Back Home Next

 

أبو ذر الغفاري

آراء الكاتب

Imam Reza (a.s.) Network

 

الوقتُ صَيفٌ! والشمسُ نارٌ محرِقةٌ، وَرِمَال الصَّحراءِ تَغلي!
جُموعُ المُسلمينَ تَزْحَفُ بِقِيَادَة الرَّسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى «تبوكَ» لِمُحَارَبَةِ الرُّوم. ولم يَتَخَلَّفْ مِنْهُم عنْ فضيلةِ الجِهادِ إلا المضْطَرُّ، أو من أذِنَ لَهُ الرَّسُولُ بالبَقاءِ، فَبَقِيَ.. وفي مُنتَصَفِ الطَّريقِ جَمَلٌ وَاقِفٌ، مُتَخَلِّفٌ بِصَاحِبِهِ عَن الرَّكْبِ المُجاهِدِ، وَينزِلُ صاحبهُ عنهُ، يَحثُّهُ على المُضيِّ قُدُماً، والجَمَلُ، كالصَّخْرَةِ، لا يَتَحَرَّكُ.
وَيَزْدَادُ حَرُّ الشَّمسِ التِهاباً، فَتَغْلِي الرُّؤوسُ من رَمْضَاءِ الصَّحراءِ، وَتَحْتَرِقُ الأكْبَادُ عَطَشَاً، وَيُعَاوِدُ صَاحِبُ الجَمَل، تَحْرِيْكَ هذا الجَمَل الحَرونِ، وَلكِنْ، بِلاَ جَدْوى!
ـ أفٍ!.. أجَمَلٌ أنتَ عَاجِزٌ، أم حَلَّ في جَوفِكَ شَيْطَانٌ يَصُدُّكَ عَنِ التَّقَدمِ للجِهادِ في سَبِيلِ الله؟.. سَأتْرُكُك، وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، في جَوْفِ هذه الصَّحْرَاءِ حَتَّى تَذُوقَ الهلاكَ!..
يَقُولُ الرَّجُلُ ذَلِكَ، وَيَخِفُّ إلى مَتَاعِهِ البسيطِ على ظَهْرِ الجَمَلِ، فَيَتَنَاوَلُهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَيَتْبَعُ جُموعَ المسلمينَ ماشياً، تارِكاً هَذَا الجملَ النكِدَ في جوفِ الصَّحراء. وَيَنْظُرُ المسلمونَ من بعيدٍ، خَلْفَهُم، فَيُشَاهدونَ نُقْطَةً دَكْنَاءَ تَتَحَرَّكُ على بِسَاطِ الرَّمْلِ وَتَكْبُرُ النقطةُ شيئاً فشيئاً، وَيَتَرَاءى لَهُم رَجُلٌ يَقْطَع الطَّريقَ وَحْدَهُ، وَعَلَى ظَهرِهِ مَتَاعٌ بَسيطٌ، فَقَالوا:
ـ يا رَسُولَ الله، رَجُلٌ عَلَى الطَّرِيْقِ وَحْدَه!
فَقَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: كُنْ أبا ذَر!..
وَيَتَأْمَّلُ الناسُ هَذَا القَادِمَ الذي يَحُثُّ نَحْوَهُم الخُطَى، وَقَدْ أَخَذَ منه الإعياءُ مَأخَذَاً عظيماً. وَيَتَحَقَّقونَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ الأسْمَر، الهزيلِ الجسمِ، الخَفيفِ العَارضَيْنِ، المحدَوْدبِ قَليلاً، وَيَعْلُو صَوْتُهم:
ـ هو أبو ذّرٍّ يا رسولَ الله!
فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:” يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ، وَيَشْهَدُهُ ( أي: يَحْضُرُ دَفْنَهُ ) عِصَابَةٌ مِنَ المؤمِنِينَ “.

فَمَنْ أبو ذَرٍ هذا ؟ وَمَا هي سيرةُ حَيَاتِهِ ؟

إنهُ جُنْدُبْ بنُ جُنادَة، مِنْ قَبِيلَةِ غِفَارٍ، كَانَ فَقيراً، وَكَانَ في شَبَابِهِ قاطِعَ طريقٍ، يُغيْرُ على جَمَاعَةِ النَّاس، عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ، أو على قَدَمَيْهِ، كالسَّبُعِ، شُجاعاً مِغواراً.. هكذا كان نمط العيش هناك!
وَإلى ذَلِكَ، فَلَطَالَمَا كَانَ يَخْلو إلى نَفْسِهِ، غَيْرَ مُطْمَئِنٍّ إلى هَذَا النَّمَطِ مِنَ الحياة، وَإلى هَذْا الشَّكْلِ مِنَ العَيشِ، فَيغْرِقُ في التأمُّلِ والتَّفَكُّرِ، في ساعاتِ مِنَ الليلِ والنَّهَارِ، وَتَتَحَرَّكُ في نَفْسِهِ بَوَاعِثُ التَّوبَةِ والنَّدَمِ، فَيَتَوَجَّهُ “جُنْدُبُ » إلى رَبِهِ طَالِباً مِنْهُ الهِدَايَةَ والرَّشَادَ.
وَيُصَلِّي عَلَى طَرِيْقَتِهِ الخَاصَّةِ حِيْنَذَاكَ، وَكَيْفَمَا يَشَاءُ الله لَهُ ذَلِكَ.
يُحَدِّثُنَا عَبْدُ الله بْنُ الصَّامِتِ، وَذَلِكَ بَعْدَ إسلاَمِ «جُنْدُبَ» بِزَمَنٍ طَوِيْلٍ: قَالَ لِي أبو ذَرٍ يَوْمَاً: «لَقَدْ صَلَّيْتُ يَا ابنَ أَخي قبْلَ أَنْ أَلقى رَسُولَ الله بِثَلاثِ سِنينَ».
فَقُلْتُ: لِمَنْ ؟
قال: “لِلَّهِ، أتَوَجَّهُ حَيْثُ يُوجِّهُنِي رَبِي ».
