ابراهيم الخليل ووحي الكعبة
آراء الكاتب
بقلم الدكتور رضا العطار
ridhaalattar@yahoo.com
جلست اثناء حج العمرة حديثا على بعد خطوات من الكعبة، حيث قضيت ساعات الضحى متأملا، جلست شاخصا بما عندي من بصر ضعيف، لكن بصيرتي كانت بحمد الله يقظانة سريعة الاداء.
فاذا كان البصر عندي يقدر بشعاع واحد تقدر البصيرة بألف شعاع. هأنذا ارى امامي مقام ابراهيم الخليل عليه السلام.
لقد ثبتت بصيرتي الى احداث التاريخ التي وضع اركانها خليل الله، فقبل ان ينتهي المطاف بابراهيم الخليل مقامه هذا ليقيم بيت الله، بعد ان جاهد في سبيل الله محاولا ان يهدي قومه بارض كنعان
سواء السبيل داعيا اياهم ان يحطموا اصنامهم ليعبدوا الله الواحد الأحد الذي لا شريك له.
واذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد أمنا واجنبني وبنيّ ان نعبد الاصنام |
لكنهم أبوا عليه دعوته، فحطم هو تلك الاصنام، ولذلك ارادوا له شرا، اذ اوقدوا نارا والقوه به في لهبها، لكن الله اراد له بردا وسلاما، ولما كتبت له النجاة اتجه الى
فلسطين، لكن ارض فلسطين ما لبث ان شملها جدب قضي على موارد الطعام.
( ربنا اني اسلكت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك الحرام … الخ
فرحل نبي الله ابراهيم الى مصر ارض الكنانة التي اصبحت ملاذا له. فهو موطن الانبياء موسى وعيسى عليهما السلام.
هكذا شخصت بصري نحو مقام ابراهيم الخليل، الذي هو على بعد امتار قليلة مني. وكأنما ارادت البصيرة ان تجعلني من الجالسين في رحابه، كي استزيد من معارف سيرته عليه السلام، والذي كان قد بلغ
من العمر عتيا دون ان ينجب ولدا من زوجته سارة. فتزوج في مصر من احدى بناتها اسمها هاجر التي انجبت له اسماعيل ليكون بعد ذلك ابا للعرب وليكون ابراهيم بذلك جد العرب...
وربي اعلم بما حدث فقد ولدت سارة لأبراهيم ولدا بعد مولد اخيه اسماعيل من ابيه اسمته اسحاق. وفي المنجد تجد ان كلمة اسحاق بالعربية تعني الضحك في العبرية، وقد اريد بهذا الاسم اشارة الى
سعادة الوالدين بان طفلين ينتظرانه وقد بلغ من الشيخوخة ما بلغ – هكذا ارتحل الى مكة مستصحبا معه هاجر وابنهما اسماعيل وها هنا امره الله باقامة بيت الله الذي اجلس انا الان في جواره
خاشعا
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق ان ربي لسميع الدعاء |
لكن هذا ( الحق ) الذي اقيم ها هنا لم يلبث مع الايام ان احاطه الانسان بالباطل اذ ها هنا ايضا اقامت قريش اصنامها، وهي ظل باطل.
ليجزي الله كل نفس ما كسبت ان الله سريع الحساب |
هكذا ظل هذا الباطل قائما الى ان بزغ فجر الاسلام، فشن النبي محمد عليه السلام حربه الشعواء عليهم حتى انتصر، فحطم الاصنام وبذلك علت كلمة الله الى الابد
انه لو سمح للمسلمين ان يؤدوا الصلاة داخل الكعبة، امكن لهؤلاء ان يتجهوا في صلاتهم جهات مختلفة لان كل اتجاه في هذه الحالة هو اتجاه نحو الكعبة فقد يتجه احدهم نحو الشمال ويتجه الثاني
نحو الجنوب والثالث نحو الشرق والرابع نحو الغرب وبذلك يؤدي هؤلاء الاربعة صلاتهم وان ظهروا لظهر لا تشخص اعينهم الى اتجاه واحد ومن هنا يجب ان تؤدي فروض الصلاة في مواقع خارج بناء
الكعبة لتلتقي افئدتهم جميعا عند غاية مشتركة.
وبصرف النظر عما اصاب العرب من قهر وذل بعد ما شهد تاريخهم من عز وقوة. فلتكن الكعبة رمزا وقاعدة لوحدة المسلمين في وجود صحيح وسليم. سواء على مستوى الافراد او الشعوب، لكن احيانا وفي
لحظة ما بعينها قد تتقاتل في فكر الانسان قوتان متناقضتان الاولى تقول بضرورة الحفاظ على حياض الوطن والثانية تقول بخيانة الوطن لو توفر المال الوفير. هاتان القوتان قوة الخير والشر
تتقاذفان في جوفه، شأنه كشأن الخراش الذي قال عنه الشاعر:
فما يدري خراش ما يصيده |
وتكاثرت الظباء على خراش |
فمن الوجهة العملية النفعية وكذلك من الوجهة الانسانية الخلقية لا مناص للفرد الا ان يجعل لنفسه مبدأ ما يكون هو الميزان وهو الفيصل الذي يقرر له ماذا يختار في كل مرة
تتنازعه فيها رغبات متعارضة. والاغلب ان الدين هو مصدر تلك المبادئ التي تفصل بين الحلال والحرام
وواضح من هذا ان الفرد انما يحقق لنفسه (ذاتا) محدودة اذا حقق لها محورا معينا (بوحدها) في اختيارها وسلوكها وهو بهذه (الوحدانية) لذاته يحقق لنفسه (شخصية) يمكن وصفها بما يميزها من
معالم. وما قلناه عن الفرد نقوله عن شعب بأسره، فهو لن يكون (شعبا) بالمعنى الصحيح الاّ اذا (توحدت) اوجه النشاط في حياته بحيث يطوي تحت اجنحته ملايين ابنائه في اتساق متناغم وان يكون له
هدف واحد، مقرر ومقبول من ابناء الشعب قبولا راضيا
وما قلناه عن الشعب الواحد نقوله عن القومية العربية ثم عن الوحدة الاسلامية بل عن الوحدة الانسانية كلها، فياحبذا لو لم نقول بعد اليوم انا سنّي وانت شيعي او انا يهودي وانت مسيحي انما
ان يقول احدنا: ديني هو دين ابراهيم الخليل ابو الاديان جميعها
فالدين المشترك يقود الجماعات الى وحدة الهدف والمصالح ويحرر النزاعات العقائدية المتباينة من التناحر وبذلك تتصلد الوحدة الوطنية
الهدف الاساس من اقامة الكعبة هو وحدانية الذات الاسلامية ومن اجل ذلك ترتد الامة باصولها الى ابي الاديان ابراهيم الخليل. فخطوط العقيدة الاسلامية جميعا في مشارق الارض ومغاربها تلتقي
عند الكعبة. ولا بد من تأويله ليكون التقاء الاهداف من حيث هي امة واحدة. ولما كانت رسالة الاسلام الاولى هي (التوحيد) وجب ان يكون التوحيد هو هدفنا حتى في الامور السياسية. فالعروبة
ونحن نعمل على تدعيم اركانها، يكون المسلمون فيها فكرا واحدا واسلوبا واحدا والرمز المشيرفي هذا كله هو الكعبة التي نتّجه اليها جميعنا.
من كتاب قيم من التراث . زكي نجيب محمود مع التصرف