تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد #1
مقتبس من (الفن والحلم والفعل) لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا
بقلم الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
قال – ارميا – احد انبياء اليهود: ( بابل كأس من الذهب امسك الله بها، وسقى منها امم الأرض، فسكرت الأمم حتى الجنون)
بابل هذه، التي جعلها نبوخذ نصر تشعشع ككأس من
الذهب، لم تكن مدينة جديدة، بل يرجع منشأها الى قرابة ثلاثة الاف سنة قبل الميلاد، واذ نسى اهلوها مع الزمن بدايات تاريخها، فأنهم لم ينسوا انها من اوائل المدن التي اقامتها البشرية،
فقالوا ان الألهة بنتها طريقا الى الارض ومسكنا لهم، فسميت بابل أي باب الأله.
ولئن بقيت بابل مدينة لها خطورتها وخصوصيتها طوال
ثلاثين قرنا من الزمان، فقد كانت كبرى مدن وادي الرافدين في عهدين حضاريين عظيمين –عهد حمورابي وعهد نبوخذ نصر–. كانا اعظم الملوك الذين عرفهم العراق القديم طوال تاريخه الحافل الطويل.
انهم كانوا من اكبر شخصيات التاريخ. اذا قيسوا بالملوك او القادة الذين جاءوا بعدهما بالقوة، فإن نبوخذ نصر لم يخسر معركة واحدة في حياته، ومات في النهاية آمنا مكرما في فراشه.
كان لنبوخذ نصر ولع خاص بالعمران، من بناءه
ومواده واساليبه الهندسية، فقد ترك لنا سجلات حافلة بما اقام من مدن وانهض من هياكل وعبد من طرق، ونظم شبكة الري، واوصل دجلة بالفرات، حتى جعل المياه تنبت في كل شبر من ارض العراق.
جعل عاصمته بابل اعظم مدينة في العالم في كل شئ
واكد على حرية البشر في النيل من ينابيع المعرفة البابلية. اما الكتابات التي اكتشفها الاثاريون منذ اواسط القرن التاسع عشر فكانت تدور في معظمها عن مآثره الحضارية هذه.
والى هذا كله جعل ثروات اقطار العالم تصب في
عاصمة مملكته ومنها يعاد توزيعها من جديد. وهكذا فان نبوخذ نصر اقام المدينة الاولى في التاريخ. انها الأم الكبرى للمدن العظيمة التي ظهرت في المدنيات اللاحقة – من روما الى بيزنطة الى
باريس ولندن ونيويورك.
ولم تكن بابل لتحقق هذه الخطورة لو بقيت مجرد
مدينة ذات مركز ديني تتمتع آلهته بمقامها الخاص في انفس الناس –كما كانت بالفعل قرونا طويلة، اذ بقى اسمها مقرونا بالمعارف والحكمة التي عرف بها الكهنة البابليون. فالذي حققه لها نبوخذ
نصر، جعلها عاصمة لدولة موحدة مترامية الاطراف، تضم كل الاقاليم المتقدمة علما وعمرانا في زمانها.
فهو قد وحّد العراق وسوريا ولبنان وفلسطين ومصر
والجزيرة العربية ومعظم آسيا الصغرى واجزاء كثيرة من فارس، وجعل لها جميعا مدينة بابل مركز اشعاع لضروب المعرفة والرياضيات وعلم الفلك والصناعة والتجارة والاداب والدين والشعر وكل ما
يصقل النفس والعقل، تأكيدا على روعة الحياة وجمالها.
كان نبوخذ نصر من اصل – شعبي – كلداني آرامي،
تعود جذوره الى العشائر التي كانت تنقذف في امواج متواصلة من الباديات الجنوبية على ضفاف الرافدين – وقد تزوج نبوخذ نصر من الحسناء امييت ابنة الملك الميدي، توثيقا لعرى التحالف.
وفي اعوام حكمه الطويلة نراه مشغولا دوما بالبناء
(خاتما اسمه على كل طابوقة) ولا يلهيه عن ذلك الاّ تمرد الدويلات الخاضعة له على اطراف المملكة الكبيرة، فكان يخرج اليها بنفسه في حملات عسكرية تنتهي دائما بالنصر الساحق.
