Back Home NextBack to Subject-Page

 

فلسفة الوجود في ولادة الامام علي عليه السلام

آراء الكاتب

دراسة في فلسفة التاريخ
الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي

توطئة:
حاولنا في بحوث سابقة تحليل قضية ولادة الامام علي عليه السلام في البيت الحرام، وهي قضية طرحت على الدوام تساؤلا ليس على المستوى الاسلامي عامة او عبر فكر أهل البيت عليهم السلام خاصة ولكن من خلال الموقف الوجودي ككل، فهي بالتأكيد قضية تتجاوز المعاني المجردة لتدخل في تعلق الامر بالوجود والتكوين وعملية الخلق لاعتبارات الاين والكيف ومعايير التباين التي شكلت جزأ من السنن الالهية في الخلق.
من هنا لا يمكن إنكار تعلق الزمان والمكان بقضية الخلق وإلا لما إختار الله عزوجل كوكب الارض ليكون أحد مواضع تبيان عظمته الوجودية والتكوينية مع الاعتراف بأن كل موضع في مساحة هذا الكون اللامتناهي هو موضع لعظمة الله، ولكن سنة الاختصاص جعلت للارض خصوصية المكان، وكما اختار الله مواضع وأماكن وازمنة لظهور رسالات انبيائة ورسله فقد اختار مكة لتكون موضعا لولادة الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله وسيد اوصيائة الامام علي عليه السلام. وقد يقول قائل ولد في مكة الكثير من الناس قبل محمد وعلي عليهما السلام وولد بعدهما الكثير الكثير، ولكن اي من هؤلاء آتاه الله النبوة والرسالة وإختار له وصيا ووزيرا وخليفة هو علي بن ابي طالب كما إختار هارون لموسى عليهما السلام. أي من هؤلاء اصطفاه لخاتم رسالاته ولنهاية شرائعة على الارض وجعل له وصيا ليكون هاديا من بعده؟ ولتستمر رسالته وشرائعة حتى يوم الدين باعتبارها خاتمة الشرائع.

go to top of page   من السماء وحتى الارض:
تطرقنا في بحوث سابقة الى ان علاقة الانسان بالله عزوجل تتبع قاعدة (الجدل الصاعد) اي انها من الارض الى السماء كونها علاقة تعبدية من المخلوق باتجاه الخالق تعالى شأنه. أما فيما يخص الوجود والتكوين فهو من السماء الى الارض باعتبار ان الله عزوجل الخالق الاوحد وهو (واجب الوجود) وهو المطلق واللامتناهي والغير محدود بزمان ومكان.

أما الانسان فهو محتمل الوجود، ولكن هذا الاحتمال يخضع لسنن التفاضل إذ قال الحق سبحانه  (1):

 " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض "

وقال ايضا   (2):

 " وربك اعلم بمن في السماوات والارض

ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا ".

فاذا كان التفضيل الالهي يتناول الرسل والانبياء عليهم السلام فهو ايضا يشمل الذين يلوهم مرتبة كالاوصياء والحواريين، والامام علي عليه السلام سيد الاوصياء على لسان الرسول الخاتم   (3):

 " أنا سيد الانبياء وعلي سيد الوصيين،

وإن اوصيائي بعدي إثنا عشر أولهم علي وآخرهم القائم المهدي "

وهذا التفضيل والاختيار إنما هو اختيار الهي يؤكده قول الرسول الخاتم للامام علي عليه السلام:
" ما عرفك إلا الله وأنا، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرف الله، إلا أنا وأنت ". (4)
والحديث هنا يختص بكمال المعرفة ومطلق الادراك الذي لايكون لاحد من البشر إلا ان يكون معصوما منصوصا عليه من الله تعالى، وهذا المعرفة الكلية انما تكون بالوحي الالهي لا بالتعلم التدريجي.

