إمـام المتقين..عـلي بن أبي طـالب كرم الله وجهه
مقال نشر في جريدة الاهرام المصرية
بقلم: ســنـاء البيـــسي
جلس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في المسجد الجامع بالكوفة مقر الخلافة بالعراق في أفقر بيت يؤدي بابه إلي المسجد.. بينما كان معاوية ابن أبي سفيان في
قصر الخضراء بالشام ينعم كأباطرة اليونان .. جلس علي رضي الله عنه مطرقا مفكرا تداعب أصابعه لحيته العريضة الناصعة البياض , حيث استعمل الخضاب مرة لكنه تركه لأنه يخفي حقيقة شيبته
ويخالف صراحة طبعه ويغير مظهره .. جلس سارحا متكدرا ليسأله أبو الأسود الدؤلي : فيم تفكر يا أمير المؤمنين ؟ فأجاب : إني سمعت ببلدكم هذا لحنا في اللغة , فأردت أن أصنع كتابا
في أصول العربية ..
فقال : إن فعلت هذا أحييتنا , وبقيت فينا هذه اللغة لغة القرآن سليمة بلا عوج .. ثم أتيته بعد ثلاثة أيام , فألقي إلي صحيفة فيها : بسم الله الرحمن الرحيم, الكلمة اسم وفعل
وحرف.. فالاسم: ما أنبأ عن المسمي, والفعل: ما أنبأ عن حركة المسمي, والحرف: ما أنبأ عن معني ليس باسم ولا فعل .. ثم قال : تتبعه وزد فيه ما وقع لك, واعلم أبا الأسود أن
الأشياء ثلاثة : ظاهر, ومضمر, وشيء ليس بظاهر ولا مضمر, وإنما يتفاضل العلماء في معرفة ما ليس بظاهر ولا مضمر.. قال أبوالأسود: فجمعت من ذلك أشياء عرضتها عليه, فكان منها
حروف النصب, تذكرت منها: إن, وأن, وليت, ولعل, وكأن, ولم أذكر لكن.. فذكرها قائلا : ولم تركتها ؟!..
فقلت: لم أحسبها منها.. فقال: هي منها فزدها فيها.. وهكذا كان علي.. من روائع بلاغته ومن فيض حكمته ومن نفحات عقله نشأت علوم كثيرة مثل علوم الفقه والنحو والحساب والزهد
والتصوف وعلوم الكلام وغيرها من علوم الدين , حتي كان الناس من علمه وهيبته يحذرون أمامه من الخطأ , لكنه كان يردد قوله لهم : لا يستحي من لا يعلم أن يتعلم , ولا يستحي من يعلم
إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: الله أعلم, وكان يحذر من مصاحبة الجاهل حتي لا يعكس عليه جهالته.
سيرة سيدنا علي إمام المتقين تراث للمسلمين جميعا,
إنه التراث النبيل الأعلى والأرفع والأسمي من أية مذهبية.. تراث نهج البلاغة , تراث الإنساني .. تراث لا حدود لعلمه لمن جاء في الحديث الشريف عنه أنا مدينة العلم وعلي بابها..
ولمن نزلت فيه ثلثمائة آية .. لصاحب الأذن الواعية التي دعا له بها الرسول صلي الله عليه وسلم بعدما نزل قوله تعالي في سورة الحاقة: وتعيها أذن واعية, وكان علي يقول : ما سمعت من
رسول الله صلي الله عليه وسلم شيئا قط فنسيته, وهو الذي روي عنه خمسمائة وثمانين حديثا.. لمن كانت المقادير تدخر سمعه ووجدانه لكلمات ستغير وجه الأرض ووجه الحياة.. لمن سمع الآيات
البينات مشرقة متألقة حديثة العهد يرتلها رسول رب العالمين من بعد ترتيل جبريل.. آية من بعد آية فيشرب قلب من رضي الله عنه جمال القرآن وجلاله وأسراره وفقهه وبلاغته آية من بعد آية..
لمن صار جديرا بأن يقول: سلوني, وسلوني, وسلوني عن كتاب الله ما شئم فوالله ما من آية من آياته إلا وأنا أعلم أنزلت في ليل أم نهار.. لمن حين نزلت سورة الرعد: إنما أنت منذر
ولكل قوم هاد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أنا المنذر وعلي الهادي, وبك يا علي يهتدي المهتدون.. لمن كان القرآن علمه وعمله.. سابق المسلمين.. التلميذ الأول للقرآن..