وَيَسْمَعُ «جُنْدُبُ» بِالإسْلاَمِ ديناً جَدِيداً، يَنْشُرُه وَيَدْعُو إِلَيْهِ نَبِيٌ مِنَ العَرَبِ، جَدِيدٌ. فَيُرْسِلُ أخاهُ أنيساً إلى مَكَةَ، يَسْتَفْسِرُ لَهُ عَنْ ذَلِكَ كلِّه.
وَيَقْدمُ «أنيسُ» مكَّة وَيَلْبَثُ فِيها أياماً، يَعُودُ بَعْدَهَا إلى أخِيهِ. فَيُبَادِرُه «جُنْدُبُ» بِقَولِهِ:
ـ مَاذ وَرَاءَك يَا «أنيسُ» ؟
فَيُجِيْبُهٌ: رأيتُهُ (أي النبيّ محمّداً) يأمُرُ بالمعروفِ وَيَنْهى عَن المُنْكرِ وَيَأمُرُ بِمَكَارِمِ الأْخلاقِ، وَسَمِعْتُ منهُ كَلاَمَاً، مَا هُوَ بِالشَّعْرِ (يَقْصُدُ القرآنَ (.
وَيَصْمُتُ «جُنْدُبُ» قليلاً، ثمّ يَقُولُ لأخيهِ:
ـ مَا شَفَيْتَنِي فِي مَا أرَدْتُ!
وَيَقُومُ «جُنْدُبُ» يهيّئ زَادَهُ، وَإلى «البَلَدِ الحرَامِ» يَتَوجَّهُ مُسْرِعَاً، وفي رأسِهِ أَسْئِلَةٌ شَتَّى، وَعَلاَمَاتُ استِفْهَامٍ كَثِيرَةٌ، فَهَلْ يَلْقَى لِذَلِكَ كُلِّهِ جَوَابَاً عِنْدَ النبيِّ الجديدِ، وَتَفْسِيْرَاً.. فَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ، وَتَرْتَاحُ نَفْسُهُ؟... وَيَصِلُ مَكَّةَ ذَاتَ مَساءٍ، والنَّاسُ مُنْصَرِفُونَ إلى شُؤونِ حَيَاتِهِمْ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ أَحَدٌ. وَيَجِدُ صُعُوبَةً في السُّؤالِ عنِ النَّبي، فَلاَ يَسْأَلُ، وَيَلُوذُ بِالصَّمْتِ!... وَيُدْرِكُهُ اللَّيلُ، فَيَضْطَجِعُ.. وَيَمُرُّ بِهِ عليٌّ ) وعمره عشر سنوات( ، فَيَتَفَرَّسُ في وَجْهِهِ قائِلاً:
ـ كَأَنَّ الرَّجُلَ غَرِيبٌ ؟
وَيُجِيْبُ «جُنْدُبُ»: نَعَمْ.
فَيَقُولُ لَهُ الإِمَامُ عليه السّلام: هَيَّا مَعي إلى المَنْزِلِ.
وَيَظَلاَّنِ كَذَلِكَ ثَلاَثَةَ أيَّامٍ
وَفِي اليَّومِ الثَّالِثِ، يَقُولُ لَهُ الإمام عَليٌّ عليه السّلام: ـ أَلاَ تُحَدِّثُنِي مَا الذي أَقْدَمَكَ هَذَا البَلَدَ؟ فَيَبُوحُ “جُنْدُبُ » لِصَاحِبِهِ بِمَكْنُونِ نَفْسِهِ، وَيُفْضِي إليهِ بالسَّبَبِ الذي مِنْ أجْلِهِ قَدِمَ مَكَّةَ وَيَبْتَسِمُ الإمام عليه السّلام.. إن نَفْسَهُ صَادِقَةٌ في ما حَدَّثَتْهُ بِهِ عَنْ أمر هَذَا الرَّجُلِ الغريب.
وَفِي الصَّبَاحِ يَنْطَلِقُ «جُنْدُبُ» في إثر عَليٍّ عليه السّلام إلى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. وَمَا أن يَرَاهُ حَتَّى يَهْتِفُ:
ـ السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ الله!.
وَيَكُونُ أوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الإِسلامِ!...
وَيُجِيْبُهُ الرَّسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بِصَوْتِهِ الوادِعِ:
ـ وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ، مَنْ أنتَ؟.
قَالَ: رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ!
وَيَعْرِضُ الرَّسولُ عليه الإِسلام، فَيُسْلِمُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ رَابعَ المُسْلِمِيْنَ أو خَامِسَهُمْ. وَيُبايعُ الرَّسولَ على «ألاَّ تَأْخُذَهُ في الله لَوْمَةُ لاَئِمٍ، وَأنْ يقولَ الحقَّ وَلَوْ كَانَ مُرَّاً!» وَيَقُولُ لَهُ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: ـ إرجعْ إلى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ، وَاكْتُمْ أَمْرَكَ عَنْ أهل مَكَّةَ، فَإِنِي أخْشَاهُمْ عَلَيْكَ!
وَلَكِنّ «جُنْدُباً» قد غلبه طبعه في المجاهَرَة بِرَأْيِهِ، وَإِعْلاَنِهُ عَلَى رُؤوس الأشْهَادِ، صَرِيْحَاً كَحَدِّ السَّيْفِ.
فَخَرَجَ، وَأتى قُرَيْشاً في المَسجِدِ، وَنَادى بِأعْلَى صَوْتَهُ «أشهَدُ ألاَّ إِله الله وأشهدُ أن مُحَمَداً رَسُولُ الله» فَثَارَ إلَيْهِ القَوْم يَضْرِبُونَهُ، حَتَّى طَرَحُوهُ أرضَاً. وَأتَى العَبَّاسُ عَمُّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فَأَكَبَّ عليه قائِلاً:
ـ وَيْلَكُمْ، ألا تَعْلَمُونَ أنَّهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ؟ وَإن طَرِيقَ تِجَارَتِكُمْ إلى الشَّامِ عَلَيْهِمْ. وَأنْقَذَهُ مِنْهُمْ.
