يرد في قصة تأسيس بغداد عاصمةً (145 هـ) أن مؤسسها أبا جعفر المنصور (ت 159 هـ) نزل ببيعة قسٍ، وسأل راهباً في الصَّومعة، عمَّا
يعتقدونه مِنْ تأسيس مدينة هناك فأكد له الخبر (الطَّبري، تاريخ الأمم والملوك). ما نريد قوله أن بغداد كانت موجودة، واسمها
الآرامي أو السِّرياني بغدادو (مدينة الضان أو الغنم) لا فارسي مثلما شاع عنها لدى القاموسيين. وكم مدينة عراقية مبدؤها بحرف
الباء، وهو اقتضاب للمفردة بيث أو بيت (فرنسيس وعود، أُصول أسماء الأمكنة العِراقية، سومر 1952). وأقول: مِنْ حق المنصور، مؤسسها
كحاضرة، أن تكون له ذكرى ببغداد، لكن لنزعة خارجة عن المعقول، أُزيلت، والمخاوف واجبة مِنْ إزالة اسم شارع الرَّشيد نفسه، ذلك
عندما يُحاكم التَّاريخ بروح عصابية!
أقول: بغداد كانت موجودة، اسماً وريفاً وأديرة وسوقاً اسمه "الثُّلاثاء" (الحموي، معجم البلدان) قبل اتخاذها عاصمة لإمبراطورية
شاسعة الآفاق، أما دواعي تأسيسها الأول فنجده في ما قاله حكماء: المدن «تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة» (التَّوحيدي،
الإمتاع والمؤانسة)، وبغداد بنيت على الماء العذب، ماء دجلة، وبهذه الخاصية نشأت مدينة متسامحة تقبل الأضداد.
وإذا أردنا تعدد ثنائياتها بين الدَّين والدُّنيا ما وفى المقال: أبو نواس (ت 198 هـ)، وكلُّ ما في شعره مِنْ حياة ومتعة ومعروف
الكرخي (ت 200 هـ) وكلُّ ما فيه مِنْ زهد وورعٍ. أبو حيان التوحيدي (ت 414 هـ)، كلُّ ما في كتبه مِنْ قيمة أدبية خارجة عن الورع
وما يشترطه الفقه، وما صنفه الشَّيخ المفيد (ت 413هـ) الفقيه العابد. وإذا اشتهرت بغداد بكتب الجاحظ (ت 255 هـ) والتَّوحيدي اشتهرت
أيضاً بجمع كتاب "نهج البلاغة" على يد الفقيه الشَّاعر الشَّريف الرَّضي (ت 406 هـ).
ذلك التَّأسيس وتلك الثُّنائيات جعلت بغداد لا تقبل سوى التَّعدد، تعدد ديانات ومذاهب سكانها واختلاف عقائد متكلميها، مساجدها
وكنائسها، ورع الفقهاء ومخيلات الشُّعراء. ابن الحجَّاج (ت 391 هـ) في شعره، والسِّري الرَّفاء (ت 362 هـ) في موسوعته "المحب
والمحبوب والمشموم والمشروب"، يقابلهما ما صُنف فيها مِنْ تفاسير القرآن وما جمع مَنْ حديث، وصنف في الأحكام السُّلطانية والخراج
والحسبة، والتواريخ ومعاجم الرِّجال، كلها توافرت لها ببغداد فرصة القبول والانتشار. لم تمنع حانات بغداد القديمة ومدارس الموسيقى
فيها، ومطرباتها ومطربوها، كبار الفقهاء التقاة مِنْ قصدها والنَّهل مَنْ مدارسها الفقهية، وهي لا تعد ولا تحصى. كلٌّ يسعى إلى
مقصده.
ويُذكر أن المحتسب ابن الأخوة (ت 729 هـ) كان يُعاقب على حفظ شعر ابن الحجاج، قال: "ينبغي أن يمنع الصِّبيان مِنْ حفظ شيء (هكذا)
مِنْ شعر ابن الحجاج، والنَّظر فيه" (معالم القربة في أحكام الحسبة). لكن لم يمنع هذا أديبين فقيهين مِنْ جمع شعره. جمعه
الأسطرلابي (ت 539 هـ) في "درَّة التَّاج مِنْ شعر ابن الحجَّاج"، وابن نباتة (ت 768 هـ) في "تلطيف المزاج مِنْ شعر ابن الحجَّاج".
