Back Home Next

 

      الحضارات العربية الأسلامية الاولى - جذور النهضة   #2

آراء الكاتب

 بقلم الدكتور رضا العطار

ridhaalattar@yahoo.com

وهذا الاسلام الذي خرج من بين يدي النبي محمد، طرأ على اتباعه تطور كبير منذ ان اصبح في تماس شديد مع الشعوب والبلدان التي تم اخضاعها بعد ان ادخل عليه معتنقوه من سكان البلاد الاصليين ما ادخلوا من رواسب تراثهم الروحي وبعد ان لقّحوه بما لقّحوه من صور ونماذج وقوالب جديدة. ولكي نفهم من جهة اخرى حركة اعتناق الاسلام علينا ان لا نسقط من حسابنا الفوائد والمنافع المادية والادبية والاجتماعية التي طمع بها المعتنقون الجدد في قطفها من اعتناقهم الاسلام اذ ان اتخاذ الاسلام دينا لهم يجعلهم من ابناء الطبقات السائدة المهيمنة في الدولة ومن اعضاء المجتمع المسيطر كما يخفف عن كاهلهم الكثير من الضرائب والاتاوات ويبعد المذلّة والاهانة طبقا لأصحاب النزوات ونزعاتهم.

وهكذا فاعتناق الاسلام كان في نظر القوم اشباعا لنهم طبقي ولشهوة اجتماعية وتحقيقا لرغبة او حلم طالما راودهم بتحسين وضعهم الاجتماعي وطالما اوردهم الشعور بالذل والهوان اكثر مما هو ارضاء لنزعة دينية او لمطلب اسمى عند النفس البشرية.

فالاسلام الذي اعتنقوه لم يكن دوما هذا الاسلام المتمثل في الحكومة والادارة المركزية. فهو كثيرا ما كان اسلام هذه الملل والنحل الاسلامية المعارضة. وهكذا فلكي تقوى هذه الملل من جانبها المستضعف وتشد من ازرها امام اسلام الدولة او الاسلام الرسمي، نرى اتباعها يقومون بجهد كبير لدى سكان البلاد الاصليين لحملهم على اعتناق الاسلام وفقا لمقالتهم او حزبيتهم الخاصة.

ان دخول السكان في حظيرة الاسلام واقحامه بالتالي في الحضارات القومية وتغلغله في الطبقات الشعبية كان بمثابة اقحامه في هذه المشكلات الملازمة لهذه الحضارات واعطاء العالم الاسلامي حضارة واحدة حلت محل الحضارتين السريانية واليونانية اللتين رافقتا قيام الدولة الاموية. الشئ المهم الان هو ان الثقافة الجديدة التي تطلع على البلاد لم يعد يعبر عنها بالسريانية او باليونانية بل بالعربية. وكان لا بد للعربية ان تظفر على يد الاكثرية الساحقة من السكان اصحاب الارض.

وقد نظر العرب المسلمون في مراحلهم الاولى الى التراث الادبي القديم في بلدان الهلال الخصيب نظرتهم الى عنصر دخيل جاءهم من الخارج. فقد عني سكان البلاد الاصليون ولا سيما الداخلون في الاسلام حديثا بدمج الديانة الجديدة في تقاليدهم واعرافهم الفكرية.

ومثل هذا الاهتمام واجهه المسيحيون في العصور السابقة. الا ان اندماج ادب دين جديد من تراث امّة ما كان بحاجة الى عملية توضيح اي الى شئ من التكييف والتركيز ومن جهة اخرى اتخذت هذه الثقافة اللغة العربية اداة تعبير لها واقتضت جهدا طيبا من الترجمة والتعريب والتفسير ، قام به في مراحله الاولى المسيحيون. فهذا التشابك والتداخل بين التقليد والاعراف المتباينة الذي شهدناه في العصر العباسي لم يلبث ان ادى سريعا الى وضع هذا العصر وجها لوجه مع التفاعل والانفعال المتبادل وبالتالي الى اغناء بعضها البعض والى طلوع عدد من الاكتشافات الجديدة. وهكذا بدون ان يحدث اي تغيير جذري على اسس الفكر في تلك الحقبة شهد العالم مع ذلك يقظة عارمة ادت الى نجاحات وتطورات مدهشة.

