الملك الأشوري العظيم آشور بانيبال
مقتبس من (الفن والحلم والفعل) لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا
بقلم الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
من اجمل اللوحات التي يراها زائر متحف اللوفر بباريس حين يبلغ القاعات التي تعرض الفن الفرنسي في القرن التاسع عشر، لوحة ليوجين ديلاكروا تدعى (موت سردنابال).
وهي لوحة كبيرة جدا، تشتعل لونا وتفيض وهجا. انها صورة آشور بانيبال اخر ملوك الامبراطورية الاشورية، وقد اضطجع على اريكته الضخمة وعلى قدميه ارتمت شابة جميلة شبه عارية، ومن حولهما ثمة
مجزرة رهيبة ونيران تلتهم قصر الملك، وسوف تلتهم الملك وعشيقته ايضا في محرقة جنائزية هيأها لنفسه، بعد ان اندحر جيشه امام الاعداء. انه اعظم ملوك الشرق، بطل اسطوري وجزء من تاريخ حقيقي،
الهب عظام الفنانين في اوربا خاصة في انكلترا وفرنسا، فظهرت الصورة عام 1827 ،
فقد جائت الفكرة للرسام من مصدرين:
- كان الاولهو الجو الثقافي العام في باريس ما بعد الثورة الفرنسية وعصر نابليون، اذ كان ثمة بين الشباب الباريسي اعجاب عميق بالشخصيات التاريخية الكبيرة التي تجمع
بين ابهة الملك والاستبداد والعشق والنهاية المفجعة كما تجلت في آشور بانيبال.
- والمصدر الثاني والمباشر الذي استقى منه الرسام الهامه، كان مسرحية (مأساة سردينابالس) للشاعر الانكليزي اللورد بايرون والذي كان معبود الشباب في باريس والذي
استلهم افكاره من الكتابات التاريخية للمؤرخ اللاتيني ديودورس الصقلي الذي زار الشرق حتى وصل الى شمال العراق وشاهد بقايا قصر الملك الاشوري بانيبال في تل قوبنجق (بالموصل) ) بعد موته
بستمائة سنة. كما جاء في يومياته
تزعم التوراة، ضمن الكلام الكثير في عدد من اسفار (العهد القديم) عن الامبراطورية الاشورية التي كانت الدولة اليهودية في فلسطين والتي لم تدم اكثر من سبعين سنة واحدة
من توابعها الصغار، تذكر ان اسمه كان سردنابال، لكن اسمه الحقيقي هو آشور بانيبال، يكفي ان نتأمل التحريف الذي كان يجري عن طريق الاغريق، حيث نجده عندهم من الظواهر المألوفة في تاريخهم.
لقد كان اشور بانيبال ملكا شديد الترف وقد شيد لنفسه في نينوى قصرا لم يعرف البشر نظيرا له عمرانا وفنا، لكنه كام شجاعا شديد البأس لطيف المعشر، غير ان الحياة لا تتغافل عن رجال من هذا
القبيل، يتصورون ان بأمكانهم ان يجمعوا بين نقائض السطوة العاتية ولذائذ المتع الحسية والذهنية.
كان اشور بانيبال ابن ملك عظيم هو اسرحدون. كانت البلاد في اوج عزها وعظمتها. وحينما هجم الاحباش على مصر الفراعنة واستنجدت بالدولة الاشورية، اسرع اليها
اشور بانيبال ودحر المحتلين و بقى يطاردهم حتى اخرجهم عندما وصل الى مدينة طيبة على ضفاف النيل. ثم انسحب من مصر ليحكمها احد فراعنتها، بساميتيخ.
لكن قائدا كلدانيا يتأمر عليه مع ملك ميدي ويحشدان جيشا كبيرا يحاصر مدينه نينوى لمدة عامين كاملين. وكان الملك الشجاع اشور بانيبال يهزمهم في ثلاثة جولات متتالية الى ان اندحر في الجولة
الرابعة. فجمع في قصره كنوزه وجواريه وخصيانه ويحرق نفسه معهم جميعا وكأنه يعبر عن نهاية الامبراطورية العظيمة بسقوطها في نيران كنيران الشمس اللاهبة وهي تغيب بين الغيوم الحمراء في
اعقاب يوم شتائي.
لقد نعمت الدولة الاشورية في عهده بالثراء والرفاه والسطوة وكان يحتفل بانتصاراته باقامة المباني الكبرى في مدن وادي الرافدين وبخاصة في مدينة نينوى. وقد اكتشفت بقايا قصره في تل قوينجق
(بالموصل) واذا هو في تخطيطه وما فيه من اعمال الفن يمثل ذروة العبقرية الاشورية في النحت والعمارة.
واهم من ذلك كله، ان اشور بانيبال كان راعيا سخيا للاداب والفنون، ومكتبته العظيمة هي التي احتفظت لنا بالكثير مما نعرفه اليوم من آداب وفكر وادي الرافدين،
اذ جمع فيها كتابات ومدونات العصور التي سبقته، بما فيها تلك الدرة الفريدة : ملحمة كلكامش.
(الفن والحلم والفعل، لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت 1988)
|