وَيُكَرِرُ«جُنْدُبُ » في اليومِ التَّالي مَا فَعَلَهُ في اليومِ الأوَّلِ، فَيُصِيبُهُ مِنْهُمْ مَا أصَابَهُ سَابِقاً، وَيُنْقِذُهُ العبَّاسُ مِن بَيْنِهِمْ، وَيُشِيْرُ عليهِ بِالخُرُوجِ مِنْ مَكَّةَ حِفَاظَاً على نَفْسِهِ، فَيَقْبَلُ «جُنْدُبُ». وَقَبْلَ خُرُوجِهِ، كَانَ لا بُد لَهُ مِنْ أن يَمُرَّ على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. فأتَاهُ شَاكِيَاً: «يَا رَسُولَ الله، أمَّا قُرَيْشٌ، فَلاَ أَدَعَهُمْ حَتَّى أَثْأَر مِنْهُمْ، لَقَدْ ضَرَبُونِي». وَيَصْمُتُ قَلِيلاً، ثُمَّ يُتَابعُ: يَا رَسُولَ الله، إني مُنْصَرِفٌ إلى أهلي، وَنَاظِرٌ (أي: منتظر) حَتَّى يُؤمَرَ بِالقِتَالِ، فَأَلْحَقَ بِكَ، فَإِني أرى قَوْمَكَ عَلَيْكَ جَمِيعَاً.
وَيُجِيبُهُ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أصَبْتَ!...
يَعُودُ بَعْدَهَا إلى قَبِيلَةِ غِفَار، فَيُسْلِمُ أخوهُ «أنيسٌ » وَتُسْلِمُ أُمُّهُ، وَيُعْلِنُ نِصْفُ قَبِيلَتِهِ الإِسْلاَمَ، وَيَقُولُ نِصْفُهُمْ الباقي:
ـ إذا قَدِمَ الرَّسولُ أسْلَمْنَا!.
وَيَقْدمُ الرَّسولُ، فَيُسْلِمُونَ!. وَيَعُمُّ الإِسلامُ قَبِيلَةَ غِفَارٍ كُلَّهَا وَمَنْ جَاوَرَهَا مِنَ القَبَائِلِ. وَهَكَذَا يَظَلُ «جُندُب» في قَبِيلَتِهِ، دَاعِيَةَ إسلامٍ، ومفقِّهاً لَهُمْ في أُمور دِينِهِمْ، حَتَّى هَاجَرَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى المدينةِ، دُونَ أَن يَشْهَدَ مَعَهُ شَيْئاً من مَوَاقِعِهِ، باستِثْنَاءِ «غَزْوَةِ تَبوكَ» فيما بَعْدُ.
وفي المدينَةِ المنوَّرَةِ يُصْبِحُ أبو ذرِ الغفَاري مِنْ أقرَبِ المُقَرَّبينَ إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وَيَتَوَسَّمُ الرَّسولُ فيه صِدْقَ الإِيمانِ، وصِدقَ الحَديثِ، وصِدقَ العَزيمَةِ، فَقَالَ فيه:
«مَا أظَلَّتِ الخَضْراءُ (أي: السَّماء)، وَلاَ أقَلَّتِ الغَبْراءُ (أي: الأرض) مِن ذي لَهْجَة أصْدَقَ مِنْ أبي ذَر! »
فَأَبُو ذَرٍ، بِشَهَادَةِ النَّبي فيهِ، أَصْدَقُ إِنْسَانٍ بين الناس.

وَكَانَ أبو ذَرٍ رضي الله عنهُ، يَهْوَى مَجَالِسَ الرَّسولِ، إِنها شَكْلٌ مِنْ أشْكَالِ العبَادَةِ حَيْثُ المَلاَئِكَةُ تَحُفُّ هذه المَجَالِسَ بالرَّحْمَةِ.. وَيَنْضَمُّ إلى هَذِهِ الحَلَقَةِ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسولِ الكِرامِ، يَتَعَلَّمُ، وَيَتَفَقَّهُ، وَيَحْفَظُ الأحاديثَ النبويَّةَ الشريفَةَ فَيُذِيعُهَا بينَ النَاسِ. وَكَانَ الرَّسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَرَى ذَلِكَ، فَيَرضَى، وَكَانَ لَهُ دَالَّةٌ على أبي ذرٍ خَاصَّةً.
وَلْنَسْتَمِعْ إلى وَاحِدَةٍ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى لِسَانِ أبي ذرٍ، قَالَ:

دَخَلْتُ ذَاتَ يومٍ في صَدْرِ نَهارِهِ عَلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فِي مَسْجِدِهِ، فَلَمْ أَرَ في المَسْجِدِ أحَدَاً من النَّاسِ إلا رَسُولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّاً إلى جَانِبِهِ. فَاغْتَنَمْتُ خُلْوَةَ المَسْجِدِ، فَقُلْتُ:
ـ يَا رَسولَ الله، بِأبي أَنتَ وأُمي، أَوْصِني بِوَصِيَّةٍ يَنْفَعُنِي الله بِهَا.
فَقَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «وَأَكْرِمْ بِكَ يَا أَبا ذَرٍ، إِنَّكَ مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ:.. »
وَطَفِقَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، يُوصِي أبا ذَرٍ، مُسْيَرسِلاً، في وَصِيَّةٍ جَامِعَةٍ مَانِعَةٍ، فِيهَا كُلُّ مَا يَهُمُّهُ وَيَهُمُّ المُسْلِمِينَ مِنْ أمور دِيْنِهِم وَدْنْيَاهُمْ.
وَيَحْفَظُ قَلْبُ أبو ذَرٍ الوصِيَّةَ، فَتَمْلأهُ نوراً، وَتَمْتَلِيءُ نَفْسُهُ سَعَادَةً وَرِضىً. وَيَنشُرُها بين المسْلمين، فَتُشْتَهَرُ عَنْهُ. وَتَمْتَليءُ بِهَا كُتُبُ الشيعَةِ.
فَوَصِيَّةُ الرَّسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذَرٍ، مِنْ نَوادِرِ الحِكْمِ، وَرَفيعِ الكَلِمِ! وَيَلْتَحِقُ الرَّسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمَلأِ الأعلى، وَهُوَ عَن صَحْبِهِ البَرَرَةِ: أبي ذرٍ، والمقدادُ، وَسَلمَان، راضٍ كلَّ الرِضَى!.