go to top of page   ومن هنا تتحقق علاقة الامام علي عليه السلام بالله كونها علاقة معرفية، ولكن الله عزوجل اراد تبيان معاني هذه العلاقة من موقف وجودي ليكون ثمة ترابط تكويني بين الروحي والمادي في ولادة أمير المؤمنين الامام علي عليه السلام فجعلها في البيت الحرام (الكعبة) المشرفة ليؤكد لنا هذه الرابطة من خلال ايجاد التواصل المادي والروحي فالوجود التكويني للامام يمثل خطا بين السماء والارض من العرش الى البيت المعمور (في السماء السابعة) الى الضراح (في السماء الرابعة) الى البيت الحرام (على الارض)، فهل يمكن أن لا تتحقق رؤية السيدة فاطمة بنت أسد (رضوان الله عليها) في ولادة وليدها أسد الله الغالب علي بن ابي طالب عليهم السلام، أم لايستجاب لدعائها وهي سليلة ابراهيم الخليل عليه السلام؟ باني هذا البيت بامر ربه.

أفلا يكفيه عليه السلام فخرا وشرفا ومكانة علوية انه ولد في موضع جعله الله (مثابة للناس) ومزارا ومطافا لكل حاج ومعتمر كي يدرك الناس حقيقة الامام علي عليه السلام؟

ولكن ولادته عليه السلام لم تكن لتتخذ هذا الترابط لو لم يكن لها غرضا غير مجرد الولادة والخروج للحياة بالمفهوم (الفسيولجي)، ولكن الله اراد ان تكون لهذه الولادة قيمة عليا تتجاوز المادي فجعل وجود الامام علي عليه السلام إتماما للنعمة الالهية التي انزلها تعالى على نبيه الخاتم فقال  (5):

" ويتم نعمته عليك ".

وقال ايضا في اكمال الدين بولاية الامام علي عليه السلام التي نادى بها الرسول الخاتم في غدير خم   (6):

 "... أليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي... "

فالغاية اذن من ولادته عليه السلام ليست فقط الحضور للحياة والمشاركة في صناعة التاريخ، ولكن ليكون نعمة إلهية تتم بها نعم الله وتكتمل بها اركان الرسالة الخاتم وتتحقق من خلالها قضية (الجعل الالهي) في خلافة الانسان على الارض.

فبينما كان هبوط آدم عليه السلام تتعلق بمعاني إدراكية في فهم الامر الالهي، نجد أن ولادة الامام في البيت الحرام وهبوطة من رحم الصديقة الطاهرة (فاطمة بنت أسد) هبوطا من عالم التكوين الى عالم الوجود، وهي القائلة قبل دخولها للبيت الحرام : " ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب، ومصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وأنه بنى البيت العتيق، فبحق الذي بنى هذا البيت، وبحق المولود الذي في بطني لما يسرت علي ولادتي ". (7)
فهذه المرأة مؤمنة بالله مصدقة برسله وما انزله عليهم من كتب وشرائع، عارفة بحق جدها ابراهيم الخليل عليه السلام لتتوافر بها شروط حمل اتمام النعمة واكمال الدين ممثلة بوليدها الامام علي عليه السلام.

هذه المعاني لا تتوفر اعتباطا ولا تخضع لقانون الصدفة أو نظرية الاحتمالات، ولا يمكن أن تخرج خارج الاطر الالهية في عوالم الوجود والتكوين ولكنها معان تتنزل بها رسالات الله ليتحقق من خلالها المشروع الالهي.

