Back Home Next

 

   الحضارات العربية الأسلامية الاولى - جذور النهضة   #1

مقتبس من (الحضارة السريانية حضارة عالمية) لموسى مخول
 بقلم الدكتور رضا العطار

ridhaalattar@yahoo.com

ان المعلومات الواردة في هذا المقال مصدرها كتاب (الحضارة السريانية حضارة عالمية) لمؤلفه موسى مخوّل وفي الكتاب تاكيد على دور المسيحيين السريان في النهضة العربية الأولى ابان العصر الأموي و العباسي. وما جاء في هذا المقال هو منقول نصا بدون اي تعليق لكاتب المقال.

لم يكن للعرب حين حلّوا الأمصار التي فتحوها ثقافة او تراث فكري يحسد عليه. ففي سوريا ومصر والعراق و فارس تعلق الفاتحون بحضارة الأمم التي غلبوها، فنقلوا عنها وكانوا مهرة في النقل، واظهروا قابلية فائقة للغذاء الفكري والثقافي.

غير ان قرب عهد الامويين بأيام الجاهلية والحروب والفتن الداخلية والخارجية التي قاست شرّها البلدان الاسلامية في العصر الاموي وما رافق ذلك من اضطراب الاحوال الاجتماعية والاقتصادية، كل هذه الامور قضت ان يكون سير الحياة الفكرية في ذلك العهد بطيئا، ولكن النواة التي تنمو فيها شجرة الفكر كانت قد زُرعت وكانت هذه الشجرة قد اثمرت وازدهرت في العصر العباسي،  فقد تأصلت جذورها في ثقافات العهود السالفة من ايام السريان واليونان والفرس.

ولقد بادر الفرس والسريان والاقباط والبربر وسواهم الى الدخول في حظيرة الاسلام وامتزجوا مع العرب بالزواج، فأقتضى ذلك ان يزول الحاجز المنيع الذي وضعه الاولون بين العرب والاعاجم واخذت معالم الجنسيات المختلفة تذوب في بوتقة الاسلام.

بحيث ان المسلم الذي قطع النظر عن جنسيته القديمة حين اعتنق الاسلام وتعلم العربية وكتبها،  اعتبر من ابناء العربية، وهي ظاهرة من اهم الظواهر في المدنية الاسلامية. فاذا ما اشرنا الى ما كان عند العرب من طب وفلسفة وعلوم رياضية، فلسنا نعني بذلك ان هذه العلوم كانت نتاج العقل العربي الصميم وان واضعيها كانوا ابناء الجزيرة العربية وصحاريها، بل نقصد ان هذه العلوم قد وضعها في اللغة العربية رجال نشأ اكثرهم في عصور الخلافة وكانوا من جنسيات اخرى، من سريان مسيحيين وفرس ومصريين وصابئة ويهود وعرب. ولا يبعد ان يكون بعضهم قد استمد علمه من مصادر آرامية او سريانية او يونانية او فارسية، ( فيليب حتي في تاريخ العرب المطوّل )

وفي بداية الحكم العربي الاسلامي الاموي كان المطلوب من سكان بلدان الهلال الخصيب ان يظهروا الولاء للاسلام و يعترفوا بسيادته وسلطانه وان يؤدوا له الرسوم المترتبة على اهل الذمة تأديتها، والامتناع عن كل دعوة دينية لهم لدى المسلمين وان يحافظوا على عروبة الجيش. وفي نطاق هذه التحفظات التي لم تكن لتؤثر كثيرا في الحياة العادية، تمتع اهل الذمة من مسيحيين ويهود وصابئة بحياتهم كافة. والى هذا فقد كان من الصعب جدا على العرب والمسلمين الذين الّفوا أقلية ضئيلة جدا في وسط هذا الخضم من الامم والاقوام التي سيطروا عليها ان ينهجوا نهجا آخر ، ويأخذوا الناس بالشدة والا كانت الحروب افنتهم واكلتهم. وقد تألفت ادارة الدولة من الاقطاعيين.

  1. ينتظم سياسة المسلمين فينظّم منهم شؤون الحرب والسلم وامور العبادة ويوفر اقتسام المرتبات والاعطية وجمع الزكاة ويتولى شؤون هذه الادارة في عاصمة الخلافة دمشق وفي الاقاليم موظفون عرب.

  2. يعني بشؤون سكان البلاد ولا سيما بتنظيم الضرائب وجبايتها يتولى القيام به والاشراف عليه عمال وموظفون من اهل البلاد وبغير ذلك من امور الادارة التي لا علاقة لها بشؤون الدين. ونرى في القطاع الاول يزداد التباعد والانفصال بين الدولة والدين، فالدين ينظم مبدئيا كل شئ في الحياة العامة والحياة الخاصة بحيث لا يمكن ادخال اي تغيير او تعديل عليها.