ربيب الوحي.. فما أعلمه.
علي بن أبي طالب الإمام علي, بن عبدالمطلب, ابن هاشم, ابن قصي, بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن نضر بن كنانة.. علي .. أبوالحسن , وأبوتراب , وأبو
السبطين, وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبدمناف , أول هاشمية ولدت هاشميا وكان اسم الوليد حيدرة بمعني أسد على اسم أبيها , ولكن غلب عليه اسم علي الذي سماه به محمد صلى الله عليه
وسلم, وجاء مولده في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر رجب سنة ثلاثين من عام الفيل, قبيل الهجرة بثلاث وعشرين سنة, وقبل بعثة النبي باثنتي عشرة سنة.. ولدته فاطمة في البيت الحرام
ولم يولد قبله فيه سواه,
ومن قول فاطمة: بينما أنا أسوق هديا إلي الكعبة حيث هبل ــ إذ استقبلني رسول الله وهو يومئذ غلام شاب قبل البعثة فقال لي: يا أماه إني أعلمك شيئا فهل تكتمينه علي.. قلت : نعم..
قال : اذهبي بهذا القربان فقولي كفرت بهبل وآمنت بالله وحده لا شريك له , فقلت أعمل ذلك لما أعلمه من صدقك يا محمد.... وعندما تموت فاطمة أم علي يقوم الرسول صلي الله عليه وسلم
بحفر لحدها بيده ويخرج ترابه ويضطجع فيه قائلا : اللهم اغف لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها ووسع عليها مدخلها.. ويسألونه رأيناك صنعت شيئا ليس لأحد قبلها فيقول: ألبستها قميصي
لتلبس من ثياب الجنة, واضطجعت في قبرها ليخفف عنها من ضغطة القبر, لأنها كانت من أحسن خلق الله تعالي صنعا إلي بعد أبي طالب...
وعندما أصاب مكة جدب وقحط أضر بذي العيال قال الرسول لعمه العباس وهو من أيسر بني هاشم : يا عم إن أخاك أبا طالب كثير العيال وقد أصاب الناس ما تري؟ فانطلقا ليخففا عنه عياله ليضم
الرسول صلي الله عليه وسلم عليا إليه, ويأخذ العباس جعفر, حيث رجاهما أبوطالب أن يتركا معه عقيلا مع بقية إخوته, وكان عقيل ضعيفا سقيم البدن, وإخوة علي خمسة أولاد هم إلي
جانبه: طالب وعقيل وجعفر, ومن الشقيقات: أم هانئ واسمها فاخته وقيل هند وقيل فاطمة وأسلمت في عام الفتح, وجمانة.. ويأتي أبوطالب وابنه جعفر للرسول ليجداه يصلي وعن يمينه علي
فقال أبوطالب لجعفر صل جناح ابن عمك فقام بالصلاة عن يساره. ولم يعد بعدها أبوطالب يتعبد الأصنام
ويشب علي في حجر النبي لا يفارقه, ويزامله إلي الكعبة قبل الرسالة
ليحطما الأصنام, ويروي علي: انطلق رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الكعبة فقال لي: اجلس فجلست, فصعد على منكبي. فقال لي: انهض فنهضت. فعرف ضعفي تحته. قال لي: اجلس
فجلست ثم نهض بي فخيل إلي أنني لو شئت نلت أفق السماء. فصعدت إلي الكعبة, وتنحي هو قائلا: ألق صنمهم الأكبر, وكان من نحاس مؤتد بأوتاد من حديد في الأرض. فقال رسول الله:
عالجه.. فجعلت أعالجه, حتي استمكنت منه, فقال: اقذفه فقذفته حتي انكسر.. ونزلت من فوق الكعبة, وانطلقنا نسعي بعيدا, وخشية أن يرانا أحد من قريش وغيرهم....
