لندن - خالد القشطيني
من الكلمات الشائعة في لغة العراقيين قولنا "يحسقلها" أو "يعني شنو"؟
تريد تحسقلها علي؟" نقصد بها التشدد في حسابها و محاسبة الشخص. نقولها دون ان نعرف اصلها و مصدرها. تعود هذه الكلمة اساسا الى السيد ساسون حسقيل،
الأقتصادي و الرجل المالي الكبير الذي تولى وزارة المالية خمس مرات في اوائل تأسيس المملكة العراقية. لم يكن رجلا ضليعا فقط في الأمور المالية و
انما كان يتقن كذلك عدة لغات محلية وعدة لغات اوربية.
لم يكن للعراق المعاصر اية خبرة في الشؤون المالية او تنظيم حسابات الدولة و ميزانيتها. كان مجرد جزء
من الامبراطورية العثمانية يدير احواله المالية موظفون اتراك من اسطنبول. نعم كان بين العراقيين ضباط و مدراء و قضاة ولكن لم يكن بينهم اي رجل له
اي خبرة في تنظيم مالية دولة. بيد ان الله عز و جل قدر ان يكون بينهم هذا الرجل الموسوي الضليع في الشؤن المالية. وعندما تأسست اول وزارة في تاريخ
العراق تحت رآسة عد الرحمن النقيب عام 1921، اشار عليهم الانكليز بأن يستعينوا بساسون حسقيل في تنظيم مالية الدولة الناشئة. وهوما كان. اسندوا
اليه وزارة المالية. ورغم سقوط حكومة النقيب، فقد ظلت الحكومات التالية تكلفه بهذه المهمة.
اشتهر حسقيل ساسون بتشدده في محاسبة الموظفين
والمسؤولين، بل و حتى الملك فيصل الأول و الحكومة البريطانية. لا يترك لهم ثغرة يسيئون فيها لمالية البلاد. و من هنا راح الجمهور يقولون و يرددون
كلمة يحسقلها، اي يتشدد في محاسبتها. شاعت عن ذلك حكايات طريفة كثيرة.
ومنها انه لاحظ ان البلاط الملكي حاول تغطية العجز في ميزانيته بنقل مبالغ من فصل معين من الميزانية
العامة الى واردات البلاط. انتبه الى ذلك فأصدر امره بمنع هذا النقل بما اثار الملك فيصل و الديوان الملكي. ولكن ساسون حسقيل اصر على رأيه و منع
هذا التحويل الذي اعتبره مخالفا للقانون و مصلحة الدولة.
ولا شك ان من اشهر رواياته و اهمها كان ما جرى بينه و بين شركة النفط البريطانية عندما اصر على
الشركة النفط البريطانية المسجلة عندئذ بأسم شركة النفط العراقية التركية بدفع حصة العراق بالذهب، بالشلن الذهبي، بدلا من الباون الانكليزي
الورقي. استسخفوا طلبه عندئذ فقد كان الباون الانكليزي السترلنغ اقوى عملة في العالم. سخروا منه و ضحكوا عليه و اتهموه بأنه رجل قديم الطراز. هز
رأسه قائلا، " نعم هكذا انا.
سامحوني، رجل متحجر الفكر ومن بقايا العهد العثماني. رجاء ادفعوا لنا بالذهب." ضحكوا عليه و لكنهم
طيبوا خاطره فوقعوا على الدفع بالذهب. سرعان ما ثبت ان ساسون حسقيل كان اعلم منهم جميعا، فبعد سنوات قليلة تدهور الباون الاسترليني بالنسبة للذهب
ولكن شركة النفط لم تجد مفرا من الدفع للعراق بالباون الذهب. كانت النتيجة ان ظل العراق يكسب ملايين اضافية بسبب تفوق الذهب على العملة الورقية
الانكليزية. لا عجب ان اخذ البريطانيون يتضايقون من وجود ساسون حسقيل على رأس وزارة المالية في كل مفاوضاتهم معها. فسعوا الى التخلص منه حتى
تمكنوا من ذلك بعد سقوط حكومة ياسين الهاشمي.
وكان من افكاره البارعة ان اشترط على شركة النفط ان
تعطي العراق حصة من اسهمها، بما مكن العراقيين من رهن هذه الحصة بما اعطاها اموالا كانت في امس الحاجة اليها. لا نتصور اليوم كم كان العراق دولة
فقيرة عندئذ ركبته الديون والالتزامات من كل جانب. بيد ان ساسون حسقيل قام بخطوات بارعة في تحسين الوضع المالي للبلاد. لم يتوقف دوره فقط في تنظيم
المالية و انما عمل بجد ونشاط في تشجيع الانتاج الوطني ولا سيما في قطاع الزراعة وتصدير المنتجات الزراعية العراقية للخارج لكسب شيء من العملة
الأجنبية.
وبالطبع، وكوزير للمالية، ركز على تنظيم الضرائب و المكوس وحسّن طرق استحصالها بما يضمن للدولة ما
تحتاجه من واردات. ومن ذلك ان الحكومة اضطرت حتى الى فرض ضريبة عى كل من يعبر الجسر. وكانت ايام، ايام عسر، ولكن ايام خير وبناء لعراق الخير
والخيرات