تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد #3
مقتبس من (الفن والحلم والفعل) لمؤلفه جبرا ابراهيم جبرا
بقلم الدكتور رضا العطار
بتصرف
ridhaalattar@yahoo.com
لقد ولع سكان العراق وخاصة اهالي بغداد بأقتناء الكتب وتنافسوا في
ذلك، حتى كان اثاث البيت لا يكتمل إلاّ بمكتبة. وقد انفق بعض الناس في اقتناء الكتب ثروات طائلة. وقد ضمت المكتبات العامة في بغداد ملايين كثيرة من الكتب والمخطوطات. وكان العراقيون
يشترون الكتب ويودعونها في خزائن المساجد ويقفونها للأستعمال العام
وعلى الرغم ما اصاب الكتب العربية من الكوارث على يد هجمات المغول
على بغداد وما تبعها من الحرائق، وما لحق بها من السرقة والتلف والضياع تحت ركام الخرائب وافتراس الأرضة لها، إلاّ ان نصيبنا منها كان لا يقل عن ثلاثة ملايين نسخة من الكتب والمخطوطات
التي حفظت من الدمار، بفضل المكتبات العامة، غير ما كان يحتفظ به الناس في بيوتهم. علما ان ما خلفته العصور المظلمة الأوربية من المخطوطات كان لا يزيد في مجموعه عن خمسين الفا. وعندما
نقارن بين هذين الرقمين نجد بين ايدينا خير دليل و شاهدا يؤيدان من ان دنيا الاسلام كانت دنيا نور وهداية.
لقد اذكت الحضارة العربية في بغداد جذوة المعرفة في نفوس العراقيين
ودفعها الى العلم والادب دفعا قويا، فاسست الكتاتيب لتعليم مبادئ القراءة والكتابة واهتموا في تعليم البنات وتحفيظهن القرآن وخاصة سورة النور، وكان في يد الناشئة الواح من الخشب يكتبون
عليها دروسهم، ومن كان يريد اكمال تحصيله، انتقل الى حلقات الدرس داخل
المساجد، التي لم تكن بيوتا للعبادة فحسب، بل كانت ايضا معاهد لتعليم الشباب الطموح حيث يتلقون فيها المحاضرات من اساتذة متخصصين، كان تأثيرهم الثقافي على النهضة الحضارية كبيرا.
فقد ازدهرت هذه الحركة واعطت ثمارا يانعة،
في ظهور بوادر ادبية رائعة واثار علمية باهرة وقصائد شعرية خالدة، تمثلت في نخبة من اعلام العصر مثل ابن سينا في الطب والرازي في العلوم الطبيعية والطبري في التاريخ وابن حيان في
الكيمياء والكندي في الطبيعيات وابن ماسوية في علم التشريح وابن النفيس في الدورة الدموية والادريسي في الجغرافيا والخوارزمي في الرياضيات وعلم الفلك الذي اكتشف علم الجبر والذي جعله
الخليفة المأمون المشرف على المرصد الكبير الذي كان مستقرا في ضاحية من بغداد، هذا العالم الجليل الذي ثبّت محيط الارض على اساس كرويتها، قبل ان يعلنها زميله الفلكي الايطالي غاليلو
غاليلي بأكثر من خمسمائة سنة.
كذلك برز الى عالم الفكر المنير الفيزياوي الفذ، ابن الهيثم،
المولود في البصرة، الذي وصفه المؤرخ الامريكي المعاصر ميشيل هاملتون مورغان، بأنشتاين زمانه قوله :
(وبفضل نظريات ابن الهيثم تمكن كل من كوبرنيكوس وغاليلو ونيوتن من
تحقيق ابحاثهم العلمية بعد 600 سنة من رحيله). هذا ما جاء في كتابه Lost
History- -
الموجود حاليا في مكتبة الكونغرس الآمريكي في واشنطن.