علي.. كرم الله وجهه.. فهو لم يحنه لغير الله تعالي.. كرم الله وجهه.. فلم يقع علي عورة قط, وكان إذا سقط خصمه في الصراع وأدرك أنه هالك بسيف علي, كشف الخصم عن عورته, كما
فعل أبوسعد بن أبي طلحة في غزوة أحد فأشاح علي بوجهه تعففا.. وكان كرم الله وجهه قوي البنية, عريض المنكبين, ممتلئ الجسم, عظيم العينين, كثير الشعر, عريض اللحية, ربعة لا
بالطويل ولا بالقصير, ضخم عضلة الذراع, ضخم عضلة الساق, إذا أمسك بخصمه يكاد يلفظه أنفاسه, وما جادل أحدا إلا أسكته, وكان يسرع في سيره وإلي الحرب يهرول, وحمل باب الحصن علي
ظهره يوم خيبر حتي صعد المسلمون علي ففتحوها, وجاهد أربعون رجلا في قلب ذلك الباب فما استطاعوا, وعندما تقدم في العمر دهمه الصلع,
وقد بلغ من عمق تأثيره علي الآخرين أنه اشتري عبدا فعلمه الإسلام وأعتقه, لكن العبد لازمه, حتي إذا مات النجاشي ملك الحبشة, واضطربت الأمور من بعده اكتشف أن ذلك العبد هو ابن
النجاشي قد اختطفه تجار الرقيق طفلا وباعوه في مكة, فأتي قوم من الحبشة يعرضون عليه ملك الحبشة وريثا لأبيه النجاشي, لكنه رفض الملك وآثر البقاء علي الإسلام في صحبة علي كرم الله
وجهه.. ويركز الزمخشري فضائل علي بن أبي طالب في قول الرسول: يا علي إنك أول من يقرع باب الجنة فتدخلها بغير حساب بعدي.. وأنه من افتدي الرسول ونام في فراشه مفوضا أمره إلي ربه ولم
يضطرب حين دخل عليه المشركون شاهرين السيوف وكان جبريل يحرسه عند رأسه وميكائيل عند رجليه..
وأنه كان يشتري حاجات أهله ويحملها بيديه فإذا اقترب بعض
مرافقيه ليحملونها عنه أبي وقال مبتسما: أبوالعيال أحق بحمله!!.. ويرتدي وهو خليفة جلبابا اشتراه من السوق بثلاثة دراهم.. ويركب حمارا, وقد تدلت على جانبيه ساقاه, وكأنه أحد
فقراء البادية, ويعزم عليه أصحاب أن يركب جوادا يليق بأمير المؤمنين فيجيبهم: دعوني أهن هذه الدنيا!! وأنه من أوكل إليه الرسول أمر رد الودائع لأصحابها وقت الهجرة, وقد شهد جميع
الغزوات إلا غزوة تبوك, حيث خلفه الرسول علي النساء والأطفال قائلا له: أما ترضي بأن تكون مني بمنزلة هارون من موسي إلا أنه لا نبي بعدي.. وأنه الممدوح بالسيادة فقد قال الرسول
لابنته فاطمة: زوجك سيد في الدنيا والآخرة.. وأنه أقضي الصحابة لقوله صلي الله عليه وسلم: أقضاكم علي,
وكان عمر بن الخطاب يقول عنه أعوذ بالله من معضلة لا علي بها, ولولا علي لهلك عمر.. وأن الرسول انقطع عن أصحابه لأجله, فقالوا: يا رسول الله افتقدناك, فقال: إن أبا الحسن وجد
مغصا في بطنه فتخلفنا عليه.. وأنه جمع ثلاث مفاخر لم تجتمع لأحد سواه لما روي عن الرسول صلي الله عليه وسلم قوله له: يا علي أعطيت ثلاثا لم يعطها أحد غيرك: صهرا مثلي, وزوجة مثل
فاطمة, وولدين مثل الحسن والحسين.. وهو الذي أطلق عليه حين نضجت مناقبه إمام المتقين.. وفي هذا يقول علي لقومه: تعلمون موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة, والمنزلة
الخصيصة, وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلي صدره, ويكنفني فراشه, ويمسني جسده, ويشمني عرقه, وما وجد لي كذبة في قول, وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه, يرفع لي في كل يوم
من أخلاقه علما, ويأمرني بهذا الاقتداء..