فهو اذ يقوم ببناء ما ااسماها الاغريق بالجنائن
المعلقة واعتبروها من عجائب الدنيا السبع، واكمال برج بابل الذي كان طول ضلعه المربع مئة متر مثلما كان ايضا ارتفاعه مئة متر. ولم تشهد الانسانية في عصورها الغابرة بناء مثله. فكان يشرف
على توزيع المياه وايناع البساتين –وفي اثناء ذلك كله كان يسن الشرائع ويقيم العدل حتى جعل المحاكم قرب قصره، فكان كثيرا ما يتولى القضاء بنفسه، جاعلا للقضاء مكانة عليا في نظام حكمه.
وانشأ المدارس ونشر التعليم.
هكذا اضحت بابل مدينة لا يمكن مهاجمتها، كما اضحت
عاصمة لدولة لا يستطيع اعداؤها حولها او في داخلها التحرك ضدها الا وباؤا بالخسران.
ونعمت بثراء ورفاه وانفتاح ذهني لم تعرفه مدينة من قبل، فلا عجب ان وجد نبوخذ نصر الاهلين في بلاده يعبدونه وكأنه إله.
رغم تقواه هو تجاه الالهة، لا سيما الهه المفضل مردوك.
وهذه بعض كلماته المدونة في احدى صلواته:
(مردوك رباه ! فلترضى عن الملك الذي انشأته انت─
ووضعت العدالة بين يديه─ انا صنع يديك، انت خلقتني─وعهدت الّي بالملك على حشود البشر وفق مشيئتك─ولتكن
حياتي في دولتك السامية مكرسة لخدمتك.
وفي نقش محفور على الحجر في كهف بلبنان، كتب
نبوخذ نصر: (جعلت لبنان سعيدا بالقضاء على اعدائه في كل مكان. سكانه المشتتون كلهم اعدتهم الى وطنهم. وما لم يفعله اي ملك فيما مضى حققته انا: شققت طرقا في الجبال الشاهقة، هشمت الصخر،
عبدت السبل، وبنيت طريقا مستقيما لنقل الأرز، وجعلت سكان لبنان يعيشون آمنين معا، وحفظتهم من اذى الأخرين.)
كان هدف نبوخذ نصر في جعل طرق الامبراطورية
البابلية كلها –سالكة– ومتصلة بعضها ببعض من اجل الحفاظ على وحدتها من هجمات الجماعات المتمردة التي تحالفت مع الفرعون –نيخو– مستهدفة ضرب بابل. فسارع نبوخذ نصر واشتبك بفلول فيالقه في
معارك ضارية انتهت في هزيمتهم، لكن القائد البابلي لحق بهم عبر لبنان وفلسطين حتى تخطى العريش وشارف على دلتا النيل. وهناك ارتعب نيخو وسارع الى اعلان خضوعه وعقد معاهدة ولاء مع نبوخذ
نصر، ختمها بأعطائه ابنته نيطوقريس
زوجة لهذا الفتى الناري.
بقيت مصر خاضعة للأمبراطورية البابلية مدة
طويلة. فقد كان نبوخذ نصر يعتبر انفتاحه على (بحر المشرق): اي خليج البصرة و (بحر المغرب): اي البحر الابيض المتوسط امرا خطيرا بالنسبة لأقتصاديات ورفاه شعب بابل. فكان تحالفه مع
الفنيقيين امرا ضروريا. وقبل ذلك اخضع دويلة اليهود عام 591 ق م التي عاشت قرابة سبعين سنة فقط على ارض فلسطين وخلع ملكهم وسباه الى بابل وعين شابا يدعى صدقيا ملكا في اور شليم تابعا
لبابل، يأتمر بأمرها، ويدفع لها الجزية.
غير ان صدقيا اخذ يسيء معاملة السكان العرب الكنعانييين الاصليين هناك وبدأ في تشكيل جيش من اليهود المتزمتين، لكي ينتقص من بابل. وبرغم انهماك نبوخذ نصر في مشاريعه العمرانية، اضطر الى
غزو فلسطين ثانية، بعد جولته الاولى بخمسة سنوات. فأستقبل الكنعانيون جيوشه الزاحفة من الشمال بفرح كبير، لأنها جاءت لتحريرهم، هكذا تحطمت دفاعات العدو ودخل نبوخذ نصر اورشليم ثانية.