وَيَلتحق أبو ذَرِ رضي الله عنهُ بأرْضِ الشَّام، وَيَمْكُثُ فيها بِشَكْلٍ قَلِقٍ، مَا شَاءَ الله لَهُ ذَلِكَ، يُشَارِكُ المسلمينَ سَرَّاءهُم وَضَرَّاءهُمْ، لا يَتَخَلَّف عن الجهَادِ إذا دَعَا الدَّاعي. يُحَدِّثُنَا التَّاريخُ بِأَنَّ عَدَدَاً من الصحابةِ الكِرَامِ اشترك في «غَزْوَةِ الصائِفَةِ » التي قَامَ بِهَا مُعَاويَةُ لِبِلاَدِ الرُّومِ، منهم «أبو ذرِّ الغِفَارِي» و «أبو ايوب الأنصاريُّ» وَ «عُبَادةُ بنَ الصَّامِتِ»، وَكَانَ في جَيْشِ مُعَاوية مَنْ يَمِيْلُ إلى أبي ذرٍ مَيْلاً شَدِيدَاً! وَظَلَّ رضي الله عنه على ذلك.
وَعَادَ إلى المدينةِ، وقَد وُلِيَ عُثمانُ الحكم، فهالَهُ تَصَرُّفُ الأمويينَ الذينَ انقَضُّوا في عهده على السُّلْطَةِ انقِضَاضَ الكواسِرِ. وتثور ثائرةُ الصحابيِّ الجليلِ وهو يرى سنَّةَ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم يَنْحَرِفُ بِهَا أَصْحَابُ الهوىَ انحِرافاً خَطِيْراً، فَيُشَرَّدُ المخلصون مِنَ الصَّحابَةِ وَأَجِلَّةِ العُلَمَاءِ: كَالصَّحَابِي عبدالرحْمَن بنِ حَنْبَل إذ أُبعدَ إلى جِهَةِ خَيْبَرَ، كَما أمروا بَإِبعادِ عَمَّارٍ، لولا أن خَلَّصَهُ مِنْ ذَلِكَ الإِمامُ عَليٌ عليه السّلام، وَجَمَاعَةٌ مِنْ بَني مَخْزومٍ، وَيَأْمُرونَ بعبدِالله بنِ مَسْعُودٍ فَيُجَرُّ بِرِجْلِهِ حتّى يُكسَرَ لَهُ ضِلْعانِ...
كما يُبْعَدُ جَماعَةٌ مِنْ صُلَحَاء الكُوفَةِ بَيْنَهُم مَالِكُ الأشْتَرُ، وَصَعْصَعَةُ بْنُ صَوْحَانِ وَأخوهُ زَيْدٌ، وَعَدِيُّ بْنُ حَاتِمَ، لِكَلاَمٍ جَرى بينهم وَبَين والي الكوفة.
وَكَانَ أبو ذرٍ رَضِيَ الله عنه، لا يَدَعُ مُنَاسَبَةً إلا وَيُشَهِّرُ فيها بِهَؤلاءِ البَطَانَةِ، وَكَانَ في ذَلِكَ، مُنْسَجِمَاً مع نفسِهِ الانسجامَ كُلَّهُ.
أوَ لَمْ يُبَايعْ الرًّسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم عَلى قَاعِدَةِ: لا تَخَفْ في الله لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَقُلْ الحقَّ وَلَو كَلنَ مُرَّاً !؟
أوَ لَم يَقُلْ لَهُ الرَّسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم ذَاتَ يومٍ في مَجْلِسٍ حَمِيمٍ:
ـ يا أبا ذرٍ، كَيْفَ أنت إذا كَانت عَلَيْكَ أُمَراءُ يَسْتَأْثِرُونَ بِالفَيْء (أموال المسلمين) ؟! فَيُجِيْبُهُ أبو ذَرٍ: إذاً، والذي بَعثك بالحَقِّ، أضربُ بِسَيْفِي حتَّى ألحَقَ بِكَ.
وَيَبْتَسِمُ الرَّسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُشْفِقاً، قَائِلاً:
ـ ألا أَدُلَّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذلك ؟ اصبِرْ حَتَّى تَلقَانِي!
وَهَل هُوَ يَصْبِرُ وَهُوَ يَرَى الأمورَ في غَيْرِ مَواضِعِهَا، فَيَهْربُ بِدينِهِ ونَفسِهِ إلى بِلادِ الشَّامِ!..
ثُمَّ يَعُودُ أيامَ عُثْمَانَ، فَإذا المَفَاهيمُ كُلُّها مَقْلُوبَةٌ رأساً على عَقبٍ... وَالقِيَمُ كُلُّها لا يُعْمَلُ بِهَا، وَمَا عَهْدُ رَسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن المسلمينَ، بِبَعيدٍ!.. فَسِيَاسَةُ انْفاقِ المَالِ فيها الكثير مِنَ التَّبْذِيرِ والإِسْرافِ، وَصَرْفِهِ في غيرِ وُجُوهِهِ.
أما الطَّامَّةُ الكُبْرى، فَتَتَجلَّى بِتقْرِيبِ أُناسٍ كَانَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد نَفَاهُم، لِمَا انطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُم من حِقْدٍ عَلى الإِسْلاَمِ وَنِفَاقٍ في الدّينِ، وَقُبِضَ صلّى الله عليه وآله وسلّم وَهُوَ عَلَيْهِمْ غَضْبَانُ. وَيَأتِي عُثْمَانُ، فَيُعِيْدُهُمْ، وَيُقَرِّبُهُم إليه، وَتُفْتَحُ خَزَائِنُ بَيْتِ المَالِ لهم، فَيَغْرِفُون مِنْهَا مِلْءَ اليَدَيْنِ!...
فَيَصْرُخُ أبو ذرٍ: الله الله!... وَبَشِّر الكافِرِينَ بِعَذَاب اليمٍ. وَيَتْلُو قَوْلَهُ تعالى: وَالذينَ يَكْنزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا في سَبِيلِ الله فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أليم! .


