الغدير وفلسفة التكامل الحضاري
دراسة في فلسفة التاريخ
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.co.uk
توطئة:
يؤسس القرآن الكريم لغائية التاريخ الاسلامي من منظور التكامل الموضوعي والتطبيقي للشريعة الالهية الذي يتحقق في المستقبل عبر حركة التاريخ، وقلنا انه يتحقق في المستقبل باعتبار ان
المجتمع البشري في تطور مستمر، فالتحول التاريخي للبشرية على الارض ابتداء من آدم عليه السلام وحتى نهاية التاريخ قد مر بعدة ادوار مثل كل منها مرحلة تأسيسية للتي ستأتي، وقد اشرت
خلال دراساتي السابقة لتصوري التاريخي لتسلسل الادوار والتي يؤسس كل منها للدور الذي يليه:
-
الدور الاول: دور الهبوط: ويتمثل بهبوط آدم وزوجه حواء عليهما السلام الى الارض ويمكن ان أطلق عليه ايضا دور التأسيس. وقد قالى تعالى: "قلنا أهبطوا
منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون"(1).
-
الدور الثاني: دور الفطرة: وهي مرحلة كان الناس فيها أمة واحدة: " فاقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله". (2)
-
الدور الثالث: دور النبوات: " كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وانزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما
اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جائتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه بإذنه والله يهدي من يشاء الى صراط مستقيم ". (3)
-
الدور الرابع: دور التكامل: وينقسم الى مراحل:
-
الاولى: تبدأ بختم الرسالة للنبي الخاتم محمد (صلوات الله عليه وآله) حيث تكتمل الشريعة وحيا: " اليوم اكملت لكم دينكم ".
-
الثانية: تكامل الشريعة تطبيقا عبر الامامة، (إتمام النعمة): " (وأتممت عليكم نعمتي). ابتداء من الامام علي عليه السلام وحتى يتكامل التطبيق عبر الائمة
عليهم السلام إستمرارا إلى الامام المهدي عجل الله فرجه.
-
الثالثة: ختم تكامل الشريعة تطبيقا بظهور الامام المهدي عليه السلام، حيث سيؤسس للتطبيق الفعلي للشريعة الاسلامية بما يشمل الانسانية ككل تحقيقا لقوله
تعالى: " ونريد ان نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين " (4). فالوراثة هنا ليست وراثة إرثية فقط (باعتبار الائمة هم اسباط الرسول الخاتم صلوات الله
عليه وعليهم) ولكنها بالمعنى الالهي وراثة عقائدية تشريعية في آن، تنحو نحو تطبيق الشريعة الاسلامية وفق الاسس الالهية لها باعتبار ان الامامة تمثل استيعابا كليا لحركة التاريخ،
ولانها الشكل الوحيد لمفهوم استمرار عقيدة الرسالة الخاتم.
البيعة ووعي الامة:
أسست بيعة الغدير منظومة فكرية وحضارية لصيرورة الامة عبر التكامل التشريعي والحضاري للرسالة الخاتم، فالصياغة الالهية لبيعة الغدير تتأسس بوجوب التبليغ، وجوبا يوازي ثقل
الرسالة الخاتم ذاتها: " يا ايها الرسول بلغ ما انزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لايهدي القوم الكافرين " (5).
من جانب آخر يؤكد هذا التأسيس على استنهاض وعي الامة عبر التأكيد على أرتباطها بالامامة كأرتباطها بالرسالة سواء بسواء، وعندها فقط يتحقق اكتمال الوحي، وتكون خاتمية الرسالة: "
اليوم اكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ". (6) وما حديث الثقلين : " أني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي " إلا تفسير تطبيقي لعلاقة العترة
بالكتاب ولحركة التكامل باتجاه مستقبل الامة.
من هنا يتضح ان بيعة الغدير تمثل أحد أسس المشروع الحضاري للرسالة الخاتم، فاختتام الرسالة لا يمثل نهاية علاقة الامة بالسماء، ففك ارتباطها سينهي قيمة
الرسالة الخاتم كأمر ممتد حتى نهاية التاريخ، ومن هنا ستمثل الامامة الحركة المستمرة للوعي باتجاه المستقبل وبها وحدها يصبح للتقدم معنا واقعيا.
لاشك ان العقيدة الاسلامية حررت العقل من النظرة التجزيئية لعلاقة الانسان بالواقع، تلك النظرة التي حكمت العقلية الجاهلية مما منع العقل العربي من ان
يتخذ موقفا عقلانيا تجاه المستقبل، فختم الرسالة كان تحديا للعقل الانساني بانفصاله عن الوحي المباشر، غير ان ارتباط العقل بعقيدة الامامة كرؤيا مستقبلية لعلاقة الوحي بالامة مكنها
من تحدي الواقع والتطلع للمستقبل عبر الانتظار والذي كانت بيعة الغدير احدى اهم مراحله التأسيسية، كما انها وضعت الامة أمام مسؤولية إستحضار المستقبل ذهنيا ليتنامى الادراك بحقيقة
الواقع المتغير، فلو رفضت الامة فكرة التغيير بمعنى الانتقال من عصر الوحي الى عصر الامامة، فانها ستفقد حيويتها وقدرتها على الاستمرار في ضوء خاتمية الرسالة وانقطاع الوحي وهذا ما
عانت منه كل المذاهب والمدارس الفكرية التي رفضت مبدأ الاجتهاد، أو انقطعت عنه مما اوجد انحطاطا في فهم الحقيقة المستقبلية للاسلام وجمودا فكريا ادى الى ظهور بعض تلك المذاهب.