وقد يأتي الحق جليا أمام من لا يريد سماعه ممن لا يستطيع
إلا قوله رغم ما أصابه.. يدخل عدي بن حاتم علي معاوية بن أبي سفيان الذي يسأله عن أولاده: أين الطرفات؟! وكان يعني طريفا وطارفا وطرفة أولاد عدي.. فيجيبه عدي: قتلوا ثلاثتهم
يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب.. فقال معاوية: والله ما أنصفك ابن أبي طالب, إذ قدم بنيك.. وأخر بنيه.. صف لي عليا إذ قتل وبقيت.. فقال عدي: إن رأيت أن تعفيني. فقال
معاوية: لا أعفيك.. فعاد عدي يصف عليا بقوله: كان بعيد المدي, شديد القوي, يقول عدلا, ويحكم فصلا, تتفجر الحكمة من جوانبه, والعلم من نواحيه, يستوحش من الدنيا
وزهرتها, ويستأنس بالليل ووحشته,
وكان والله عزيز الدمعة طويل الفكرة, يحاسب نفسه إذا خلا, ويقلب كفيه على ما مضي, ويدنينا إذا أتيناه, ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه لهيبته, ولا نرفع أعيننا إلي
لعظمته, فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم, يعظم أهل الدين, ويتحبب للمساكين, لا يخاف القوي ظلمه, ولا ييأس الضعيف من عدله. وأقسم لقد رأيته ليلة وقد مثل في محرابه, وأرخي الليل
سرباله, وغارت نجومه, ودموعه تتحادر علي لحيته, وهو يتململ ويبكي بكاء الحزين, فكأني الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا غري غيري, قد طلقتك ثلاثا لا رجعة لي فيك, فعيشك حقير,
وخطرك يسير, آه من قلة الزاد, وبعد السفر, ووحشة الطريق.... هنا انهمرت دموع معاوية, وجعل ينشفها بكمه, ثم قال: يرحم الله أبا الحسن كان كذلك., وبموته ذهب الفقه
والعلم, ثم أضاف قائلا لعدي: فكيف صبرك عليه؟ فأجاب عدي: كصبر من ذبح ولدها, فهي لا ترقأ دمعتها, ولا تسكن عبرتها.. ثم سأل معاوية: فكيف ذكرك له؟.. فقال: وهل تراني
أنساه.
في خجل يقترب علي من ابن عمه وعلي وجهه كلام لم ينطق به,
فيدرك النبي أن ابن عمه وأخاه قد جاء في أمر يمنعه الحياء من الإفصاح عنه فيسأله: ما خطب ابن أبي طالب؟.. فلم ينطق من يغض بصره سوي بالاسم.. فاطمة.. دون تعقيب, وما نطق الأب
سوي بكلمتين لا ثالث لهما: مرحب وأهلا.. وبعدها.. أمسك الرسول عن الكلام, وطال صمته لينصرف علي حائرا يدير الكلمتين.. يستنطقهما.. ليظل منهما متخوفا ألا يكون فيهما
استجابة, خاصة أن رسول الله كان قد رد كلا من أبي بكر وعمر بن الخطاب من قبل عندما جاء كل منهما لخطبة فاطمة, ووقتها كان رده الجميل المقنع لكليهما: لم يأذن الله بعد.. ولكن طمأن
الجمع عليا بقولهم أنه كان يكفيه تعبيرا عن موافقة الرسول إحدي الاثنتين مرحبا أو أهلا.. ولم يكد يطلع نور الصبح حتي استجمع علي شجاعته ليفصح بالجملة المفيدة: لقد أتيتك يا رسول الله
خاطبا ابنتك فاطمة فهل زوجتني إياها؟..
وكانت فاطمة التي قاربت وقتها عامها الثامن عشر تحس بإلهام فطرتها ووحي قلبها أن عليا متعلق بها غير منصرف عنها ولا راغب في سواها من بنات المسلمين.. وكذلك كانت هي لم تشعر بمن هو أقرب
إليها من علي وأعز موضعا.. و.. ما أن يطلب علي فاطمة حتي يتهلل وجه النبي منبسطا سائلا: وهل عندك شيء تصدقها به؟ فيجيبه الخاطب صادقا: لا يا رسول الله.. فيعود ليسأله: وأين
درعك؟! فينطلق ليأتي به ليأمر الرسول ببيعه ليجهز العروس بثمنه, ويتقدم عثمان فيشتري بأربعمائة وسبعين درهما قام علي بوضعها أمام المصطفي الذي دفع بعضها إلي بلال ليشتري عطرا
وطيبا, وبالباقي لأم سلمة رضي الله عنها لتشتري جهاز العروسين اللذين أهداهما عليه الصلاة والسلام بساطا من الصوف الأبيض..