وَتَصِلُ كَلِمَاتُ أبي ذَرٍ إلى مَسَامِعَ عثمان فَيَسْكُتُ، وَلَكِنْ، عَلى مَضَضٍ. ثُمَ يُرسِلُ إليه يَأْمُرُهُ بالسُّكُوتِ.
وَلَكِنَّ رضى الله أَحَبُّ إلى أبي ذرٍ مِنْ رِضَى سِواه. وَلَمْ يَطُلْ الأمْرُ بِأبي ذرٍ في المدينةِ مُجَاوِراً قَبْرَ حَبيبِهِ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. فَيُأْمَرُ بِهِ، فَيُنْفَى إلى بِلاَدِ الشَّامِ. ـ وبلاد الشَّامِ أيّامَذَاكَ تَضُمُّ كُلَّ هذه البُقْعَة الجُغْرَافِيَّةِ مِنَ العالَمِ العربي، التي تُشَكِّلُ دُوَلَ: سُورِيَا وَفَلَسْطِينَ وَشَرْقِي الأردنِ، ولبنانَ، باستِثْنَاءِ جَبَلِه.
وَيَتَجَمَّعُ أهلُ الشَّامِ حَوْلَ صَاحِبِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. يَسْتَمِعُون إلى آرائِهِ في السياسةِ والاجتماعِ، وَيَسْتَفْتُونَهُ فَيُفْتِيْهِمْ بكِتَابِ الله وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم وَيَطْلُبُونَ مِنْهُ أن يُحَدِّثَهُمْ، فَيقول:
«إِنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّتِنَا قَبْلَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْنَا كِتَابُ الله، وَيُبْعَثُ فينا الرسولُ.. وَنَحْنُ نوفي بِالعَهْدِ، وَنَصْدُقُ الحَدِيثَ، وَنُحْسِنُ الجِوارَ، وَنُقْرِي الضَّيْفَ، وَنُوَاسي الفَقيرَ. فَلَمَّا بَعَثَ الله تعالى فِينا رسول الله، وَأنزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، كَانَتْ تِلْكَ الأخْلاَقُ يَرْضَاهَا الله ورَسُولُهُ.
... ثُمَّ إن الوُلاَةَ قَدْ أحدَثُوا أعْمَالاً قِبَاحاً لاَ نَعْرِفُهَا، مِنْ سُنَّةٍ تُطْفأ، وَبِدْعَةٍ تُحْيَا، وَقَائِلٍ بِحَقٍّ مُكَذَّبٍ... ».
وَيَنْظُرُ أهْلُ الشَّامِ بَعْضَاً إلى بَعْضٍ، وَكَأَنَّهُمْ يقولون:
ـ إنه الحَقُّ، يَقُولُهُ صَاحِبُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذو اللَّهجَةِ الصَّادِقَةِ. والله، إن حُكَّامَنَا لظَالِمُونَ!
وَيَقُولُ لَهُ يَوْمَاً حَبِيبُ بن مُسْلِمَةَ، وَكَانَ أحَد القَادَةِ:
ـ لَكَ عِنْدِي يَا أبا ذَرٍّ ألف دِرْهَمٍ، وَخَادِمٌ، وَخَمْسُمِئَةِ شَاةٍ.
قَيُجِيبُه أبو ذرٍ: أَعْطِ أَلْفَكَ وَخَادِمَك وَشُوَيْهَاتِكَ مَنْ هُوَ أحْوَج إلى ذلكَ مِني، فَإني أسألُ حَقِي في كِتَابِ الله.
وَيَبْعَثُ إليه مُعَاويَةُ بِصُرَّةٍ فيها ثَلاَثُمِئَةِ دينارٍ، فَيَرُدُّهَا أبو ذرٍ رضي الله عنه قَائِلاً للرسول:
ـ والله! لقد حَدَثَتْ أعمالٌ مَا أَعْرِفُها، والله.. مَا هيَ في كتابِ الله وَلاَ في سُنَّةِ نَبِيِّهِ، والله! إني لأرَى حَقاً يُطْفأ، وَبَاطِلاً يُحْيَا!.. »
وَيأْمُرُ مُعَاويةُ بِأبي ذرٍ، فَيُخْرِجُهُ إلى قُرَى الشَّامِ.
وَفي قُرى الشَّامِ هَذِهِ يَنْتَشِرُ فَضْلُ الصَّحَابي الجَليلِ، وَيَطِيرُ صيتُهُ، وَيَتَوَافَدُ المُسْلِمُونَ إليه زَرَافاتٍ وَوِحْدَانَاً يَأخُذون عن صاحِبِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عِلْمَاً وَفِقْهَاً. وَيَنْشُرُ أبو ذر رضي الله عنه في هذه القرى المُتَنَاثِرَةِ، المُمْتَدَّةِ بين سَاحِلِ البَحْرِ المُتَوَسِّطِ غَرْبَاً حَتَّى غَوْرِ الأرْدُنِّ شرْقاً، فَضَائِلَ أهلِ البَيْتِ عليهم السّلام، وَكَرَامَاتِ الإِمامِ عليٍّ عليه السّلام بَاذِراً فِيْهِمْ بَذْرَةَ الوَلاَءِ، فَيَكْثُرُ أتْبَاعهُ، وَتَعُمُّ آرَاؤُهُ كُلَّ هَذِهِ المَنْطِقَةِ المَعْرُوفَةِ اليَوْمَ بِاسْمِ «جَبَلِ عَامِل» وَالتِي أخْرَجَتْ مِنَ العُلَمَاءِ وَالفُقَهَاءِ مَا لاَ يُحْصَى. وَمِنَ الآثارِ البَاقِيَاتِ، وَالدَّلاَلاَتِ الوَاضِحَاتِ عَلَى ذَلِكَ، مُقَامٌ لِهَذا الصَّحَابِيِ الجليلِ في «الصَّرَفَنْدِ » على ساحل المتوسِطِ، جَنُوبِي لُبْنَانَ، وَمُقَامٌ لَهُ آخَرُ في «مَيْسِ الجَبَلِ» المُشْرِفَةِ على غَوْرِ الأرْدُنِّ. وَفي طولِ هَذِهِ البُقْعَةِ وَعَرْضِهَا كَانَ يَسْرَحُ أبو ذَرٍ..، يَنْشُرُ عِلْمَاً وَفِقْهَاً، وَيَزْرَعُ وَلاَءً.
