صعودا في مراقي الشهادة
الحسين (ع) رؤية في فلسفة الوجود
بقلم: الاستاذ الدكتور وليد سعيد البياتي
dr-albayati50@hotmail.co.uk
توطئة عرفانية:
أن تكون مخلوقا من خلق الله فتلك نعمة قليل حامدها، معدود شاكرها، لا تدرك حقيقتها إلا لمن تجلت له عوالم التكوين فانبسطت على راحة كفه حتى رآها كما خطها القلم الاول،
وارتقى في عالم الملكوت، وجودا ليس ككل وجود، نورا تصاعدت سبحاته في الملأ الاعلى فخرت الاملاك ساجدة بامر ربها، وأن تكون الحسين بن علي عليهما السلام وما ادراك ما علي؟ علي في
الدنيا وعلي في الاخرة، علي في مراقي العلو حتى تصاغرت لعلوه الاجرام، أن تكون الحسين بن فاطمة سيدة نساء ربها، أن تكون الحسين السبط، الامام، المعصوم، المجتبى من الله لتنير
بشهادتك مراقي الصعود من عوالم الوجود الى عوالم الملكوت، ولكن متى كنت منفصلا عن عالم الملكوت؟ وانت ما أنت إلا نور تجسد في عالم الوجود جسدا تجاوز ماديته إذ تعلقت روحه بانوار
العرش فسبحت بتسبيحه الاملاك.
مراقي الشهادة:
أن يكون الحسين عليه السلام، شهيدا فللشهادة وجود غير ما تدركه العقول، لا يعي حقيقتها إلا عقل معصوم اختاره الله من عالم العقل ليكون سيدا لعقول عصره، وللشهادة مراق تبدأ من قطرة
الدم الاولى لتنتهي عند اكناف العرش، فسبحان من الهم عبيده علم الارتقاء، ليخرجهم من عالم الوجود الى عالم الملكوت حيث الملأ الاعلى وتسبيحات النوارنيين، سبحانه خالق النور وجاعل
للمخلصين من عباده انوارا فقال عزوجل ( سورة النور/40.):
"ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور". |
وقال ايضا:
"أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس
بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ". الانعام/122. |
وجعل الشهادة الى انواره سبيلا، ورتبها درجات ومراتب من باب التفضيل والتكريم، فكان الانبياء والرسل عليهم السلام في المرتبة الاولى وأولهم خاتم
النبيين وسيد المرسلين محمد صلوات الله عليه وآله، وهناك ايضا يصطف الاوصياء أولهم علي ثم الائمة الاطهار وأهل بيته عليهم السلام، وللحسين نور في انوار المرتبة الاولى حيث لشهادته
المرتبة الرفيعة، وقد تجلت في المراقي كلها حتى الذروة منها، وكيف لا وقد ارتقاها منذ ان أهريقت القطرة الاولى من دمه الشريف على طف كربلاء. حتى حز راسه الشريف عليه السلام،
والانوار تتلألأ صعودا وتتسامى علوا، سواء وجسده الطاهر مزملا بدماءه الزكية أو حين وطأت سنابك خيل العدوان أضلاعه الشريفة فكانت انوار الشهادة تزداد علوا فوق العلو بعد ان غادر
الحسين عليه السلام عالم الوجود المادي ليرتقي عالم الملكوت، او بعد ذلك في رحلة الاسرى وقافلة النور، هناك حيث الرأس المرفوع على سنان الرمح يقدس الله تسبيحا علويا، تاليا كتاب
الله الذي لم يفارقه حيا ولا ميتا وهل مات الحسين (عليه السلام) إلا موتا دنيويا؟! موتا يناسب عالمنا المادي، موتا في حدود مدركاتنا لطبيعة الموت (مغادرة الروح الجسد)، وهل روح
الحسين كبقية الارواح؟ وهل ذاك الجسد الذي ضم هذه الروح العلوية كبقية الاجساد؟ وكيف يقال مات الحسين عليه السلام والله يصف الشهداء الذين هم دون مرتبته عليه السلام في الشهادة
ودونه في العصمة والكرامة، ودونه في القرب والدنو من الله ورسوله صلوات الله عليه وآله، فيقول فيهم عزوجل:
"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل أحياء
عند ربهم يرزقون". آل عمران/169. |
وإذا كان الله يقول:
"ومن يطع الله والرسول فاؤلئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن اؤلئك رفيقا". النساء/69. |
فالحسين هو في سادة المطيعين، وفي سادة الصديقين، وفي سادة الشهداء بل وهو سيد الشهداء وهو في سادة الصالحين فنور الحسين عليه السلام يسبح الله في
ارتقاءه عائدا الى ربه ويمجده في ملكوته وهو يخترق العوالم مسبحا حامدا شاكرا لانعم الله ذاكر لألآئه، ويتجاوز الاملاك والملأ الاعلى ليعود الى مكانه الذي لم يغادره عند ساق عرش رب
العزة والجلال.