go to top of page   حقيقة الولادة:
كنت قد كتبت بحثا في فلسفة ولادة الامام علي عليه السلام في البيت الحرام وفي هذا الجزء لا اكرر ما كتبت سابقا ولكن استكمل الفكرة إذ تكمن فلسفة ولادة الانبياء والرسل واوصيائهم بكونها ثورة تكوينية ووجودية تسعى لتغيير العالم والخروج به من ضحالة الانحرافات الفكرية، كما تسعى لاستنهاض الوعي الفردي للانسان والجمعي للمجتمعات والخروج بها من (الظلمات الى النور) بامره تعالى شأنه، من هنا ذكرنا ان ولادة هؤلاء ليست مجرد طبيعة بيولوجية أو كونها تفسير لفسلجة التكوين البشري، حيث اننا لا يمكن ان ننكر الطبيعة البشرية للانبياء والرسل واوصيائهم، ولهذا كانوا ياكلون ويشربون، ويجوعون ويتألمون، ويمرضون ويتشافون، وينكحون النساء ويتوالدون، ثم يموتون ويقبرون، لكن الطبيعة البشرية لا تنافي الاختيار الالهي والاختصاص السماوي لهؤلاء وتفضيلهم على باقي الخلق، ولأجل هذا وقع اختيار الله على هؤلاء من صلب ابيهم آدم عليهم السلام بل ان بعضم مفضل على بعض كما قدمنا وهنا يطرح تساؤل لماذا الامام علي عليه السلام؟

إن حقيقة ولادته في البيت الحرام تعكس حقيقته الظاهرية والباطنية في علاقته بالخالق عزوجل وقد يقول قائل كان الاولى ان يولد الرسول الخاتم هناك، وقد اجبنا على ذلك في بحثنا السابق (فلسفة ولادة الامام علي هليه السلام في البيت الحرام) وهي تتفق مع الاختيار الالهي له ليكون وصيا للرسول الخاتم ووليا واماما وحجة على الناس، من هنا كان أقتران ذكره بالقرآن الكريم في حديث الثقلين:

 (أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي)

 وهو عليه السلام رأس العترة المطهرة ومقدمها.

go to top of page   من هنا فان حقيقة ولادة أمير المؤمنين الامام علي عليه السلام إنما تكم في حقيقة استمرار الاسلام عقيدة وشريعة وتطبيقا، ولم تتحقق هذه الحقيقة بعد وفاة الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله إلا في عصر حكم الامام علي عليه السلام الذي شابه فترة حكم النبي الاكرم صلوات الله عليه وآله، وكنا ذكرنا في بحوث سابقة (بحوثنا في فلسفة التاريخ) ان الامامة والعصمة تمثل استيعابا كليا لحركة التاريخ باعتبارها موقفا الهيا يدعو الى الاستمرار بالعقيدة السماوية من خلال الوجود المستمر للائمة باعتبارهم حجج الله على خلقة بعد الانبياء والرسل.

وبناء على ذلك فان ولادة سيد الاوصياء والائمة أنما تأتي تحقيقا لهذا الامر باعتبار قوله تعالى لرسوله الخاتم   (8) :

" إنما أنت منذر ولكل قوم هاد "

وقد اشار العديد من رواة الحديث من غير الشيعة الى انها في الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله فهو (المنذر) الامام علي والامام علي عليه السلام فهو (الهادي). (9).

إذن القيمة الفعلية للولادة المباركة إنما تكمن في الاستمرار بالرسالة وتطبيقها وخاصة انها الرسالة الخاتم فلا نبوة بعد محمد صلوات الله عليه وآله مما يعني الحاجة المستمر للبشرية الى الهداة والذين لا يمكن ان يكونوا إلا مختارين من الله عزوجل منصوص عليهم باعتبار ان الامامة ممثلة للنبوة على الارض كي يكتمل مشروع خلافة الله (الجعل الالهي) التي ارادها لاستمرار الشريعة الخاتم.
...................................
1- البقرة/253.
2- الاسراء/55.
3- رواه سليمان بن ابراهيم الحنفي القندوزي (ت 1294هـ). راجع ينابيع المودة:3/104.
4- راجع المختصر: 125، 165، إرشاد القلوب: 2/209، المناقب: 267، ومشارق انوار اليقين للبرسي: 201.
5- الفتح/2
6- المائدة/3.
7- راجع علل الشرائع: 1/135 الحديث/3.
8- الرعد/7.
9- راجع المستدرك للحاكم 3/129، كنز العمال 1/251، ومجمع الزوائد/7/41.

الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
Dr-albayati50@hotmail.co.uk
المملكة المتحدة – لندن
9 /تموز / 2010
Back NextBack to Home Pagego to top of page