من هنا ندرك قيمة بيعة الغدير كمنهج يرسم مستقبل الامة، ويرفع عن كاهلها أعباء البحث عن بدائل بعد أن بين القرآن الكريم البدائل، وكشف حقيقة حركة
التاريخ بعد الرسالة الخاتم ممثلة بالامامة كمشروع الهي يقود الامة نحو المستقبل.
حركة التكامل الحضاري:
لا يمكن اعتبار ان المشروع الحضاري للرسالات السماوية لم يتحقق ابدا، إذ ان النبوات والرسالات كانت بحد ذاتها مشاريع حضارية في طور تحقيق خلافة الانسان على الارض: " وإذ قال ربك
للملائكة إني جاعل في الارض خليفة ". (7) كما انها شكلت جزءا حيويا من تكامل علاقة الانسانية بالسماء، فقد استطاعت الشرائع السماوية ان تلبي حاجات الافراد والمجتمعات في كل عصر بما
يتوافق مع طبيعة المجتمعات وخصوصياتها عبر حركة التاريخ.
من هنا ايضا فان تقدم الانسانية باتجاه المستقبل لا يمنع من النكوص المرحلي وتخليها عن الهدف المستقبلي بوجود الدوافع السلبية ممثلة بتبني الافراد
والمجتمعات لمثل دنيا واحلالها محل المثل العليا ( رفض الرسالات السابقة) ثم (التخلي عن الامامة ومحاربتها ومنع تطبيق الشريعة)، فالحكم الالهي في معالجة النكوص كان يتم بارسال
المزيد من الرسالات لاستنهاض وعي الامم وليكون الانبياء والرسل مبشرين ومنذرين، غير ان التقدم بحد ذاته لا يجب ان يكون عبئا حيث ان الشرائع تناسبت واحتياجات كل عصر، في ضوء تنامي
القواعد التشريعية في كل رسالة باعتبار ان الشرائع التي انزلت على النبيين الاوائل كانت ابسط من تلك التي انزلت على موسى عليه السلام ومن بعدها الشريعة الاسلامية التي انزلها الله
على نبيه ورسوله الخاتم (صلوات الله عليه وآله) لتكون ناسخة لما قبلها ومهيمنة عليها، ووفق هذه الرؤية يمكن فهم فلسفة الغدير كقيمة مستمرة تتبنى مثلا عليا في المنهج الحضاري
المستقبلي باعتبارها جزءا اصيلا من حركة الرسالة الخاتم، مما يعني انها مثلت تأصيلا تاريخيا وتشريعيا للتكامل باتجاه واقع الامة ومستقبلها.
هل إنتهت مهمة الغدير؟:
ربما يتصور بعض فلاسفة التاريخ أن مهمة الغدير انتهت بالبيعة للامام علي (عليه السلام) بقبول البعض لها وانكار البعض الاخر، باعتبار ان مهمتها كانت تعيين الامام علي وليا
وخليفة وفق النص الالهي والنبوي، من خلال اقترانه وأهل البيت عليهم السلام بالقرآن ليكونوا عدولا للكتاب العزيز، وبذلك تنتهي مهمة الغدير تاريخيا سواء كان تطبيقها أو رفضها سيغير
علاقة الامة بالعقيدة أم لا حسب النظرة التجزيئية التي اعتادها العقل العربي قبل الرسالة.
لا شك ان فهمنا لقيمة الغدير كحالة مستمرة هو نتاج لاعتبارها جزء من صيرورة الامة وهي احد عناوين استمرارها، كما انها تمثل مشروعها المستقبلي في ادارة
الحياة. أما رفضها من قبل البعض ومحاولة تحريف قيمها ومعطياتها من البعض الاخر فلا يغير من حقيقتها التاريخية، كما انه لا يزحزحها عن موقعها العقائدي والتشريعي في التأصيل لمستقبل
الامة.
فمهمة الغدير تكمن في حفاظها على حيوية الامة رغم حالات النكوص المستمر وتخليها عن مشروع الامامة تاريخيا. ولعل اهم ما دعت اليه بيعة الغدير هو ضمان
البعد المستقبلي للامة من خلال الارتباط الوثيق بين العترة والكتاب واستمرار هذا الارتباط حتى يردا الحوض. " إني أوشك أن ادعى فاجيب وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل ممدود من
الارض الى السماء وعترتي أهل بيتي وإن اللطيف الخبير، أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة فانظروا بما تخلفوني فيهما ". (8)
لقد حقق يوم الغدير ثلاث عناصر اساسية في حركة التاريخ البشري بشكل عام والاسلامي بشكل خاص ليقدم معنا واقعيا للتكامل:
-
العنصر الاول: شهد هذا اليوم التنصيب الالهي للامام عليا (عليه السلام) وليا وخليفة من الله عزوجل.