وَيَسْتَبدَّ بِمُعَاوِيَةَ القَلَقُ وَقَدْ أعْيَتْهُ الحِيَلُ في أمرِ هَذَا الشَّيْخِ الجَلِيلِ الوَقُورِ وَالصَّحَابِيّ الكَرِيمِ، إنه سَيُقِيمُ الدُّنيا وَيُقْعِدُهَا، إن بَقِيَ على مِثْلِ هَذَا الْحَالِ، فَيَكْتُبُ إلى عثمان:
«إنَّكَ قَدْ أفْسَدْتَ الشَّامَ عَلى نَفْسِك بأبي ذرِ!... ».
فَيُجِيبُهُ: «أما بَعْدُ، فاحمِلْ جُنْدُبَاً على أغلَظِ مركب وَأَوْعَرِهُ ».
وَمَرَّةً ثَانِيَةً، يأمُرُ مُعَاوِيَةُ بأبي ذرٍ فَيُرَحِّلُهُ إلى المَدينَةِ مِنْ جَدِيدٍ.
وَيعْلَمُ أهلُ الشَّامِ، فَيَلْحَقُونَ بِرَكْبِ صَاحِبِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مودِّعينَ حتَّى انتهوا خَلفَهُ إلى «دَير المُرَّانِ» وَقَدَّمُوه فَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ وَقَفَ فيهم خَطِيبَاً مُودِّعَاً فَأَوْصَاهُمْ بالوَحْدَةِ والتَّمَسُّكِ بِعُرَى الإِسْلاَمِ وَمَبَادئِهِ، وَطَلْبِ رِضَى الله وَحْدَهُ دونَ سِواهُ، وَالبراءةَ مِنَ الظَّالِمين. وَوَدَّعَهُمْ وانصَرفَ.. تَحْمِلُهُ ـ كَما تَقول بعض الرِّوَايات ـ نَاقَةٌ عَجْفَاءَ (أي هزيلة) دون قَتَبِ (مَا يوضع على ظهر الناقة، كالسرج على الحصان). حتَّى قَدِمَ المَدِينَةَ، وَقَدْ سَقَطَ لَحْمُ فَخِذيْهِ من الجُهْدِ والإِعْيَاءِ وَمَشَقَّةِ الطَّرِيقِ، والمَرْكَبِ الخَشِنِ الوَعْرِ وَالسَّفَرِ الطَّويلِ!...
وَكَعَادةِ أبي ذرٍ، في المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ، كَمَا في غَيْرِهَا، لاَ يَدَعُ صَاحِبُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مُنَاسَبَةً تَمُرُّ إلاَّ وَذَكَّرَ الظَّالِمِينَ بِعَذَابِ الله وانتقَامِهِ، داعِيَاً المُسْلِمِينَ إلى البراءةِ مِنْهُم وَعَدَمِ إطاعَتِهِم.. هَاتِفاً بِفَضَائِلِ أمير المؤمنينَ عليّ عليه السّلام في كُلِّ سَاحٍ وَنادٍ. وَلْنَسْتَمِعْ إلى بَعْضِ أقوالِهِ في مُنَاسَبَاتِ ثَلاَثٍ:
• ينما كَانَ عبدُ الله بنُ عباسٍ على شَفِيرِ زَمْزَمُ يُحَدِّثُ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإذا بأبي ذَرِ
يَكْشِفُ العَمَامَةَ عن وَجْهِهِ قائِلاً:
أيها الناسُ، مَنْ عَرَفَنِي فَقد عرفني، وَمَنْ لم يعرِفْني فأنا جُنْدُبُ بنُ جُنادَة، أبو ذر الغِفَاري، سَمِعْتُ رَسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بِهَاتَين (وأشار إلى أذُنَيهْ) وَإلاَّ فَصُمَّتَا، وَرَأَيْتُهُ بِهَاتَين (وأشار إلى عَيْنَيْهِ)، وإلاَّ فَعَمِيَتَا، يقول:
«عليٌ قائِدُ البَرَرَةِ، وَقَاتِلُ الكَفَرَةِ، منصورٌ مَنْ نَصَرَهُ، مَخْذُولٌ مَنْ خَذَلَهُ ».
وَسُمِعَ وَهُوَ آخِذٌ بِبَابِ الكَعْبَةِ ينادي: «أيها الناسُ! مَنْ عَرفَني فَأنا مَنْ عَرَفْتُمْ، وَمَنْ أنكَرَني فأنا أبو ذرٍ.. سمعتُ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقولُ:
«ألا إِنَّ مَثَلَ أَهْلِ بيتي فيكم مَثَلَ سفينة نوحٍ.. مَنْ رَكِبَها نجا، وَمَنْ تَخَلَّفَ عنْها غَرِقَ ».
وَيَقِفُ أمام مَسْجِدِ رَسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هَاتِفَاً بِأعْلَى صوتِهِ:
أيها النَّاسُ! مَنْ عَرَفَني، فَقَدْ عَرَفَني...
أيَتُها الأمَّة المُتَحَيِّرَةُ، أما لو قَدَّمْتُمْ مَنْ قَدَّمَ الله، وَأخَّرْتُمْ مَنْ أخَّرَ الله، وَأقْرَرْتُمْ الوَلاَيَةَ وَالوِرَاثَةَ في أهلِ بَيتِ نَبِيِّكُم، لأكَلْتُمْ مِنْ فوقِ رؤوسِكُمْ وَمِنْ تَحْتِ أقدامِكُمْ (إشارَةً إلى خَيْراتِ الأرضِ وَبَرَكَاتِ السَّمَاءِ)، فَأَمَّا إذا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ، فَذُوقُوا وَبَالَ أمرِكُم، وَسَيَعْلَمُ الذينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلبونَ .
