عودة الى الدولة الحمدانية – الحلقة 2
مقتبس من (الحضارة الانسانية) لمؤلفه ادم منز
بقلم الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
لقد امتاز الامير سيف الدولة الحمداني بمهارته في رسم الخرائط الحربية واختيار ميادين المعارك واوقاتها المناسبة، وكان يشن
هجماته على اسس مدروسة مستنبطة من علوم التقنية العسكرية .
كان يقف موقف المتحفز ثم يفكر مليا ولا يلبث ان ينقض كالأسد المقدام مقتطفا لنفسه ملكا يخلد فيه الزمان . كانت حركاته تبعث
الثقة والأعجاب في قلوب جنوده بقدر ما تبعث الرعب والفزع في قلوب جند الأعداء وكان يتقدم جيشه بنفسه .
لقد خاض سيف الدولة معارك كثيرة ووصلت طلائع جيشه الى قلب الأناضول حتى كادت ان تصل الى القسطنطينية نفسها، فكانت غزواته اناشيد
في فم الشعراء، ولم يكن شعرهم مدحا بقدر ما كان وصفا للمعارك، وكان يروق لسيف الدولة ان يصطحب معه الشعراء ليريهم بأعينهم المعارك فأذا وصفوها، وصفوا معارك حقيقية حية ولم يهيموا في
اودية الخيال، فهذا المتنبي مثلا يعبر عن دهشته عندما رافق سيف الدولة في احدى غزواته قائلا:
لهذا اليوم بعد غد اريج |
ونار في العدو لها اجيج |
عرفتك والصفوف معبأة |
وانت بغير سيفك لا تعيج |
كان يروق كثيرا للامير سيف الدولة ان يشبه الشعراء شجاعته في الحروب بشجاعة الامام علي بن ابي طالب، حيث كان هذا الشعور يفضي
عليه سمة الفخر والاعتزاز فضلا لما كان يرفع من معنوياته القتالية في ساحات الوغى درجات ودرجات، وعلى هذا النحو صب معظم الشعراء انهار نظمهم بهذا الاتجاه.
يشير المؤرخ الألماني -شلم بركمر- في كتاب نقفور فوكاس قائلا:
ان المتصفح لتاريخ البيزنطيين في منتصف القرن العاشر الميلادي ولأكثر من عشرين سنة متتالية يجد اسما وحيدا يطفوا على كل صفحة من
صفحات التاريخ كأنسان شجاع لا يمل ولا يكل ولا يتعب وكان عدوا للأمبراطورية البيزنطية، ذلك هو امير حلب سيف الدولة الحمداني، الذي كان قاسيا طموحا متمتعا بشجاعة فائقة لا يعرف الخور
اليها سبيلا.
اقول لقد استطاع هذا البطل من صد هجمات الأجانب الطامعين في بلاد الأسلام والقضاء على الفتن التي كان يثيرها رجال القبائل وان
يصون سوريا من غزوهم، فقد كانت صيانة سوريا هي صيانة بلاد الأسلام كلها، لاسيما مصر والعراق، فلو استطاع الروم من احتلال سوريا لنفذوا منها الى اماكن استراتيجية اخرى .
لقد تمكن سيف الدولة ان يجعل من حلب
بيئة خصبة للعلوم والأداب والفنون، فقد فتح قصره لكل فنان موهوب واديب لامع وشاعر عظيم، توافدوا عليه من جميع الأطراف، كان يستمع الى الكتاب والأدباء و الشعراء بشوق كبير و لهفة بالغة
ويمنح المؤرخين الشي الكثير من العطايا والخلع فيعود هؤلاء الى اوطانهم حاملين الى شعوبهم صورا رائعة من الخلق العربي الرفيع، وقد اجتمع بباب سيف الدولة من شيوخ الشعر ونجوم الدهر ما لم
يجتمع بباب غيره من الملوك، فكان خطيبه ابن نباته ومعلمه ابن خالوية ومطربه الفارابي ومداحيه كل من الشعراء ابو الطيب المتنبي و الواواء الدمشقي وابن الببغاء وابن النامي وابن السلامي
وغيرهم .