وقد انتظمت العلاقات بين الدول وسكان البلاد الاصليين بسهولة بالغة، وفقا لروح القانون المعمول به في البلاد والنظام الساري المفعول، وبقيت كل فئة او طائفة محتفظة بقانونها الخاص وبالموظفين الذين يسهرون على الشؤون الدينية عندها باستثناء ما كان تابعا للحق العام، فمرجعه حكومة الخلافة او ما تعلق بالعلاقات الخاصة بين هذه الطوائف بعضها ببعض، فكان امره متروكا للقضاة الذين كانوا يتمتعون بشئ من الاستقلال بالنسبة للحكومة، مع انها هي التي تتولى امر تعيينهم وتامين مرتباتهم، ويسهرون على قانون لم تكن الدولة قد اصدرته.

حتى المراحل الاولى من الحكم الاموي لم يطرأ على مجموع سكان الهلال الخصيب في الريف وعلى السواد الاعظم من سكان المدن وغالبيتهم الساحقة من المسيحيين اي تغير يذكر في سير الحياة ونهجها. فقد اخذ المسيحييون الخارجون على طاعة بيزنطية وبخاصة السريان منهم ينظمون احوالهم ويضبطون شؤونهم الدينية والكنسية الخاصة بعد ان تخلصوا من مضايقة العاصمة وازعاجها. وقد اقتصرت علاقاتهم مع الامبراطورية البيزنطية على بعض الاتصالات الانسانية، بالرغم من الحروب التي نشبت بين المسلمين والروم. وقد راحت بيزنطية تشعر بالاسف المرير لفقدانها اغنى ولاياتها ماديا وروحيا وثقافيا، وخير من يصور هذا الوضع احسن تصوير هو يوحنا الدمشقي احد كبار الموظفين في البلاط الاموي الذي بالعالم بعد حين وانقطع لعبادة الله راهبا في دير القديس سابا بالقرب من القدس.

وقد عرفت هذه الكنيسة بالملكية لبقائها على الولاء للملك البيزنطي، والى جانب هذه الكنيسة السريانية قامت الكنيسة السريانية المارونية نسبة الى القديس مارون شفيعها.

وقد اخذت هذه الكنيسة تنظم شؤونها تحت ادارة بطريك خاص بها وقد اخذ الموارنة يستقرون تدريجيا على سفوح جبال لبنان الغربية شرقا وغربا بعد ان اخذوا في حرثها واستغلالها. و اطمأنوا ان المنطقة انسب لسكناهم من موطنهم الاصلي الواقع في الهضاب والنواحي الشمالية في سوريا والتي سكنوها ردحا من الزمن.

اما اليعاقبة والاقباط والارمن والنساطرة فقد استطاعوا في اول عهد السيطرة الاسلامية ان يحافظوا على عدد اتباعهم وكنائسهم ووضعوا سلسلة من التشريعات القانونية والانصراف الى التأليف في الامور الرهبانية مع الحرص الشديد على السير مع الحركة العلمية التي نشطت انذاك ولا سيما في الطب والمنطق والفلسفة. وقد برز عندهم في هذه الحقبة العديد من العلماء واللاهوتييين والاطباء. وعلى الرغم من بعض الفروق اللاهوتية بين بعض الكنائس، فقد جمعهم العداء ضد الكنيسة اليونانية. وتأثرت الواحدة منها بالثانية. فقد اثّر اليعاقبة تأثيرا بالغا في الاقباط والارمن بينما تابع النساطرة جهودهم لنشر المسيحية في الاقطار الوسطى من آسيا.

وهذا الاستمرار نراه قائما في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. فقد وزعت الاراضي في الريف الى قسمين: الاملاك الخاصة والاملاك العامة ثم اضيفت اليها الاملاك التي فقد اصحابها ملكيتهم لها لفرارهم من البلاد عند الفتح او لوفاتهم في الحروب. فالقسم الاول من هذه الاراضي ترك لأصحابها شريطة ان يدفعوا عنها ضريبة عقارية هي الخراج التي كانوا يدفعونها من قبل الدولة البيزنطية او الفارسية، اما القسم الثاني من هذه الاراضي فقد اجّر الى مزارعين بقصد استثمارها وفقا لعقود خاصة، راى فيها بعض الفقهاء من اهل البلاد استمرارا لنظام الحكم الذي عرفه البيزنطيون وعملوا به طويلا مع ان الدولة الجديدة التي لم تكن قد الغت بعد الفروق الدقيقة، واعتبرتها املاكا تشبه في ملكيتها هذه الاملاك التي كان معمولا بها في الجزيرة العربية قبل الفتح العربي الذي كان اخف وقعا على الاهلين،

ان هرب ارباب الاراضي البيزنطيين من البلاد وحلول الملاكين العرب محلهم اقل دراية وخبرة منهم بنظام الملكية والاقطاع لم يجلب معه الحرية للفلاحين ، وكان محظورا على العرب مبدئيا ان يصادروا املاك سكان البلاد ، اما في الواقع فقد ساعد الشعور بالخلاص من المحتل المستعبد وفقدان الادارة والنظام الذي ساد البلاد في اول الفتح بعض قادة العرب وزعمائهم على اقتناء قرى وضياع ضمّوها الى ممتلكاتهم السابقة واعفيت من ضريبة الخراج فلم تستفد الدولة منها سوى استيفاء العشر فقط. 