وَيَعْلَمُ عثمان بِذَلِكَ كُلِّهِ. فَأَيُّ ثَورةٍ هَذِهِ الّتي يَدْعُو إليها الصَّحابي أبو ذرٍ الغِفاري؟ وَيَأْمُرُ بأبي ذر، فَيَمثُلُ بَيْن يَدَيهِ وَيُواجِهُ الصَّحابيُ الجليلُ عثمانَ بِمَا يَحْدُثُ، عَلِمَ بِذَلِكَ أَمْ لَمْ يَعْلَمْ. وَيُحَذِّرُهُ بَطْشَ الله، وَعَذَابَهُ، وَيَثورُ بَينَهما جَدَلٌ عنيفٌ، فَيَغْضَبُ عثمانُ وَيَعلو صوتُهُ، ويدورُ بينَهما هذا الحِوارُ:
عثمان: أُخْرُجْ عَنَّا مِنْ بِلاَدِنَا!
أبو ذَرٍ: فَأيْنَ أخْرُج ؟
عثمان: حَيْثُ شِئْت!.
أبو ذر: أخرُجُ إلى مَكَةَ مُجَاوِراً الحَرَم.
عثمان: لا.
أبو ذر: أخرجُ إلى الشَّامِ، أرضِ الجِهَادِ.
عثمان: إني جَلَبْتُكَ من الشَّامِ لِمَا قَدْ أفْسَدْتَهَا، أَفَأَرُدُّكَ إليْهَا ؟!
أبو ذر: أَخْرُجُ إلى البَصْرَةِ.
عثمان: «لا!. وَلَكِنِّي مُسَيِّركَ إلى الرَّبْذَةِ».
أبو ذر: الله أكْبَرُ!.. صَدَقَ رَسُولَ الله، قَدْ أخْبَرَنِي بِكُلِ مَا أنا لاَقٍ!
عثمان: وَمَا قَالَ لَكَ ؟
أبو ذر: أَخْبَرَنِي بِأَني أُمْنَعُ مِنْ مَكَّة والمدينةِ وَأموتُ بالرَّبْذَةِ، وَيَتَوَلَّى مُوَارَاتي (أي دفني) نَفَرٌ مِمَّنْ يَرِدونَ العِراقَ نَحْوَ الحِجَازِ!.
وَيُغَادِرُ أبو ذَرٍّ مَجْلِسَ عثمان غَضِباً. وَيَأْمُرُ عُثْمانُ فَنُودِيَ في النَّاسِ ألاَّ يُكَلِّمَ أحَدٌ أبا ذَرٍ، وَلاَ يُشَيّعَهُ. وَكَلَّفَ مَرْوانَ بْنَ الحَكَمِ )طريدَ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم( أن يَخْرُجَ بِهِ، فَخَرَجَ، وَقَدْ تَحَامَاهُ (أي: تحاشاهُ) الناس، إلاّ: عَلِيّاً وأخاهُ عقِيلاً وابنَيْهِ الحَسَنَ والحُسَينَ، وَحَواريَّه عَمَّارَ بنَ ياسِر.
وَيَخْرُجُ المَوْكِبُ المُتَواضِعِ من المدينَةِ، والجَميعُ مُطْرِقُ الرأْس صَامِتٌ، كَموكِب جَنَازَةٍ، وَقَد خَيَّمَ الحُزنُ والأسى على هَؤلاَءِ المودِّعين جميعاً.. وَيَنْتَهِي المَوْكِبُ إلى خارِجِ المَدِينَةِ، فَيَتَوَقَّفُ للوَدَاع!
وَيَتَوَجَّهُ الإِمامُ عليٌ عليه السّلام بكَلاَمِهِ إلى أخيهِ أبي ذرٍ قائِلاً:
«يَا أبا ذرٍ، إنكَ غَضِبْتَ لله، فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ، إنَّ القَوْمَ خَافُوكَ عَلى دُنْيَاهُمْ، وَخِفْتَهُمْ عَلى دِيْنَكَ، وَسَتَعْلَمُ مَنْ الرَّابحُ غداً!.. لاَ يُؤْنِسَنَّكَ إلا الحَقُ، وَلاَ يُوحِشَنَّكَ إلا البَاطِلُ! »
ثُمَّ يَلْتَفِتْ الإِمام إلى عقيلٍ أخيهِ، قائِلاً: ـ وَدِّعْ أخاكَ!...
فَقَالَ عَقِيل: «مَا عَسَى أن نَقُولَ يَا أبا ذرٍ، وَأنْتَ تَعْلَمُ أنَّا نُحِبُّكَ وَأنتَ تُحِبُّنَا، فَاتَّقِ الله؛ فَإنَّ التَّقْوى نَجَاةٌ، وَاصبِرْ؛ فَإنَّ الصبرَ كَرَمٌ! »
وَيُشِيرُ الإِمامُ إلى وَلَدَيْهِ: الحَسَنِ والحُسَينِ، أنْ وَدِّعَا عَمَّكُمَا!
فَقَالَ الحَسَنُ: «يَا عَمَّاه، لَوْلاَ أَنَهُ لاَ يَنْبَغي للمُوَدِّع أَنْ يَسْكُتَ، وَلِلْمُشَيَّعِ أَنْ يَنْصَرِفَ، لَقَصُرَ الكَلاَمُ، وَإنْ طَالَ الأسَفُ، وَقَدْ أتى القَوْمُ إلَيْكَ مَا ترَى. فَضَعْ عَنْكَ الدُّنْيَا! »
ثُمَّ تَكَلَّمَ الحُسَيْنُ، قَالَ: «يَا عَمَّاه، إنَّ الله قَادِرٌ أن يُغَيِّرَ مَا قَدْ يَرَى، وَالله كُلَّ يَوْمٍ هُوَ في شَأْنٍ، وَقَدْ مَنَعَكَ القَوْمُ دُنْياهُمْ، وَمَنَعْتَهُمْ دينَكَ، فَمَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ، وَمَا أحْوَجَهُمْ إلى مَا مَنَعْتَهُمْ! ».