وقام علي بإعداد بيته لاستقبال بنت أشرف الخلق..
حجرة متواضعة خلف بيت النبي صلي الله عليه وسلم عن يسار المصلي إلي القبلة في الروضة وكان فيه خوخة ــ ممرا ــ إلي بيت النبي صلي الله عليه وسلم ــ حيث كان يأتي بابها كل يوم يأخذ
بعضادتية ــ ضفتيه ــ ويقول: الصلاة الصلاة, وعن عمر بن علي بن الحسين قوله: كان بيت فاطمة في موضع الزور مخرج النبي صلي الله عليه وسلم, وكانت فيه كوة إلي بيت عائشة رضي الله
عنها, فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام إلي المخرج اطلع من الكوة إلي حجرة فاطمة فعلم خبرهم.. وكان يحدث فاطمة من الكوة أحيانا ليسألها عن أحوالهم.. البيت حجرة متواضعة فرشت
بالرمل الناعم, وفراش ووسادتين حشوهما من ليف هذبته بأيديهما زوجتا رسول الله عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما, وعود في جانب البيت لتلقي عليه الثياب وتعلق القربة, وجلد كبش يقلب علي
صوفه فيصير فراشا, وإنا به سمن جاف يطهي به, وقربة للماء وجرة وكوز, ورحي, ومنخل, ومنشفة..
وخفت نساء الأنصار الثريات فأهدين فاطمة رداءين للزفاف, وبعض حقاق من الطيب والعطور, وأقرضنها بعض الحلي من الذهب والجواهر.. وفي موعد القران احتفل بنو عبدالمطلب فأتي حمزة عم
النبي وعم علي بشارفين ــ جملين ــ نحرهما وأطعم الناس.. وما أن فرغ الجمع من الطعام حتي أتي الرسول ببغلته الشهباء وثني عليها قطيفة قائلا لفاطمة اركبي وأمر سلمان أن يقود بها, ومشي
الرسول خلفها ومعه حمزة وبنو هاشم مشهرين سيوفهم, وأمر بنات عبدالمطلب ونساء المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة وأن يفرحن ويرتجزن.. وينثر الرسول على رأسي الزوجين ماء معطرا
مع قوله: اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.. ويسأله علي: يا رسول الله أنا أحب إليك أم هي؟ فيرد عليه صلي الله عليه وسلم: هي أحب إلي منك, وأنت أعز علي
منها.. واعتاد الرسول أن يزورهما ليطمئن علي أحوالهما,
وكان إذا أوصي عليا بها قال: فاطمة بضعة مني يريبني
ما رابها ويؤذيني ما آذاها ويهديهما كلمات علمها له جبريل للتغلب على المصاعب: تسبحان بعد كل صلاة عشرا, وتحمدان عشرا, وتكبران عشرا, وإذا آويتما إلى فراشكما, تسبحان ثلاثا
وثلاثين, وتحمدان ثلاثا وثلاثين, وتكبران ثلاثا وثلاثين.. وتلد الزهراء الحسن والحسين ليكون اسميهما نغمة حلوة في فم أبي الزهراء يستعذبها ولا يمل من ترديدها... ويلقي ابنته
وزوجها وقد غلبهما النعاس, والحسن يبكي ويطلب طعاما, ولا يهن على الأب الكريم أن يوقظ العزيزين النائمين, فأسرع إلي شاه كانت تقف في ساحة الدار, فحلبها وسقي الحسن من لبنها حتي
ارتوي, وكان يقول لابنته معاتبا إذا ما بلغ مسمعه صوت بكاء الحسن: أو ما علمت أن بكاءه يؤذيني.