اما المؤسسات البلدية والخاصة في المدن فقد بقيت دونما تغييريذكر بل بقيت تعمل كالمعتاد في ظل النظم التي سارت عليها الادارة الجديدة.

وهذا الاستمرار نفسه قد لازم الحياة الفكرية فحضارة سكان البلاد الاصليين وحضارة العرب كانت تسير كل منها في خط معاكس الا ما اتصل بمجال الفن. فالادب عند العرب في القرن السابع يسيطر عليه الشعر وفقا لعمود الشعر العربي في العصر الجاهلي بعد ان اخذ ينعم برعاية الامراء والخلفاء، يستندون رجاله فقد تلقح الشعر بموضوعات جديدة لم تكن مطروقة من قبل كمدح الامراء استدرارا لعطاءاتهم او كتصوير حياتهم  وغير ذلك من الموضوعات التي تصف لنا حياة الدعة التي اخذ العرب باسبابها.

اما الادب القومي فمجال الكلام فيه اقل حتى اخذت تطالعنا بوادر حركة علمية تمثلت في حركة الترجمة ونقل العلوم الداخلية كعلوم السريان واليونان والفرس والهند الى العربية على يد المسيحيين. وهكذا فالحضارة السريانية في الهلال الخصيب في القرنين السابع والثامن تتمثل خير تمثيل في الامبراطورية العربية بينما لا نرى في هذه الحقبة شيئا عند الروم يستحق الذكر.

وقد اشتركت الحضارتان معا في ما نرى من انتاج فنّي يعهد به العرب الى المهندسين المعماريين من ابناء الهلال الخصيب ويستخدمون له مواد هي في معظمها من مخلفات العهود الماضية. فاذا ما اقتضت فروض العبادة ومناسك الدين في الاسلام ان يتميز بناء المسجد بالاصالة والاتساع من حيث مقاييسه ونقوشه وزينته من الداخل وتحليته تبقى مستوحاة من الطراز الوطني المعمول به في البلاد . وهذا الاستمرار في الوسائل التقنية والمضي في استلهام الموضوعات والنماذج الاهلية المحلية يبرز اكثر فاكثر في المباني المدنية. ومن اشهر هذه الاثار الهندسية الباقية الى يومنا هذا مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط ومسجد قبة الصخرة والمسجد تالاقصى في القدس وكلاهما من انجازات الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان ويرجع تاريخ بنائها الى اواخر القرن السابع للميلاد

وبعد ذلك المسجد الكبير في دمشق المعروف بالجامع الاموي الذي كان اساسا كنيسة باسم القديس يوحنا المعمدان. ولا يقل شهرة عن هذه المساجد شهرة مسجد القيروان الذي لم يبق منه شئ يذكر.

اخذ الوضع الناجم من الفتح العربي الاسلامي يتغير تدريجيا تحت عوامل جديدة منها في الدرجة الاولى اقبال بعض الاهلين على اعتناق الاسلام وهي حركة تثير الدهشة اذ يقوم بها اصحاب اديان اوفر غنى ماديا وحضاريا واوفر عددا . الا ان هذه الحركة لم تات سواء في كل مكان اذ بقيت الغالبية العظمى من المسيحيين متراصة العدد كما هي الحال مثلا مع الطوائف السريانية . وقد كان المسيحييون على الاجمال اكثر تمسكا بعقيدتهم ودينهم من الزرادشتية مثلا وهي ظاهرة يمكن ردّها بالاحرى الى اسباب عديدة منها:

  1. القوة الادبية التي كانت للمسيحية في كثير من الاقطار الاخرى.

  2. تغلغل المسيحية بين الطبقات الشعبية في المجتمع القائم اذ ذاك.

  3. ان العرب خلافا لما سار عليه الفاتحون من قبل اخذوا يدعون سكان البلاد بطريقة او باخرى الى اعتناق دينهم بينما اعتاد الفاتحون فيما مضى ان يقبلوا على اقتباس ديانة البلاد التي فتحوها وهي في مستوى ثقافي ارفع.

فقد كانت هذه وتلك الديانات من المستوى الذهني نفسه للمؤمن المتوسط اذ من العسير على المؤمن العادي ان يدرك او ان يفهم كما يجب او ان يميز بين مفارقات رجال اللاهوت. فبعد ان قلّ بعض المسيحيين وسئمت نفوسهم عن المنافشات التي ادت اليه الانشقاقات الدينية والمذهبية. فقد راى البعض في العقيدة الجديدة التي تمثلت في الدين الاسلامي ما ينسجم ومعتقداتهم.