ثُمَّ تَكَلَّمَ عَمَّارٌ مُغْضِباً، قَالَ: «لاَ آنَسَ الله مَنْ أوْحَشَكَ، وَلاَ آمَنَ مَنْ أَخَافَكَ أَمَا وَالله، لوْ أَرَدْتَ دُنْيَاهُمْ لأَمَّنُوك، وَلَوْ رَضِيْتَ أَعْمَالَهُمْ لأحَبُّوكَ! ».
فَبَكَى أبو ذَر رَحِمَهُ الله، وَكَانَ شَيْخَاً كَبِيراً، وَقَالَ: «رَحِمَكُمُ الله يا أهْلَ بَيْتِ الرَّحْمَةِ، إذا رَأَيْتُكُمْ ذَكَرْتُ بِكُمْ رَسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. مَا لِي بِالْمدينَةِ سَكَنٌ وَلاَ شَجَنٌ غَيْرُكُمْ. إني ثَقُلْتُ عَلى عُثْمَانَ بِالْحِجَازِ، كَمَا ثَقُلْتُ عَلى مُعَاوية بِالشَّامِ،... فَسَيَّرَني إلى بَلَدٍ لَيْسَ لي بِهِ نَاصِرٌ وَلاَ دافِعٌ إلاّ الله. والله، ما أُرِيدُ إلاّ الله صَاحِباً وَمَا أخْشَى مَعَ الله وَحْشَةً! ».
وَتَابَعَ أبو ذرٍ طَريقَهُ، وَقَفَلَ الإِمَامُ وَمَنْ مَعَهُ عَائِدِينَ، وَلِسانُ حَالِ كُلٍ مِنْهُمْ يقولُ:
ـ وَداعاً يَا أبا ذر!... الموعِدُ الجَنَّةُ!... فَبُعَدَاً لِلْقومِ الظالمينَ!...
وَيَصِلُ أبو ذرٍ إلى «الرَّبْذَةِ» مَعَ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ
. والكُلُ ضَعيفٌ عَليلٌ.
لَقَدْ فَقَدَ صاحِبُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أولاَدَهُ الثَّلاَثَةَ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلاَّ هذه البُنَيَّةَ الهزيلةَ، والزَّوْجَةَ التي أصابَتْهَا الضَّرَّاءُ، فَبَدَتْ شَاحِبَةً مُمْتَقِعَةً، وَكَأَنها خَارِجَةٌ مِنَ القَبْرِ!
وَيَسْمَعُ أهْلُ مَنْطِقَةِ الرَّبَذَةِ بِالصَّحَابي الجَليلِ يَنْزِلُ في جِوارِهِم، فَيَتَوافَدونَ إليه وَيَرَوْنَ مَا أصابَهُ مِنَ ضَعْفٍ وَهُزالٍ شَديدَينِ، وَشحوبٍ، فيقولونَ لَهُ:
ـ يَا أبا ذرٍ، مَا تَشْتَكي؟.
قال: ذُنوبي!
قالوا: فَمَا تَشْتَهي؟
قالَ: رَحْمةَ ربي!
قالوا: هَلْ لَكَ من طَبيبٍ؟
قال: الطَّبيبُ أمْرضَني.
فَينصرفون عنه يائسين، فَصَاحِبُ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يَعيشُ في عَالَمِهِ الخاصِّ.. عَالَمِ السَّماءِ بعيداً عَنْ عَالمِ المادَّة والأرضِ والتراب!
عن جَلاَّمِ بنِ ذَرِّ قال: «لما حَضَرَتْ أبا ذرٍ الوَفاةُ، قَال لامْرَأَتِهِ: اذبَحي شَاةً مِنْ غَنَمِكِ واصنَعيها، فإذا نَضَجَتْ، اقعُدي على قارِعَةِ الطَّريقِ، فأَوَّلُ رَكْبٍ تَرَيْنَهُم، قُولي:
ـ يَا عِبَادَ الله المسلمينَ، هَذَا أبو ذَرٍّ صَاحِبُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وَقَدْ قَضَى نَحْبَهُ وَلَقِيَ رَبَّهُ، فَأعينوني عَلَيْهِ، وَأجِنُّوه (أي: ادفنوه (.
فَإِن رَسولَ الله صلّى الله عليه وآله أخبرني أَني أموتُ في أرضٍ غَرِيَبةٍ، وَأنَّهُ يَلِي غُسْلي وَدَفْني والصَّلاَةَ عَلَيَّ، رِجَالٌ من أمَّتِهِ صَالِحُون ».
فَقَالَتْ: وَأينَ بالرِجَالِ وَقَدْ مَضَى مَوْسِمُ الحَجِّ والأرضُ صَحْرَاءَ ؟!
وَإذا بِرِجَالِ!.. فَقَالَتْ لَهُمْ مَا أمَرَها بِهِ. وَنَظَرَ الرِجَالُ بَعْضٌ إلى بَعْضٍ وَحَمَدوا الله على الأجْرِ الذي سَاقَهُ إليهِمْ، ثُمَّ أقْبَلُوا مَعَهَا وَتَعاوَنوا عَلَى غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ. وَتَقَدَّمَ مَالِكُ الأشْتَرُ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ دُفِنَ، وَقَامَ الأشْتَرُ عَلَى قَبْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: اللهمَّ هَذا أبو ذَرٍّ، صَاحِبُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.. عَبَدَكَ في العابِدينِ، وَجَاهَدَ فيكَ المُشْرِكينَ، لَمْ يُغَيِّرْ وَلَمْ يُبَدِّلْ.. لَكنَّهُ رأى مُنْكَراً فَغيَّرهُ بِلِسانِهِ وَقَلْبِهِ حتّى جُفِيَ وَنُفِيَ، وَحُرِمَ واحتُقِرَ، ثُمَّ ماتَ وَحيداً غَريبَاً! ثُمَّ دَعا لَهُ، فَرَفَعَ مَنْ مَعَهُ أيْدِيَهُمْ قائِلينَ: آمين!
وَأَجَابَ صوتٌ عميقٌ، كالصَّدى وكأنه آتٍ من جَوْفِ الصَّحْراءِ، أو كَبِدِ السَّماءِ: آمين!

 


Back Home Nextto Homego to top of page