عالم آخر،

ان الذين يزعمون ان الهندسة المعمارية هي فن الفضاء الوحيد قليلو العلم بالواقع!
اوليست الموسيقى ايضا فضائية ؟ فعندما يشرع باخ في بناء كاتدرائياته في الروح – حجرا على نغم على حجر على نغم – فانها تندفع وتعلو من اخفض الارض الى الهملايا، ثم تسبح في الاعالي على اجنحة بيضاء كالثلج.
ان في روح الانسان من الفضاء بقدر ما في الخارج. فأبدية المكان تتحقق في كلا الاتجاهين. ما اغرب ان يعشق الانسان ما في نفسه من شرارة ابدية، ولا يدرك رغم ذلك، ابديته هو !

رب معترض يقول ان رجال العلم وذوي النيات الطيبة قد دأبوا منذ زمان على تخليص الانسان من الشعور بان في داخله روحا ازلية غير محدودة، كما ان هناك عقلاء يصرحون بانهم لا يشعرون بانهم خالدون مطلقا. بيد ان الشعور بالخلود هو غير الشعور بشرارة الابدية في النفس ... لكن الفن ما برح يبدي لنا ان مع شرارة الازل لدى الانسان ايضا فضاء لا يحد في اعماق روحه وهذا الفضاء اللامحدود لن يستطيع فيلسوف ان يخططه، الفنان وحده يجي ويقول: انظر الى دخيلتك من خلال ما صنعت انا، لترى سماءك وحدك.

ان معرفة الانسان الداخلية بالازل تكاد تجد ما يعززها في الحياة. خذ مثلا احتضان الاب لطفله المريض وقت السحر والشعور به يتنفس بسهولة ثانية والحمى تفارقه وقد شفي. في لحظات كهذه تلتهب شرارة الازل في داخل النفس وتملأ ظلماتها نورا ساطعا.
معرفة ابدية المكان امر اكثر ندرة ومع هذا يرى الانسان حلما يقتاده باطنيا في شوارع النفس المعتمة، يعبر بواباتها المتصدئة، ويقضي به من خلال غابات الرعب الى الافياه الناعمة، او كما يقولون: الشعور بالجنين وهو ينتفض داخل الرحم. او النظر عاليا الى النجوم والتفكير بضآلة الانسان. فالأنسان من تراب، انه لا شيء، غير ان اللامحدود فيه يفتح امامه سبيل الابدية، عبر فضاء فسيح، تشعره بالطمأنينة المنشودة.
( من كتاب آفاق الفن لمؤلفه الكسندر اليوت ترجمة جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة بيروت 1982 )

Back Home NextBack to Home go to top of page