ومن بعد وفاة الرسول لم تر الزهراء إلا حزينة باكية تدعو أن تلحق بأبيها كما بشرها قبل الرحيل.. وما أسرع ما لحقت به بعد ستة أشهر, حيث اغتسلت ولبست ثوبا جديدا واضطجعت على فراشها
وسط البيت واستقبلت القبلة وتهيأت للقاء ربها ولقاء أبيها الحبيب.. ثم أغمضت عينيها.. وأسرع علي يجهزها ويدفنها سرا كما أوصت ويبكي علي قبرها قائلا:
لكل اجتماع مــن خليلين فرقــة |
وإن الذي دون الفراق قليل |
وإن افتقادي واحدا بعد واحد |
دليل عــلى ألا يدوم خــليل |
ويعود إلي داره وحيدا مع أحزانه, يواسي صغاره: الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب, ورقية وماتت صغيرة قبل البلوغ, ولم يتزوج علي على فاطمة حتي وفاتها.. وكان في عصمته يوم قتل أربع
زوجات هن: أمامة, وليلي بنت مسعود التميمية, وأسماء بنت عميس, وأم البنين..
كان غزير الدمع.. طويل الفكر.. المخشوشن في سبيل الله.. كان في رمضان من السنة التي قتل فيها يفطر ليلة عند الحسن, وليلة عند الحسين, ولا يزيد
في أكله علي ثلاث أو أربع لقمات ويقول: يأتيني أمر الله وأنا قميص جائع, ولم يمض الشهر حتي قتل رضي الله عنه لتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عندما علمت بمصرعه: فلتصنع العرب
ما شاءت فليس لها أحد ينهاها.. أبا الحسن.. الأمور تقترب من نهاياتها.. البطل يقف بين فتنتين عارمتين.. الشام تصيح: يالثارات عثمان!!..
وفي العراق صيحة: لا حكم إلا لله!!.. ولئن كانت الأولي أعتي وأوسع, فإن الثانية أمض وأوجع, ذلك أن ذويها ومشعليها الذين كانوا بالأمس أتباعه وجنده, هم الذين أصروا علي قبول
التحكيم حين كان يحذرهم منه ويدعوهم إلي رفضه.. وصدق رسول الله حين قال: ستكون فتنة, القاعد فيها خير من القائم, والقائم خير من الماشي, والماشي خير من الساعي.. ويضع الإمام
الذي ضاق بهم ذرعا مصحفه فوق رأسه قائلا: اللهم إنهم منعوني أن أقوم في الأمة بما فيه (المصحف) فأعطني ثواب ما فيه. اللهم إني مللتهم وملوني, وأبغضتهم وأبغضوني.. اللهم أمت
قلوبهم موت الملح في الماء.. وإلى أي حد ضاق الإمام بهم ذرعا حتي دعا عليهم ودعا لنفسه قبل استشهاده بأيام:
والله لوددت أن الله أخرجني من بين أظهركم, وقبضني إلي رحمته من بينكم.. ولوددت أني
لم أركم ولم أعرفكم.. فقد, والله ملأتم صدري غيظا, وجرعتموني الأمرين أنفاسا, وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان.. |
وسارع القدر يلبي رجاءه. يزعق الإوز في وجه الإمام عند دخوله المسجد.. يحاول الناس إسكاته فيقول الإمام: ذرهن فإنهن النوائح.. وكان اغتياله
يسيرا لا يتطلب جلدا ولا قوة ولا بطولة.. فقط ضميرا ميتا وقلبا أعمي.. كان الإمام بلا حرس.. وكانت هناك فطام بالغة الجمال من الخوارج التي قتل أخاها وأباها يوم النهروان, وشرطها
على عبدالرحمن بن ملجم لنيل رضاها أن يكون المهر ثلاث آلاف وعبد وجارية, وقتل علي بن أبي طالب... وكان السيف مسلولا سقاه بن ملجم السم أربعين يوما.. و.. قتل الإمام.. قتل أبو
تراب الذي طلب في لحظاته الأخيرة شربة لبن, وأمر لقاتله بمثلها... قتل إمام المتقين الذي صدق عندما قال:
يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل الواشي, ولا يظفر فيه إلا الفاجر, ولا
يضعف فيه إلا المنصف, زمان يتخذون فيه الصدقة مغرما, وصلة الرحم منا, والعبادة استطالة على الناس ــ أي تكبرا ــ فعند ذلك يكون سلطان النساء, ومشاورة الإماء, وإمارة
الصبيان. |
أبا الحسن .. لقد أتي هذا الزمان .. زماننا الآن !!