تجليات من عالم الملكوت:
ما معنى ان يكون الحسين شهيدا؟! فهل الموت هو مجرد ذلك الانسلاخ البيولوجي للروح عن الجسد؟ قد يصدق هذا القول اذا كان الميت انسانا لم يرتقي في مراتب المعرفة الالهية، وبقي ملازما
لدنيويته، متشبثا بطين خلقته، فلم يجلوها بالمعرفة، ويصقلها بالابتلاء، لم يتعرف حقيقة الله معرفة لو ادركها لإنشغل بها عن مضطربات الحياة الدنيا، ولم يجلو معنى الصبر والابتلاء
والالم وهو لم يعرج في معالم الادراك العلوي، ولم تنزع نفسه الى الإرتقاء نحو الملأ الاعلى، فبقيت معارفه دنيوية، فإنشغل بحاجاته المادية وغرق في شهواته الحسية، ولم يذق طعم
العرفان الولائي، ولا نكهة التهجد ليلا، ولا معنى التسبيح تسبيحا تنطق به خلايا جسده ويغلب على وجدانه فيرى من خلاله انوار الهداية وقبسات الولاية تتلألأ كما الشعرى في كبد الظلمة،
ولسمع تسبيحات النورانيين، ومناجاة الروحانيين.
لكن روح الحسين عليه السلام لم تهبط من علياء الملكوت، بل بقيت هناك تقدس الله وتسبح آلاءه، وهي وإن احتلت جسد الحسين عليه السلام، إلا انها بقيت نورا من الانوار، وسرا من الاسرار،
وكيف لا وهو لم يطعم هذا الجسد الفاني إلا ما أحله الله، فكم من هدية اهداها الله لنبيه صلوات الله عليه وآله، فاشرك فيها عليا عليهما السلام، ثم خص بهما علي وفاطمة بعد اجتماع
الكمال بالكمال، واطعمها حسنا وحسينا فنمت اجسادهم بطعام الجنة، وتعطرت بعطرها ففاحت انسامها على هذه الاجساد الطاهرة، حتى صرنا لا نفرق بين كمال الجسد وكمال الروح، فكانت ارواحهم
واجسادهم واحدة، وهو ولم يقرب شبه، ولم يغفل عن ذكر ربه طرفة عين، فاذا كانت العصمة كمال الخلق فما بالك والحسين احد خمسة في آية التطهير:
"إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ". الاحزاب/33. |
وهو احد حمسة في آية القربى:
"قل لا أسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى". الشورى/23. |
وهو احد خمسة في آية المباهلة:
"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم
وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين". آل عمران/61. |
وهو احد خمسة في سورة الدهر وفي كل آية يذكر فيها المؤمنون العابدون السائحون، وإذا كانت العصمة كمال المعرفة، ففي بيت كان فيه علي وفاطمة والحسن
والحسين عليهم السلام كان مهبط الوحي، وفي بيت علي وفاطمة والحسنين تجلت الحكمة، واحكمت العصمة، وهو من أهل بيت زقوا العلم زقا، ففتح له جده الرسول الاعظم ابواب العلم اللدني وروته
امه الزهراء عليها السلام من حليبها، فنمى طاهرا مطهرا، ورعاه ابوه علي عليه السلام كما لم يرع ابا ابنه فخصه واخيه الحسن بعلوم لا يحملها إلا قلب امتحنه الله فوجده وعاء لعلم
الله، وكهفا لحكمته، ومنارا لدينه، وامتحنه الله في كربلاء بالصبر والبلاء، فوجده صابرا محتسبا لا يخرج عن طاعة الله، ولا يشكو إلا لله، فالله حسبه في الاول والاخر والظاهر
والباطن، وفي كل حين.
عروج الروح:
وأما شهادته عليه السلام، فقد كانت عروجا في عوالم التكوين، وارتقاء في عوالم الملكوت، تاركا جسده الارضي ليكون كهفا للمحتاجين، وملجأ للهاربين من الطواغيت والجبابرة، ليكون ملاذا
وموئلا للباحثين عن الحقيقة، محلا لاستجابة الدعاء وموضعا لقضاء حاجات البرية.
مثلت شهادته استيعابا كليا للحقيقة الكبرى، وجسدت غائية الوجود، بل ان الحسين عليه السلام استطاع ان يقدم لنا معان كلية لماهية العقيدة الالهية وأبعادا تطبيقية للشريعة السماوية،
كان لعروج روح الامام الحسين عليه السلام آثارا في عوالم التكوين شاهدها من كان حاضرا لحظة الشهادة فاكفهرت السماء واحتجبت الشمس وعلى الوجود كآبة وحزن وظلمة، فبينما تباشرت
الارواح في عوالمها بروح الحسين عليه السلام فزفت كالعروس الى مستقرها تحيطها تسابيح الروحانيين، وتحفها املاك السماوات في علياءها، كان الوجوم قد حل بالعالم الارضي، إذ ترقب
الانوار ذلك الجسد المطهر ملقا على الرمل، مقطوع الرأس، مرضوض الصدر، علته الغبرة، حتى اقشعرت الارض رهبة، واصاب الوجود غمة، فلا شيء غير نواح الانس والجن وتساقط دمع الكائنات.
وبعد فان لموت الامام الحسين عليه السلام قيما لاتدركها الابصار ولكن تحيط ببعض شؤونها العقول، ولشهادته قرع في الصدور كالفجيعة وأي فجيعة.
ذاكم الحسين بن علي وفاطمة عليهم السلام، ذاكم الحسين آخر الاسباط، فسلام عليه في عالم الوجود وفي عالم الملكوت وعند الملأ الاعلى.