يغلب على ظني أن مجلس محافظة بغداد، الخالي مِنْ البغاددة الأُصلاء في مواقع التَّنفيذ والتَّشريع، ما تمكنوا مِنْ حِسن القول في
قبة علي بن أبي طالب مثل قول ابن الحَجَّاج فيها: "يا صاحب القبة البيضاء في النَّجف.. مَنْ زار قبرك واستشفى لديك شفي". أذكر هذا
لأن المجلس تلفع بعباءة صاحب القبة البيضاء، وكانت بيضاء قبل تذهيبها، بهجومه على أتراب الشَّاعر في دارهم اتحاد الأدباء. ولعلنا
نعتبرها مفارقة إذا علمنا أن ابن الحجَّاج كان محتسباً، لكنه لم يكذب على نفسه ويسير ببغداد خلاف طبعها الذَّي تأسست عليه.
لقد اختلطت في مقابر بغداد الأجداث، معروف الكرخي دفن بديرٍ، عرفت مقبرته بـ"مقبرة باب الدَّير» (جواد وسوسة، دليل خريطة بغداد).
ودفن إلى جانبه كبار الفقهاء، عدَّ منهم الحموي (ت 626 هـ): أحمد المقرئ "وهو شيخ فاضل في الحنفية" (معجم الأدباء)، وإسماعيل
الصَّفار "وهو ثقة صام أربعة وثمانين رمضاناً" (نفسه)، وقيل دُفن هناك أبو نواس أيضاً. انظروا ما في تراب مقبرة الخيزران، أو أبي
حنيفة، أو الأعظمية، ماذا حوت مِنْ أجداث مختلفة، لمَنْ كان يشرب النبيذ ومَنْ كان يحرمه، مَنْ كان يتهتك بشعره، ومَنْ كان يتشدد
بالحسبة.
أذكر بممارسة لمعروف الكرخي، وهذا الزَّاهد، لا تختلف حوله المذاهب ولا الأديان، وكأن الكلَّ اجتمع فيه، فهو الصَّابئي مِنْ أهل
واسط، وقيل المسيحي، وأسلم على يد إمام علوي، وكان يكرمه الإمام أحمد بن حنبل (ت 241 هـ)، فعندما نعته أحدهم بـ"قصير العلم" رد ابن
حنبل قائلاً: "أمسك! هل يراد مِنْ العلم إلا ما وصل إليه معروف" (ابن تغرى، النُّجوم الزَّاهرة). دققوا وتأملوا في ممارسة هذا
الذَّي تكرمه المذاهب والأديان كافة.
قال القشيري (ت 365 هـ): "سمعت إبراهيم الأطرش يقول: كنا قعوداً ببغداد مع معروف الكرخي على نهر دجلة، إذ مرَّ بنا قوم أحداث في
زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون، فقلنا لمعروف: ألا تراهم كيف يعصون الله مجاهرين؟ أدع الله تعالى عليهم، فوضع يديه وقال: إلهي
كما فرحتهم في الدُّنيا ففرحهم في الآخرة، فقلنا: إنما سألناك أن تدعو عليهم..." (الرِّسالة القشيرية). ما قال ذلك الكرخي إلا
اعترافاً بطبيعة بغداد، فمَنْ تعصب فيها قد يأت يوم لا يسمح له بالوضوء على شاطئ دجلة، إلا على مذهبه!
لو قرر حاكم ما أن يفتح دار سينما بالنَّجف مثلاً لكنت أول المعارضين له، والمحرضين ضده، لماذا لأن النَّجف نشأت حول ضريح، وقيمتها
بمسحتها الدِّينية، وورعها الظَّاهر، فلا يجوز التَّجاوز على طبائع المدن، فالمدن مثلها مثل الأبدان والنُّفوس، لكني أعلم كم مِنْ
النَّجفيين يخفون ما لا يبيحه تدين مدينتهم، فما سمعتُ وما قرأت في كتاب أن مرجعاً دينياً قاد عصابة وكسروا باب دكان أو منزل. وهذا
هو سبب كبرياء المدينة، ومتانتها فقهاً وأدباً.
أما بغداد فما يريده لها مجلس محافظتها أن ينزع عنها طبع ألفي عام ويزيد، تنزع عنها الدُّهور التَّي سمحت للتوحيدي بكتابة
"الرِّسالة البغدادية"، وسمحت للرَّضي أن يجمع "نهج البلاغة"، في وقت واحد. إنها مدينة الاختلاف، لا طاعة لمَنْ يتجاوز على طبعها،
الذي أثراها في كل علم وفن. وللمقال صلة.
الاتحاد الاماراتية
عينـــاك يــا بغـــداد
منذ طفولتي
شمســان
نــائمتان فـــي أهـدابي
Back
to Home Page