لم يقتصر النشاط الفكري في الحضارة العربية في بغداد على العلوم
وحدها بل جاوزتها الى مجالات الادب والفن، بعد ان انتشر في المجتمع العراقي وخاصة البغدادي مظاهر التألق و التأنق في الأزياء والزيارات ومراسيم القبول واداب المائدة خصوصا لدى الطبقات
الأستقراطية الناشئة، كما سرى بين النساء الحرائر شغف التهادي بالعطور كعطر النرجس والياسمين والمسك والعنبر والكافور، يشغفن بطيب عبيرهأ ويتبخترن بشذى عبقها الفواح ويتمسحن بدهن
الزعفران من مفرقهن الى القدم عبر الساق كله،
كذلك عرف عن العوائل البغدادية رغبتها في
تزيين بيوتها بالورد والرياحين التي كانت تملئ الأجواء بأريج رائحتها الزكية، فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد بين اعضاء الاسرة الواحدة، مثلما كانت تلك الاجواء الرحبة
باعثة لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال. وعلى اثر ذلك، كثرت حقول زراعة الورد في ضواحي بغداد وفي كل مكان، وفي هذا السياق ينشد الشاعر ابن الجهم قوله:
حسن الرياض وصوت الطائر الغرد |
|
لم يضحك الورد إلاّ حين اعجبه |
وراحت الراح في اثوابها الجدد |
|
بدا فأبدت لنا الدنيا محاسنها |
تشفي القلوب من الهم والكمد |
|
قامت بجنته ريحُ معطرة |
كان المجتمع البغدادي خصوصا يتعشق الغناء العاطفي، فقد اقترنت
موسيقى الطرب لديهم برقة مشاعرهم وخلجات نفوسهم، حتى غدت نعيمهم المفضل، تثير فيهم البهجة والسرور الى حد كانوا يستقبلون عذوبة الحانها بالدموع. ولهذا كثرت حفلات اللهو والغناء في
بغداد، مثلما كثر روادها.
ونستطيع ان ندخل في فنون الظرف التي اشاعها الجواري، اعجابهن
بالأزهار وتعلقن بها. فقد الحقن بحدائق قصور الخلفاء بساتين تزخر بأنواع الورد، ليس ذلك فحسب، بل احس الشعراء في الأزهار معاني السلوى في الحب ودنوه واتصاله وجفاءه الى غير ذلك
كأن يحس الشاعر في احمرار الورد معنى الخجل! ويحس آخر في هجر
الحبيب، سرعة ذبوله، او يحس العاشق في ورد البنفسج عودة الوصال
وحرارته.
فكانوا يتهادون بالزهور والرياحين، دالين بها على امثال تلك
المعاني، كما كان بعضهم يحيي الآخر بالورد.
ثم كثرت التحية بين العاشقين بالتفاح، فكانت الجارية تترك على
التفاحة اثر خدها بفمها، وقد تشققها بالمسك والعنبر، وقد تكتب عليها بيتا تدل به على لوعتها:
تحيات ريحان وعضات تفاح |
|
وآثار وصل في هواك حفظتها |
وفي اخبار الخليفة العباسي المهدي ان جاريته اهدت اليه تفاحة
بعد ان نقشت عليها:
تفاحة تقطف من خدي |
|
هدية مني الى المهدي |
كأنها من جنة الخلد |
|
محمرة مصفرة طيبة |
كما رُوي عن الخليفة المتوكل انه رأى جارية وقد نقشت اسمه على
خدها، فأستهوى ذلك وطلب ان يُنشد الحدث هذا نظما ملحنا، فأنطلقت مغنية القصر وشاعرته الجارية عريب تغني البيت التالي بصحبة الآلات الموسيقية:
فقد اودعتُ قلبي من الوجد اسطرا |
|
لئن اودعتْ خطاّ من المسك خدها |
كان بعض الجواري يحسن نظم الغزل المثير يكتبنه على عصائبهن
وثيابهن ومناديلهن منها:
فكفّوا عن ملاحقة العيون |
|
أتهون الحياة بلا جنون؟ |
وكانت عريب مغنية المتوكل تلبس قميصا كُتب على وشاحه:
واني لأهواه مسيئا ومحسنا |
|
وافضي على قلبي له بالذي يقضي |
فحتى متى روح الرضا لا ينالني |
|
وحتى متى ايام سخطك لا تمضي |
كانت الجواري يتنافسن كذلك في تقديم التحف الجميلة. فقد كن قد
تزودن بثقافة العصر، اذ كان منهن من ينظم الشعر نظما بديعا.
