Back Home Next 

كيف تمارس المرجعيّات الشيعيّة سلطتها الاجتماعيّة؟
بقلم علی معموري
نشر أكتوبر 8, 2014

يّمتلك المجتمع الشيعيّ تماسكاً دينيّاً أكبر من نظيره السنيّ. وقد أثار ذلك تساؤلات كثيرة لدى المرجعيّات السنيّة، منها ما صرّح بها رجل الدين السنيّ العراقيّ البارز الشيخ أحمد الكبيسي في شهر يونيو من هذا العام تعقيباً على فتوى السيستاني في وجوب الدفاع عن العراق ضدّ هجمات متشدّدي السنّة: "إنّ الشيعة لديهم مرجعيّة عظيمة، تقول وتأمر فتطاع؛ ولكن السنّة ليس لهم قيادة ومرجعيّة، ولن يكون لهم ذلك."

لا تمتلك المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة نظاماً كهنوتيّاً على غرار ما هي عليه المؤسّسة الكاثوليكيّة في الفاتيكان، ولكنّها في الوقت نفسه تربطها علاقات متينة مع قاعدتها الشعبيّة؛ بحيث يمكنها أن تحرّك الملايين من أتباعها بإصدار فتوى واحدة. وقد لعبت المرجعيّة دورها التاريخيّ البارز في المجتمعات الشيعيّة من خلال هذه السلطة الاجتماعيّة والروحيّة العليا التي تمتلكها القيادات الدينيّة على أتباعها.

ويجد الباحث أمثلة عدّة للدور الاجتماعيّ البارز لرجال الدين الشيعة في التاريخ المعاصر في المنطقة. وأدّت فتوى السيّد حسن الشيرازي (1814-1896) إلى فسخ أحد أكبر العقود التجاريّة بين مملكة إيران وبريطانيا العظمي في عام 1891. ولعبت المرجعيّات الشيعيّة دوراً حاسماً في الثورة الدستوريّة في إيران  بين عامي 1905 و1907. ونهض العراق بأكمله ضدّ البريطانيّين خلال احتلالهم للعراق بعد الحرب العالميّة الأولى، ممّا عرف  بثورة العشرين وهناك أمثلة كثيرة أخرى يمكن مشاهدتها في المسيرة القياديّة للسيّد السيستاني في العراق لما بعد 2003.

ورغم كلّ التحوّلات الاجتماعيّة لعصر الحداثة، ما زالت المرجعيّات الشيعيّة تمتلك سلطتها الاجتماعيّة الواسعة على أتباعها في مختلف المجتمعات الشيعيّة في العالم؛ ممّا يعطي قوّة وتماسكاً كبيراً للشيعة مقارنة بالمذاهب الإسلاميّة الأخرى. فمن أين تأتي هذه السلطة؟ وكيف تقوم بأعمالها؟ وكيف يتمّ التّواصل بين المرجعيّات الدينيّة وأتباعها في المجتمع الشيعيّ؟

لقد أعطى الاستقلال السياسيّ والاقتصاديّ النسبيّ إلى المؤسّسة الدينيّة الشيعيّة عن نظام الحكم، قوّة اجتماعيّة هائلة لها، الأمر الذي أدّى بالمراجع إلى أن يبحثوا عن مصدر للسلطة خارج السياسة. وقد ربطهم هذا بقاعدتهم الاجتماعيّة وخلق مصالح مشتركة بين الطرفين، في حين أنّ القيادات الدينيّة السنيّة عادة يتمّ انتخابها من قبل الحكومات وتعمل بوصفها جزءاً من نظام الحكم عموماً، كما هو الوضع الآن في السعوديّة ومصر مثلاً.

وفي صورة عامّة، يتشكّل مكتب المرجع الشيعيّ من أقسام رئيسيّة أربعة:

  1. قسم دراسة الفتاوى الدينيّة وإصدارها،

  2. قسم العلاقات الاجتماعيّة،

  3. قسم المساعدات الاجتماعيّة،

  4. وقسم التّواصل مع السلطات السياسيّة.

ويجري التّواصل مع القاعدة الشعبيّة في كلّ هذه الأقسام الأربعة، ويأخذ المرجع عادة أوضاع أتباعه الاجتماعيّة في الاعتبار في كلّ هذه الحقول. وقد تطوّر هذا النظام تاريخيّاً خلال قرون مديدة وتحوّل الى حال عامّة في إدارة شؤون المرجعيّة الدينيّة الشيعيّة.