وقد اقام سيف الدولة في قصره منتدى للفكر النير يزخر بالكثير من علماء العصر، كان سببا في صقل مواهبهم، وفي مقدمة الذين
تخرجوا من منتدى الأمير هو الأديب اللامع ابو بكر الخوارزمي، شيخ ادباء نيسابور الذي قال – ما فتق قلبي وصقل ذهني وارهف لساني الا تلك الطرائف الشامية واللطايف الحلبية التي علقت بروحي
وامتزجت بأجزاء نفسي، استمتعت فيها في مجلس الأمير سيف الدولة الحمداني.
وكذلك الناقد الشهير ابو الحسن الجرجاني و ايضا اللغوي القدير ابو الفتح بن جني و مؤدب الأمير عضد الدولة ابوعلي الفارسي
والأديب الكبير صاحب ابن عباد واخيرا وليس اخرا النجم اللامع ابو نصر الفارابي .
كان الأمير سيف الدولة اديبا بفطرته
وقد نمى هذه الهواية بأستاذية ابن خالوية الذي كان مؤدب امراء بني حمدان، كان سيف الدولة يهوى الشعرالجيد والتأليف والخط العربي الجميل ويجزل العطاء للخطاطين الماهرين وقد زين قصره ببهاء
الأيات القرأنية التي نقشت بماء الذهب والمتجلية بروعة الفن الأسلامي الأصيل، وكان خطاطه المفضل ابن مقلة البغدادي، وكان قصره يضم مكتبة كبيرة عامرة بأدوات الأطلاع يشرف عليها الشاعر
ابو بكر الصنوبري .
كان الحمدانيون مسلمين على مذهب الأمام جعفر الصادق، لكن في غير غلو. وكان لسان حال الأمير سيف الدولة:
حب على ابن ابي طالب |
للناس مقياس ومعيار |
يخرج ما في اصلهم مثلما |
يخرج غش الذهب النار |
كما كان يطرب عندما يخاطبه المتنبي بأمير المؤمنين ويشبهه مجازا
بعلي ابن ابي طالب، اسمعه ما يقول في هذه الأبيات:
يا سيف الدولة ذي الجلال ومثله |
خير الخلائق والأنام سمي |
او ما ترى صفين كيف اتيتها |
فأنجاب عنها العسكر الغربي |
فكأنه جيش ابن حرب رعته |
حتى كأنك يا علي علي |
وحينما بلغ الأمير سيف الدولة نبأ مقتل الأمام الثامن للشيعة علي موسى الرضا (ع)
وولي العهد للخليفة العباسي المأمون في ارض طوس بخراسان عام 203 رثاه منشدا:
باتوا بفضل الرضا من بعد بيعته |
اوابعدوا بغضه عن رشدهم وعموا
|
لا بيعة ردعتهم عن دمائهم |
اولا عين ولا قربى ولا رحم |
كانت العقيدة الأسلامية للمجتمع الحلبي
هي مابين مذهب ابي حنيفة النعمان والمذهب الشافعي لكن بعد قيام الدولة الحمدانية بدأت عقيدة التشيع تنتشر بين اهالي المدينة وغيرها من البقاع، ربما كان السبب في ذلك هي طبيعة المجتمع
الحلبي المتصف بالطيب والمسامحة، حتى شمل التشيع معظم سكان البلاد، ولم يلاحظ حدوث مصادمات عقائدية بين ابناء الطوائف المحلية بسبب
خلو المحيط الحلبي من التعصب المذهبي حتى ان احمد ابن اسحق قاضي حلب كان حنفي المذهب.
لعل من الخير ان نذكر ان العلاقات الحسنة التي كانت سائدة في المجتمع الحمداني لم تشمل المسلمين فحسب انما شملت الطوائف
الأخرى كالنصارى واليهود فقد عاشوا حياة امنة مطمئنة في ظل الدولة الحمدانية رغم النوايا العدوانية للقوى البيزنطية المحتشدة على الثغور العربية وما كانت تحمل في ثناياها من روح التعصب
المقيت، فقد افضت الدولة المسلمة روح الأخاء والتألف واحترام العقائد لمختلف فئاة الشعب، وعم الهدوء والسكينة لدى السكان من مسلمين وغير المسلمين في القرى والأرياف، فكانوا يمارسون
اعمالهم اليومية وتقاليدهم المحلية وطقوسهم الدينية بكل حرية مثلما كانوا قد حافظوا على لغاتهم القديمة من ارامية وسريانية يتكلمون بها.
