تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد #2
مقتبس من (الفن والحلم والفعل) لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا
بقلم الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
كانت بابل في واقع الامر، الحاضرة الكبرى الاولى
في التاريخ: المدينة المشعة نحو الخارج، مدينة التعدديات القادرة على ان تحتوي معا في شكل حيوي ودينامي عددا كبيرا من العناصر المتفاوتة بشريا وثقافيا حيث تتعايش شتى الاجناس والاديان
واللغات بحماية نظام مركزي واحد وثقافة سائدة واحدة. ففي حكم نبوخذ نصر كانت ثروات ومعارف معظم امم الارض تصب في مدينته، فتوسعها العبقرية البابلية الخلاقة وتعيد صياغتها وتوزيعها من
جديد في ارجاء المعمورة.
قبل ذلك بعشرين قرنا كانت زقورات وادي الرافدين
قبلة الناس اينما كانوا، ومنها استلهم المصريون اهرامهم وهياكلهم الاولى. وكانت زقورة بابل المعروفة باسم –برج بابل– الحصيلة النهائية لذلك الضرب من البناء: نقطة اشعاع لعلوم الانسانية
وتساؤلاتها وبحثها، وسط مدينة امست اعجوبة الدنيا. فعلوم الرياضيات والفلك وعلم المعادن والصناعات اليدوية والابتكارات المعمارية والفنون الادبية –كلها بلغت محليا ذروة من التطور جعلت
اقطار العالم تنهل المعرفة منها وكانت المعتقدات الدينية بتعقيدها وتنويعها قوة فاعلة
عندما قدم كورش من بلاد فارس وفتح بابل دسيسة، دع
نفسه –ملك بابل– أملا في ان يضفي اسمها المغتصب شيئا من مجدها عليه، غير ان جوهر المدينة فاته ولم يدركه. وما فعله هو وخلفاؤه لم يكن الاّ تمزيقا للمدينة من جذورها. وكذلك عندما رغب
القائد العسكري الروماني، الاسكندر المقدوني بعد ذلك بحوالي قرنين من الزمن في جعل بابل عاصمة امبراطوريته، كان الاوان قد فات: لأن المدينة في معظمها غدت خرائب، فمدينة بابل بقت هناك
كجسد، غير ان روحها كانت قد غادرتها.
ذلك ان المصدر الحقيقي لوجود بابل العجيب هذا، هم
الاقوام الذين كانوا يتدفقون بأستمرار، موجة اثر موجة من تلك الربوع الرحاب في الجنوب )ربوع
الجزيرة العربية(. لكن تلك الطاقة توقفت، كما حدث عام 500 ق م سنة الغزو لكورش. فقد انكمش وادي الرافدين بكل ما قدم للأنسانية من اكتشاف ومعرفة وفن، وتحولت البلاد الى عدد
من المستوطنات عديمة الشأن يتحكم بها اسياد اجانب.
وبين الحين والاخر كانت تظهر دويلة عربية كالحضر
او تدمر متفجرة من داخل رمال الصحراء، وبعد قرنين او ثلاثة تتهاوى على اسسها وتندثر بعد ان تكون قد نضبت الطاقة التي غذتها من ذلك الينبوع العربي. لكن عندما نضع بابل في سياقها الزمني
ونستوضح نشوء المدن الكبرى بعدها نجد انها لم تكن الحاضرة الكبرى الاولى في العالم وحسب بل كانت الأمّ الفعلية لكل المدن العظيمة التي اعقبتها في التاريخ. ان مدنا مثل باريس ولندن، او
مثل روما وموسكو في تعدديتها وفي اندفاعها كأرومة، تصدّر وتوزع العلوم العقلية في اطارالحضارة الانسانية،
انماهي في الواقع سليلات بابل نبوخذ نصر.
والمهم بالنسبة للتاريخ العربي ان بغداد كانت
الوريثة الحقيقية لهذه المدينة التي هي الأمْ الرائعة لكل المدن العظيمة. لقد دخلت بابل في دور سبات اثنى عشر قرنا الى ان نفضت عن نفسها ادران الزمن ووجدت نفسها اخيرا تنبعث من جديد بكل
بريقها وبهائها على بعد ثمانين كيلومترا منها شمالا على ضفاف دجلة.
ذلك ان موجات اخرى من الطاقة البشرية تدفقت من
اعماق الجزيرة العربية، وانقذفت بكل عنفوانها على شواطئ الرافدين منذ اللحظات التي اقتحمها قائدا جيش الاسلام خالد بن الوليد وسعد بن ابي وقاص برجالهم وفرسانهم، فبرزت بغداد كما بين عشية
وضحاها من ذلك السهل الرسوبي نفسه الذي انبت بابل. هكذا بعثت الحياة من جديد في الجذور البابلية، وفي غضون سنوات قلائل كانت بغداد اعجوبة الدنيا وكسالفتها بالضبط اضحت ثروات البشرية
ومعارفها تصب فيها ثانية، لتتوسع وتعيد صياغتها، لكيما توزع في ارجاء العالم من جديد.
وحتى بناء بغداد على شكل دائري لم يكن اسلوبا
طارئا على العراق، فقد كشفت الحفريات الاثارية عن وجود مدن دائرية عديدة سبقتها كما نرى في بعض المدن الاشورية ومدينة الحضر وكذلك مدينة واسط جنوبي بغداد التي كان العرب قد شيدوها قبل
بغداد بستين عاما غير ان بغداد بزتها جميعا بحجمها وانتظام شكلها.