كانت الحصيلة ان ارجع القائد المظفر جميع املاك
العرب الفقراء التي اغتصبها اليهود منهم الى اصحابها الشرعيين، ثم سبئ المتمرد صدقيا وجيشه الى بابل.... كان من عادات القدامى عند انتصارهم في المعارك ان يقتلوا الاسرى ويعلقوا رؤوسهم
على اسوار المدن المحتلة. لكن نبوخذ نصر كان مرتفعا في انسانيته: فقد رتب ذلك وعمد الى تهيئة الاماكن التي سوف تستقبل الاسرى ووزعهم في عدة مدن على نهر الفرات ومنحهم حرية الحركة والعمل
والدراسة والكتابة –وهناك اكتسب اليهود علوم بابل وتواريخها وآدابها واساطيرها وبدوا في كتابة اسفارهم، وقد تشبعت بالمعارف والمأثورات البابلية، بل ان شعر (المزامير) و (نشيد الانشاد)
عند اليهود انما هو في معظمه اقتباس مباشر عن الاداب البابلية. لكن لوّنه اليهود حسب اهوائهم بعد عودتهم الى فلسطين.
اما في مجال توطيد اركان الامبراطورية، فقد قرر
نبوخذ نصر ان يشدد على اواصر قرباه من سكان الجزيرة العربية، فجعل – تيماء – مدينة مهمة ومركزا كبيرا من مراكز الحضارة العربية البابلية ومن تيماء انطلق الملك البابلي الى سواحل الجزيرة
العربية وحواضرها حتى اقصى الجنوب، حيث اليمن وحضرموت وعمان.
كما اقام الحاميات على طريق القوافل وفي المواني
وانشأ صلات وثيقة مع ملوك العرب وشيوخهم الذين اصبحوا يدينون له بالولاء، وبقي ذكره اسطورة حية حتى في ايام النبي محمد (ص) بعد ذلك بأكثر من الف سنة، وقد نظم معهم امور الادارة والتجارة
بحيث جعل تجارة الهند واقطار الشرق الاقصى تاتي الى بابل عن طريق منافذ الجزيرة العربية، اهمها ميناء البصرة.
هكذا عرفت بابل رفاها وثراء لم تعرف مثلهما في
تاريخها الطويل. ولا عجب ان بهر الناس بملكهم حتى اخذوا يطلقون على اولادهم اسمه مشفوعا بصفات الألهية: مثل
§
(نابوكورايسور ايلو) اي نبوخذ نصر اله ---
§
او (نابوخذ آبي) اي نبوخذ خالقي.
§
او (نابوخودور اوسور) اي نبوخذ نصر شمسي. فقد اعتبروه بمثابة الشمس، الذي يضيئ بنوره الشعب جميعه.
وماذا عن الحياة الخاصة لهذا الرجل الفذ، (
الملك الشمس )؟
الذي نعلمه على وجه التاكيد انه كان له زوجتان،
هما امييت، ابنة ملك الميدين التي تزوجها وهو في الثامنة عشر من عمره، ونيطوقريس ابنة الفرعون نيخو
التي تزوجها وهو في الخامسة والعشرين من عمره. والذي نعرفه عن الاولى هو الاكثر. فقد ذكر المؤرخون اليونانيون قصة
عشقه لها وكيف انه من اجلها بنى –الجنائن المعلقة– لكي تشم محبوبته في ذراها العالية نسمات بلاد فارس، وطنها، فضلا عن اشجار وزهيرات جبال ميديا العالية التي عرفتها في طفولتها وصباها.
كانت له من امييت ابنة اسمها بل شلتي وولد اسمه
امل مردوك. وكان له من نيطوقرس ابنة تدعى ناييت وقد زوجها من شاب اسمه نابو نائيد الذي رباه وجعله حاكما لبابل. كما زوج بنته الثانية بل شلتي الى نيريغ ليسار وجعله قائدا للجيش. لكن
هذا الاخير، وبعد موت نبوخذ نصر بسنتين، اغتصب العرش. لكن بعد اربعة سنوات تمردت عليه الكهنة فأنتحر. وارتقى ابنه العرش لبضعة اشهر ثم قتل. واستولى على عرش بابل اخيرا نابونائيد، وحكم
سبعة عشر عاما، كانت تنقصه الحنكة في ادارة البلاد، الى ان دخل كورش الميدي مدينة بابل عام 539 ق م وانتهى بذلك عهد عظيم عن الحضارة والعمران والمجد، بعده تحولت بابل الى اسطورة مذهلة
راحت البشرية ترددها جيلا بعد جيل لقرون طويلة.
|