ولم يكن نشاط غير المسلمين مقتصرا داخل المجتمع الشعبي وحده بل انما دخل الى قصرالأمير، حتى ان طبيب الأمير الخاص كان نصرانيا وكبير خدمه كذلك، كما لمع من غير المسلمين مهندسون وفلكيون
ورياضيون امثال ديو نيسيوس بطريق اليعاقبة والمجتبى الأنطاكي وقيس الماروني وغيرهم.
ولم تتوقف عظمة سيف الدولة عند شجاعته في ميادين القتال انما كان انسانا كريما شهما وهاجا مشجعا للثقافة العامة حتى حظيت عاصمته
بأشهر مجموعة من رجال الفكر المنير عرفها التاريخ العربي في عصره الزاهر، هكذا كانت حلب تموج بالأدب وتطفح بالمعرفة الأنسانية متنعمة عزيزة في ظل حضارة فكرية مترفة، وكان منتدى الأدب
لسيف الدولة مستودع ثري بكوكبة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الذين اعتلى بعضهم قمة الشهرة وذروة المجد .
اما الحالة الأقتصادية في مملكة حمدان
فكانت في احسن مراحلها، حيث كانت الحياة زاخرة ببحبوحة العيش الكريم وذلك بفضل الرواج الأقتصادي المتمثل بنشاط الحركة التجارية اذ كانت القوافل المحملة بالبضائع تخرج منها الى سائر بلدان
العالم انذاك، الى العراق والحجاز واليمن وعمان والبحرين والى مصر وشمال افريقية حتى الى الأندلس
كان التجار العرب المسلمون يبحرون بسفنهم الشراعية محملة بالبضائع التي تنتجها بلدان الهلال الخصيب متجهة الى الهند عبر بحر
عمان ومنها كانوا يواصلون سيرهم شرقا مستفيدين من الرياح الموسمية في شهري سبتمبر – اكتوبر التي كانت تجرف سفنهم الى شواطئ جزر ملايو وسومطرة في ابحار شاق طويل ليصلوا في النهاية الى
كانتون الميناء الجنوبي للصين .... هذا ما يقوله عزيز العظمة في العرب والبرابرة .
كانت الحركة التجارية ناشطة بفضل ازدهار الصناعة اليدوية ووفرة المزروعات، لكن كثرة الحروب الداخلية والخارجية حولت الحياة الى
ما يشبه العيش داخل معسكر متسمة بالنشاط والحركة من جانب وبالخوف والحذر من جانب اخر .
لقد غزا سيف الدولة الحمداني بلاد الروم اربعين غزوة كان خلالها ممتطيا صهوة جواده ممتشقا حسامه يخوض المعارك ضد اعداء وطنه في
اكثر من ربع قرن من الزمان مما انهكت قواه الجسمية والعضلية وفي عام 356 انطفأت الشعلة الوقادة في قصر الأمارة في حلب التي اضائت الشام والجزيرة لفترة مباركة من الزمن هكذا خمدت الجذوة
العالية لروح سيف الدولة وقد اودع جثمانه في مكانه اللائق بعد ان وسد خديه بلبنة عجنت من نفض غبار البسته التي كان يرتديها في حروبه الماضية، وبموته انطفأ ت شمس وضاءة كان موقعها بين
قواد العرب العظام وعندما انتشر الخبر الحزين نكست الأعلام في ارجاء العالم الأسلامي والسلام
المصادر
1-
الثعالبي في تيمية الدهر 1 – 62
2-
الحضارة الأسلامية، ادم متز 1 – 5
3-
مصطفى الشكعه 167
4-
ابن الأثير 7 – 371
5-
ابن النديم في بقية الطلب في تاريخ حلب 1-134
6-
مروج الذهب 2-3
7-
الغزالي في مطالع البدور ومنازل السرور 2 – 176
8-
مستدرك اعيان الشيعة 2 – 185
9-
عن ابن ظافر كنار 72
10- الطبري
احداث عام 283 للهجرة
11- المتنبي
في خزانة الأدب البغدادي 1- 281
12- عزيز
العظمه في العرب والبرابرة دمشق 1991
Back
to Home