وقد اعتمد في بادئ الامر على حركة نقل العلوم الداخلية وترجمتها. وهي حركة اخذت بوادرها تظهر في عهد الدولتين البيزنطية والفارسية الساسانية على يد علماء السريان ومفكريهم وادبائهم وقد اعتمدت الترجمات الجديدة على ما سبق وضعها بالسريانية الى ان عادت تعوّل على النصوص اليونانية الاصلية. فنقل السريان الى اللغة العربية من اليونانية كما نقلوا على نطاق اضيق من اللغة الهندية التي كانت اداة اتصال بين الهند والبحر الابيض المتوسط. وقد اقتصرت حركة النقل هذه على المؤلفات العلمية التي يسهل تطبيقها عمليا بعد ان حاولت الطوائف الدينية الاسلامية الجديدة ان تجد فيها سلاحا لها في الخصومات والمجادلات الدينية التي شجرت اذ ذاك.

فكل الملل والنحل قد شاركت على مقادير متفاوتة بهذه الحركة. ان اعتناق عدد من سكان البلاد الدين الاسلامي وانتشار اللغة العربية في الاقطار وبين الطوائف التي بقيت على المسيحية او على اليهودية، والاتصالات العلمية بين العلماء المتخصصين ولا سيما بين الاطباء كل هذا وما اليه هو من بعض النتائج التي اتيح تسجيلها بحيث ان الثقافات الاصلية وجدت نفسها منقسمة الى قسمين:

  1. الاول: دخل كعنصر مقوّم في ما اصطلحوا عليه بالثقافة العربية الاسلامية بعد ان اسقط في ايديهم ايجاد صفة اخرى اكثر ملائمة.

  2. الثاني: اقتصر على المجال الديني والتسلّم بتمتعه بشئ من الاستقلال الذاتي، فقد تبلور في ما بدا عن آثار اللغات السريانية والقبطية والهندية والعربية حتى بعد ان استعربت وقد بقيت على هامش التيار الكبير ثم ما لبث ان اخذت بالتقهقر تدريجيا.

وحدث ايضا ان الادب المسيحي وجد طريقه الى اللغة العربية لتقربه من اذهان المسيحيين. فاذا كان البطريك ديونسيون عام 850 يكتب بالسريانية فقد وضع الراهب تودوسيوس مصنفاته باللغة العربية.

فالازدها الفكري وحده لم يكن ليملأ كل النشاط العربي الانساني. هناك اناس ظمئت نفوسهم الى الكمال الانساني وهامت قلوبهم بمكارم الاخلاق والتقرب الى الله.

 فمن المحال التساؤل اذا كان التصوف الاسلامي نص عليه الاسلام الاول، ام اذا نشأ عن الحياة الرهبانية عند المسيحيين فقد كان التصوف في مظاهره الاولى في شخص الحسن البصري، ولما راح يستعيض عن الادعية الاسلامية بطلبات تهيئ قائلها للانخطاف الروحي، راح العلماء والحكام ينظرون اليه نظرة كلها التشكك والتحسب. وقد استطاع رجال الصوفية ان يتعرفوا تدريجيا الى النظريات التي تقول بها الافلاطونية الحديثة ما ادى الى تجديد الافكار الصوفية.

 لقد قرر الخلفاء الامويون ان يتركوا احوال البلاد على ما هو عليه، ولا يمكن ان يعزى اليهم فضل القيام باي جهد للتعجيل بمجيء العصر الذهبي، فانصرف اكثرهم الى عادات وتقاليد واخلاق تلك البلاد التي يحكمونها، فأخذوا عاداتها وتقاليدها وتخلقوا باخلاق اهلها، فانصرفوا الى شرب الخمر التي حرّمها الدين والى الموسيقى التي كان يكرهها اتقياء المسلمين لأرتباطها الوثيق بالجواري اليونانيات والفارسيات والوثنيات، ولكنهم تركوا العلم والتعليم لغير المؤمنين الذين قاموا بتصريف شؤون الدولة محاسبين وكتابا وحفاظا لجميع السجلات. وكان لا بد ان تدون هذه السجلات والحسابات اول الامر بلغات البلاد المفتوحة من السريانية  واليونانية والفارسية. لان ضرب النقود الاسلامية  باللغة العربية في اعمال الدولة شيئا فشيئا لم يبدا الا بعد الهجرة باكثر من ستين عاما. فكان لا بد للشعوب المحكومة عندئذ من ان يتعلموا اللغة العربية اذا ارادوا ان يفعلوا شيئا مذكورا او يكون لهم شأن، وسرعان ما ادركوا مزية اعتناق الاسلام والتخلص بذلك من ضريبة الاعناق وشق الطريق الى التقدم.