هكذا كانت موجة الفجور في العهد العباسي حادة، ان لم يكن زادت حدة
فوق حدة، اذ ظل الناس يمعنون في شرب الخمر مدمنين عليها لا يرعوون، ومعروف ان القرآن حرمها. غير ان اجتهاد بعض فقهاء العراق الاحناف قد حلل بعض انواعها، كنبيذ التمر والزبيب المطبوخ ادنى
طبخ. فشربها الناس وشربها الخلفاء ايضا، لا بل تجاوزوها الى المسكرات المحرمة. وفي ذلك يقول ابن الرومي:
اباح العراق النبيذ وشربه |
|
وقال حرامان: المُدامة والسُكرُ |
وقال الحجازي: الشرابان واحد |
|
فحلّ لنا من بين قوليهما الخمرُ |
وابن الرومي يريد بالحجازي الشافعي
وبالعراق ابا حنيفة.
كان المتوكل يعقد في قصور الخلافة مجالس كثيرة للطرب وكان يحب الشرب
ومن حوله الورود والرياحين. كما كان يطيب له ان يجمّل ندمائه رؤوسهم بأكاليل الورد.
بينما كان الخليفة العباسي القاهر مدمنا بشرب الخمر كما كان مولعا
بالغناء، لكنه حرّم الغناء والخمر على الشعب، وكأنه كان يريد ان يعبها وحده !
لقد تحولت بساتين الكرخ ببغداد وضواحي مدينة سامراء الى حانات
كبيرة تكتظ بالجواري المغنيات الظريفات وفيها الخمور. وكان الرواد من الشباب يختلفون اليها، يتمتعون بسماع الموسيقى ومغازلة الجواري والقيان، يشربون فيها وهم في خيال هذا المتاع المضاعف
بجمال الطبيعة وجمال المرأة ونشوة الخمر من مثل قول البحتري:
اشرب على زهر الرياض يشوبه |
|
زهر الخدود وزهرة الصهباء |
من قهوة تنسي الهموم وتبعث ال |
|
شوق الذي قد ضلُ في الاحشاء |
كانت سامراء في ذلك العصر تحيطها المتنزهات. وكانت احداها
تدعى المطيرة، مشهورة في تقديم خدماتها، كان احد روادها شاعر معروف يقول عنها:
ياليالي بالمطيرة والكر |
|
خ ودير السوسي بالله عودي |
كنت عندي انموذجات من الجنة |
|
لكنها بغير خلود |
كن الجواري من اجناس مختلفة وقلما يشعرن
بشئ من الكرامة ام يستشعرن شيئا من التحفظ والاحتشام، بل كن يتفنن في الحيل التي يجذبن اليهن الرجال. فكن مصدر الفسوق والفجورفي المجتمع، فكل شئ من حولهن يغريهن على هذا السلوك
الآثم.
ويذكر المؤرخ ابن الأثير انه في عام 323 للهجرة دبر الحنابلة في
بغداد هجمات شعواء على الحانات، يراقون النبيذ ويكسرون آلات الموسيقى ويضربون المغنيات ويحرمون على الرجال رفقة الغلمان.
اقول: لم تبقى صفحة الحياة في مدينة بغداد داكنة بالمحرمات
والموبقات فحسب بل انما كانت تقابلها صفحة اخرى مضيئة بعباد الله الصالحين، تمتلئ بهم مساجد بغداد وقت الصلاة ايام الجمعة، وفيها الوعاظ ينادون على المنحرفين والضالين ان يخافوا الله
ويزدجروا، يهدونهم الى الصراط المستقيم.