كانت بغداد تجسيدا لتلك القوى نفسها التي صنعت
بابل في ماضي الايام، والتي صنعت فيما بعد المدن الكبرى في العصور الحديثة. فبغداد تاريخيا تحتل الموقع الاوسط من خط تطور الانسان وانجازاته الفكرية. بينما عواصم الدول الفتية حضاريا
كانت دوما تردد اصداء بغداد من خلال ازدهارها في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين مع الفارق، هو ان بغداد كانت يومذاك متفردة في بهائها ورفعتها وقد سبقت معاصرتها بيزنطة بأشواط. فقد
قال فيها الجاحظ:
(رايت المدن العظام والمذكورة بالاتقان والاحكام
بالشامات وبلاد الروم وفي غيرها من البلدان، فلم ار مدينة قط ارفع سمكا ولا اجود استدارة ولا انبل نبلا ولا اوسع ابوابا ولا اجود فصيلا من الزوراء –وهي مدينة ابي جعفر المنصور– كأنما صبت
في قالب، وكأنما افرغت افراغا.)
وحين نتأمل اليوم في فنون العاصمة العراقية بغداد
والحياة الابداعية التي ازدهرت فيها قبل اكثر من الف من السنين نجد فيها الكثير من الحوافز والنوازع والصراعات التي تفعل فعلها الدائب في المدن الكبرى في قرننا الحاضر، هذه المدن
المتفجرة داخليا بطاقاتها البشرية الهائلة.
ولكن عندما يكتب عن بغداد احد ابنائها النابهين
من امثال مؤرخها احمد بن واضح اليعقوبي الذي عاصر بغداد وهي في اوجها في القرن التاسع الميلادي – اي بعد البدأ ببنائها بمئة عام، وصفها كشئ شديد الحضور، في (كتاب البلدان ):
(المدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق
الارض ومغاربها سعة وكبرا وعمارة وكثرة مياه وصحة هواء، يسكنها اصناف الناس جاؤا اليها من جميع البلدان القاصية والدانية. وآثرها جميع اهل الافاق على اوطانهم، فليس من اهل بلد الاّ ولهم
فيها محلّة ومتجر ومصرف، فأجتمع بها ما ليس من مدينة في الدنيا. في اعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء، حسّنت اخلاق اهلها ونضرت وجوههم وتفتحت اذهانهم حتى فضلوا الناس في العلم
والفهم والادب والنظر والتميز في التجارة والصناعة والكسب والحذق بكل مناظرة واحكام كل مهنة، واتقان كل صنعة. فليس عالم اعلم من عالمهم ولا اروى من راويتهم ولا اجدل من متكلمهم ولا اعرب
من نحوهم ولا اصح من قارئهم ولا امهر من متطببهم ولا احذق من مغنيهم ولا الطف من صانعهم ولا اكتب من كاتبهم ولا ابين من منطقيهم ولا اعبد من عابدهم ولا اروع من زاهدهم ولا افقه من حالمهم
ولا اخطب من خطيبهم ولا اشعر من شاعرهم ولا افتك من ماجنهم ...)
من هذا الوصف التفصيلي الدقيق الذي يتناول
المجتمع من اوجهه المختلفة نستدل ان بغداد انما كانت الامتداد الاكبر لمدينة بابل القديمة وقد حافظت على الجوهر الحضاري نفسه الذي ستتميز به المدن الكبرى فيما بعد. وهو الجوهر الذي يتمثل
اساسا، اولا، في التعددية ضمن شمولية الشخصية العربية وعبقرية لغتها، ويتمثل، ثانيا، في فرادة صناعتها وفنانيها وعلمائها ومفكريها –بل في تميزهم عن غيرهم في كل مكان.
كان لدخول صناعة الورق من طاشقند في الصين الى
بغداد في العهد العباسي اثره البالغ في نشر الثقافة في المجتمع الرافدي، وعلى اثر ذلك ظهرت مكتبات عامة في مناطق مختلفة من بغداد، كانت مكتبة الحكمة اشهرها، ومكتبات خاصة في كل مكان.
وحينها علق الجاحظ شغف العراقيين بالقراءة (كأنقضاض الأسد على الفريسة).
في هذا الوقت بالذات كانت بغداد تحتضن الخليفة
العباسي المأمون، الذي كان منهلا للثقافة الرائدة، فقد حول دار الخلافة الى منتدى لأساطين
العلماء والأدباء والبلغاء والمترجمين، الذين نقلوا الى العربية العلوم اليونانية واللاتينية والهندية والفارسية والسريانية، وبها تقدمت العلوم والفنون الى درجة اضحت بغداد
منارا للأشعاع الفكري المنير، لا لبلدان المنطقة فحسب انما لبلدان اوربا كذلك حيث استنارت بعض جامعاتها، بهذا الشعاع المنير، كانت بغداد انذاك متوجة بعصرها الذهبي الباهر.
فقد قال المأمون: (ان الحكماء هم صفوة الله من
خلقه ونخبته من عباده لانهم صرفوا عنايتهم الى نبل فضائل النفس الناطقة وارتقوا بقواهم عن دنس الطبيعة. هم ضياء العالم وهم واضعوا قوانينه ولولاهم لسقط العالم في الجهل والبربرية)
ووصل التسامح العقائدي في بغداد حدا، دفع بالمؤرخ
الفيلسوف –دربير– ان يقول:
(ان المسلمين زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة
اهل العلم من النصارى واليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا اليهم كثيرا من الاعمال الجسام وقلدوهم المناصب العليا في الدولة، الى درجة وضع الخليفة العباسي هارون الرشيد جميع المدارس في
دولته تحت اشراف حنا بن ماسوية. في الوقت الذي كان ملك انكلترا ريشارد قلب الاسد يصادر اموال اليهود ويطردهم من بلاده، ليموّن بها حروبه الصليبية، بحجة ان اليهود كفار.