حتى اذا جاء القرن الثاني للهجرة كانت الاغلبية العظمى من الذين اعلنوا اسلامهم ينتمون الى الاجناس المحكومة المحتقرة من سريان ومصريين وروم وبربر وغيرهم من الاعراق. وقد طالبوا بعد اعتناقهم الاسلام بالمساواة مع العرب المتعاليين عليهم. لان الاسلام لا يعرف التمييز بين الطبقات والاجناس. وقد ربطت اللغة العربية بين جميع هذه الشعوب. ولكنها بدلا من ان تعمل على توطيد سيادة الجنس العربي عملت على اقتلاع جذورها . وكان اليوم الذي آمنت فيه الشعوب المحكومة بالقرآن واتخذت لغته لغة لها فقد اصبح لسان الجميع عربيا وان قلّ منهم من كان عربي المولد.

فقد كان الفكر السرياني والفكر اليوناني معروفا جيدا في بلدان الهلال الخصيب ومصر، كما حمل الفرس معهم الى بلادهم كثيرا من ثقافة عدوهم وثقافة البلدان التي سيطروا عليها نتيجة للحروب من جهة والاختلاط المتبادل من جهة ثانية، وان ملوك الفرس احتضنوا العلماء والفلاسفة والمثقفين المسيحيين عندما ابعدوا عن بيزنطية واكرموا وفادتهم فاسسوا اكاديمية في جند يسابور حيث واصلوا الدراسات الفلسفية الاجنبية واضافوا اليها ما تعلمته فارس من الفلسفة الهندية والعلوم الطبية.

ولقد دلّ الجدل الديني المتصل الذي سبب الانقسام في الكنائس الشرقية على انه نعمة متخفية لانه كان يحمل الناس على دراسة الفلسفة والفلاسفة لا سيما الاغريق منهم دراسة متواصلة وبخاصة ارسطو الذي اتخذ منطقه اساسا للجدل الديني. وكانت المادة التي يعتمد عليها الخصوم في الجدل في مدارس سوريا والاسكندرية هي معظم مؤلفات ارسطو التي ترجمت الى السريانية. وكانت هذه المؤلفات بما عليها من شروح مصطبغة في الغالب بتأويلات الافلاطونية الجديدة في مدرسة الاسكندرية، وقد احتفظ السريان في ترجماتهم بجوهر الاصل. ومن ثم كانت المادة اللازمة لاحياء الثقافة موجودة عندهم.

وقد عرف الفاتحون الجدد كيف ينفخون فيها روح الحياة الجديدة، ولم يكن من المستطاع ان يأتي الدافع الى ذلك من الخلفاء المحافظين العرب.

كانت الدولة الاموية عربية المظهر،  ولم تبتعد عن هذا الطابع، الا في المجالات التي دفعتهم الظروف اليها دفعا. لقد كانوا بصدد ارساء اسس جديدة لدولة ناشئة على نهج لم يكن للعرب به عهدا من قبل. كان بودّهم ان يستكملوا لها كل مقوماتها ولم يكن بد اذن من ان تواجههم مشكلات نتيجة لما يمارسون من نشاط جديد كل ذلك جعلهم يلجأون الى ذوي الخبرة فيما جد من امور. فهم لم يناقضوا انفسهم حين استمدوا العون من كل قادر عليه من اهل الثقافات اليونانية والسريانية ما اتاح للعقلية العربية ان تلقح بلقاح جديد حمله اليها السريان على وجه خاص.

ولقد توفرت في الدولة الاموية كثير من العوامل التي تساعد في قيام مراكز ثقافية تعني بالنشاط العقلي. وتمثلت هذه المراكز بصورة واضحة في كل من البصرة والكوفة اللتين اصبحتا مركزين نشيطين للحياة العملية ولم يكن في القرن السابع الميلادي مدينة تستطيع منافستها، ففيهما وضعت علوم العقائد والفقه من قبل الاجانب غير العرب. ثم نشأ في كلتا المدينتين مدرسة للنحويين واللغويين. وقد التقى في هاتين المدينتين العرب والفرس والمسيحيون ومسلمون ويهود ومجوس. و حيث ازدهرت هنا التجارة والصناعة يجب ان نلتمس بواكير العقل الدنيوي، تلك البواكير التي نشأت من مؤثرات سريانية مسيحية مصطبغة بالفلسفة اليونانية في دورها الشرقي.