ويتمّ التّواصل بين الأتباع والمؤسّسة الدينيّة عبر شبكة واسعة من الوكلاء يتمّ الإشراف عليهم مباشرة من قبل مكتب المرجع. ويتمّ اختيار الوكلاء بحساسيّة كبيرة كي لا يتمّ استغلال العنوان من قبل بعض الأشخاص. وقد طوّر السيستاني هذه الشبكة ضمن سلسلة تراتبيّة من المعتمدين تشمل 350 فرداً في مختلف مناطق العراق. وقد اشترط على جميع المعتمدين عدم القبول بأيّ منصب سياسيّ وعدم الانحياز إلى أيّ جهة سياسيّة معيّنة إطلاقاً. ويتمّ فصل المعتمد واختيار بديل مكانه في حال التخلّف عن هذا الشرط في شكل حازم جّداً. ومثلاً، تمّ فصل 15 معتمداً في الانتخابات العراقيّة الأخيرة بسبب صدور مواقف سياسيّة عنهم محسوبة لجهة محدّدة من المشاركين في الانتخابات.

ويعود السبب في ذلك إلى أهميّة الحفاظ على السلطة الاجتماعيّة الأبويّة العامّة لمختلف أطياف المجتمع الشيعيّ. وقد التزم السيستاني هذا المبدأ منذ عام 2003 حتّى الآن من دون تغيير كبير. ولقد صدرت عنه تعليمات عامّة لرجال الدين في العراق بعد سقوط صدّام مباشرة، كما وردت في كتاب "النصوص الصادرة عن سماحة السيّد السيستاني" لحامد الخفاف. وجاء فيها: "لا يصحّ أن يزجّ برجال الدين في الجوانب الإداريّة والتنفيذيّة، بل ينبغي أن يقتصر دورهم على التوجيه والإرشاد". كما أكّد ذلك خلال لقائه الأخير في بداية السنة الدراسيّة الحاليّة في النجف مع بعض طلاّب الحوزة، الذين طالبهم بـ"تجنّب الانتماء إلى أيّ حزب سياسيّ أو دينيّ مهما كانت قدسيّة مؤسّسه والابتعاد عن الأمور السياسيّة لأنّ الخوض فيها يشغل الطالب عن تحصيله ويدخله في متاهات هو في غنى عنها في هذه المرحلة".

ويعدّ قسم التّواصل السياسيّ النافذة الوحيدة للسيستاني في مشاركته في العمل السياسيّ. ويختصر ذلك في مساعدة الأطراف السياسيّة المختلفة بالعمل المشترك وحلحلة الخلافات وتسيير الأمور، وأيضاً تقديم المشورة والإرشادات العامّة. ويعدّ أئمة الجمعة لمدينة كربلاء الشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيّد أحمد الصافي المعتمدين الوحيدين اللذين يمتلكان التّخويل في إعلان موقف سياسيّ باسم مكتب السيستاني. وقد أدّى الأسلوب الحكيم للسيستاني في مواقفه السياسيّة إلى اتّفاق كلّ الأطراف الشيعيّة حوله والاعتراف به بوصفه مرجعاً دينيّاً يمتلك سلطة اجتماعيّة واسعة النّطاق على شيعة العراق ومناطق أخرى من العالم.

ويقوم قسم المساعدات الاجتماعيّة أيضاً بدور كبير في ربط المرجعيّة الشيعيّة بالمجتمع، وقد أطلع "المونيتور" على أنّ هذه المساعدات تبلغ خمسة ملايين دولار شهريّ في جنوب العراق فقط. ومثلاً، تستقبل النجف 15 ألف مهجّر خلال الأزمة العراقيّة الأخيرة، وهم ليسوا فقط من الشيعة، بل فيهم عائلات سنيّة أيضاً. ويقوم مكتب السيستاني بصرف 150 ألف دينار عراقيّ (ما يقارب الـ130 دولار أميركيّ) لكلّ ربّ أسرة مهجّرة من دون النّظر إلى انتمائه الدينيّ، مضافاً إلى خمسة آلاف دينار بعدد أفراد الأسرة ووجبة غداء يقدّمها إليهم يوميّاً. وفي الإطار نفسه، هناك شبكة واسعة من الخدمات والمساعدات الاقتصاديّة في مختلف المجالات التعليميّة والصحيّة والثقافيّة وغيرها في المناطق الأخرى في العراق والعالم الشيعيّ. وتأتي مصادر هذه الأموال من المبالغ التي يقدّمها أثرياء الشيعة إلى مراجعهم ضمن طقس دينيّ سنويّ مضافاً إلى الهدايا، الأوقاف والمساعدات الخيريّة العامّة الأخرى.