-
العنصر الثاني: تم فيه ختم الرسالة (أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي).
-
العنصر الثالث: حدد مستقبل الامة بالارتباط التاريخي والعقائدي والتشريعي بين العترة والكتاب (القرآن العزيز).
وقد مثلت هذه العناصر اهم الابعاد التي جاء حدث الغدير من أجلها، مما يؤكد من جانب آخر عمق وصعوبة المهمة التي واجهها الرسول الخاتم (صلوات الله عليه
وآله) في ذلك اليوم خاصة ان ذاك اليوم سيعني انقطاع الوحي وما لذلك من أثر في نفسه عليه وآله الصلاة والسلام.
من هنا ندرك استمرار مهمة الغدير باستمرار الحياة، بل ان كل محاولات الائمة عليهم السلام في الحفاظ على الشريعة الاسلامية بمختلف الاشكال هي نتاج لبيعة
الغدير، وان هذا الامر سيمثل فعلا مستمرا في حركة الامة حتى يظهر الامام الحجة عجل الله فرجه الشريف، كما انه سيبقى في حركته المستمرة حتى تقوم الساعة ويرث الله الارض بمن عليها،
بل ان هذا الترابط يتحقق في الحياة الاخرة وورود الناس الى الحوض، منهم من يرد ويرتوي (وهم المؤمنون بالغدير) ومنهم من يصد عنه (تصده الملائكة بامر الله عزوجل) بانهم (أي الذين
تصدهم الملائكة) خالفوا ما انزل الله على نبيه، وانكروا بيعتهم.
إذن لا يمكن ايقاف نتائج حركة الغدير أو فصلها عن التفاعلات التاريخية اللاحقة، كما أن الانسانية ستبقى تتأثر بفعلها ونتائجها سواء اقتنعت وقبلت بالامر
أم رفضته، وكل ما نعيشه الان هو نتاج لحالة القبول او الرفض لمعطيات بيعة الغدير.
مستقبل الامة بعد الغدير:
ذكرنا ان الغدير قد مثل مستقبل الامة من خلال الترابط العضوي والتأسيسي بين الكتاب والعترة، مما يعني أن تتحمل الامة مسؤولية التحول نحو المستقبل فإما الاعتراف بحقيقة الغدير او
النكوص عنها، فعلاقة الغدير بصيرورة الامة علاقة تأسيسية، فلا يمكن ان تستمر الامة في تقدمها الايجابي ووفق المنظور التشريعي في حالة النكوص عن الغدير وتجاهل شرعيته، فالنكوص هنا
يصبح مخالفة تشريعية: " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فأعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين ". (9)
وأيضا قوله تعالى وهو يضع الامة امام مسؤولية افعالها: " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ
المبين". (10)
مما يعني ان الغدير اصبح منارا لمستقبل الامة، باعتباره تشريعا الهيا في اختيار الولي من جانب، ولكونه امر صدر عن الرسول في حديثه من جانب آخر. ومن هنا
فان النكوص والتولي عنه تتحمله الامة في رفضها لمشروع الغدير الحضاري.
من هنا أيضا فان كل السلبيات التي مرت بها الامة بعد الغدير هي نتاج لتخليها عنه ورفضها لمشروعه في تحيدي الولي وقيادة الامة، فالشورى والسقيفة والجمل وصفين والتحكيم والنهروان
والحكم الاموي والعباسي وظهور الفرق والطوائف هي اشكال متعددة لهذا النكوص.
وفي الخاتمة فاننا نحتاج الى تسليط ضوء اكبر على قضية الغدير والاهتمام بها كمشروع حضاري وجه وعي الامة وأشر مستقبلها في تطلعها الى الخلاص باعتبار ان
الغدير ذاته يعد مشروعا تأسيسيا لنهضة الامام المهدي عجل الله فرجه الشريف كما كان مشروعة للنهضة الحسينية المباركة، ومنذ ان وضع الاميني (11) رحمة الله عليه موسوعته (الغدير)
والعمل على ابراز هذه القضية المهمة يحتاج الى المزيد من الجهد الاكاديمي وغيره لوضع هذه المرحلة التاريخية والتشريعية المهمة موضع اهتمام الامة.
.............................
1- البقرة/38.
2- الروم/30.
3- البقرة/213.
4- القصص/5.
5- المائدة/67.
6- المائدة/3.
7- البقرة/30.
8- انظر القندوزي، ينابيع المودة /245 الحديث رقم: 324 وهي رواية احمد بن حنبل، وايضا أبن سعد، الطبقات الكبرى، 2/194.
9- المائدة/92.
10-النور/54.
11-الاميني، الشيخ عبد الحسين بن احمد (ت 1390هـ/1970م) من كبار اعلام الشيعة وله عدد من المؤلفات المهمة اشهرها سلسلة الغدير.