وللحصول على حضارة،  كان لا بد للعربي من الرحيل خارج بلاد العرب وما اكثر ما طمع في البلاد الغنية التي تحيط ببلاده المجدبة، بل انه اسس احيانا امارات صغيرة على الحدود الا انه كان يحتاج الى امرين يحفزانه الى التوسع في الفتح هما الوحدة الوطنية والدافع القوي حتى جاءه النبي محمد، فجمع شمل العشائر المتنافسة المتناحرة وآلف بينها، وجاءهم بدين يقاتلون من اجله.

صحيح ان هذا العربي ساكن الصحراء كان دائما وما زال شكاكا ماديا في قرارة نفسه وان ذهنه الذي يتميز بالشدة والصفاء والحدة وان خالطه شيء من الضيق، هذا الذهن الدائم اليقظة في محيطه الخاص لم يكن متطلعا الى المسائل الروحية ولا ميالا الى تصديقها،  الا ان الوحدانية البسيطة الصارمة التي جاء لهم بها رسول الاسلام بما فيها من مبادئ الثواب والعقاب الحسّية كان لها في نفسه سحر غريب. على اننا مع ذلك لا نستطيع ان نزعم ان الدين كان السبب الاساسي لفتوحات العرب المسلمين الساحقة مهما كانت دعوته قوية وملزمة.

كان هناك حافزا اكثر وضوحا هو الشهوة الجامحة الطبيعية للحصول على الغنائم. فقد كان امامهم امبراطوريتا الفرس والروم القديمتان الغنيتان اللتان شاختا وانهكتهما الحروب والعلل الداخلية ولم تقو احداهماعلى ان تبدي من المقاومة سوى اقصرها وافشلها، كما كان امامهم ايضا ومحط انظارهم بلدان الهلال الخصيب الغنية بمياهها وزراعتها وصناعتها وحضارتها وهي في نظرهم البلدان التي تدر عسلا ولبنا.

ووجد عرب الصحراء انفسهم في مدى عشرين سنة سادة على الممتلكات الواسعة التي كانت من قبل تحت امرة القياصرة والاكاسرة، وكان على تلك الشعوب ذات اللغات والديانات والثقافات المختلفة التي اشربت افكار العلماء والفلاسفة والشعراء والاغريق وامثالهم، وتدربت على مبادئ القانون كان عليها ان تخضع خضوعا تاما، يكاد ان يصل الى حد العبودية لحكام جهلاء لا يستطيعون التكلم بغير العربية وليس لهم سوى كتاب واحد – القرآن - وهو مصدر الثقافة والقانون.

وكان هذا العربي الوافد من الصحراء بما فيه من صلف وكبرياء ينظر الى هذه الشعوب الخاضعة لحكمه بما لها من تقاليد عريقة في العلم والمعرفة والحكمة والقانون، نظرته الى قوم أقل منه شأنا وهو ابن الصحراء الاصيل.

ولما لم يكن على شيء من الثقافة والعلم والفلسفة فقد احتقر اصحابها احتقارا تاما،

كذلك لما لم يكن لديه الرغبة في التعليم.  وكان آخر ما يخطر له ببال ان يصيّر هؤلاء القوم الضعفاء الذين اخضعهم بهذه السهولة الفائقة، سادة له في زمن قصير جدا. وكانت السيادة هي الشيء الوحيد الذي يستطيعه ويرغب فيه ولذلك لم يفعل شيئا في مدى قرن تقريبا من الزمان الا ان يحكم الاقطار الشاسعة التي فتحها.

وكان الخلفاء الامويون الذين اتخذوا دمشق عاصمة لهم بدلا من المدينة سنة 661 حكاما قادرين كما كانوا مسلمين متهاونين ادركوا انه كلما اعتنق شخص الاسلام كان هذا معناه خسارة في ضريبة الرؤوس وهو مبلغ كانت تجبيه الدولة من غير المسلمين وفقا لأحكام القرآن. وكانت قد اصبحت المورد الاساسي لخزانة الخليفة بعد ان خفّت الغنائم الوفيرة التي جلبتها الفتوح الاولى ولهذا تركوا الشعوب المحكومة تتمتع  بعقيدتها بحرية واستمرت المدارس ودور القضاء تواصل عملها كما كانت من قبل الا انه ايّا ما كانت الاحكام التي يمكن استنباطها من القرآن. فأنها لم تكن تكفي للفصل في القضايا المعقدة التي كان يتطلب البت فيها والاعتماد على مبادئ القانون العلمي السائد في بلدان الهلال الخصيب وشرقي البحر الابيض المتوسط انذاك وخاصة مبادئ القانون الروماني منها.