كان من اللازم في ظل ما تعيشه الأمة من تفتت وانقسامات وتشرذم وخلافات بل وحروب يطفو المذهبي فيها
علي السياسي أن نستعيد ونستذكر بعض الأصوات العاقلة الهادئة عسى أن تكون هذه الكلمات حجراً في بركة راكدة يُعد فيلسوف الثورة الإسلامية في إيران
الشهيد الدكتور علي شريعتي الملقب ب"المعلم" واحداَ من القلائل الذين تجردوا عن هوى التمذهب والتشدد أو التخاصم، وسعى بكل ما أوتي من قوة إلى
لملمة الصفوف تجاه الوحدة بل إنه قد خصص كتابا يُعد معلما من معالم الفكر الشيعي في العصر الحديث ألا وهو "التشيع العلوي والتشيع الصفوي"
".
ولد علي بن محمد تقي شريعتي في مزيتان في منطقة خراسان عام 1933 نشأ في أسرة متدينة معروفه بالفقه
والعمل، ونشط وهو في الثانوية العامة في التيار الذي قاده رئيس الوزارء السابق مصدق ثم تخرج بتفوق من كلية الآداب ليُرسل في بعثة دراسية لفرنسا،
ويحصل علي الدكتوراه واحده في علم الاجتماع الديني والأخرى في تاريخ الإسلام، وهناك كان على اتصال بجبهة التحرير الجزائرية والتقى مفكرى فرنسا
البارزين أمثال فرانز فانون وسارتر، ثم عاد الي إيران ليؤسس "حسينية الإرشاد" وهو المعهد الذي هاجم فيه تعصب رجال الدين من الشيعة ضد السنة، ثم
مالبث أن أعتقل مرات في فرنسا وفي إيران لتبنيه أفكاراً إصلاحية ثورية كبناء الدولة الإسلامية وإعادة صياغة الذات والمجتمع اقتصاديا وسياسيا
واجتماعيا وثقافيا على نحو إسلامي حقيقي، كما اهتم بجوهر المساواة والعدل وتنقية الإسلام مما شابه عبر القرون، خلف لنا حوالي مائة وعشرون (120)
عملاً ما بين الفلسفي والأدبي والاجتماعي والسياسي كلها تتخذ من الإسلام القبس، استشهد
في لندن على يد جهاز المخابرات التابع للشاه- آنذالك- السافاك عام 1977
يشيد كاتبنا بالرؤية التي يتمتع بها شيخ الأزهر السابق محمود شلتوت وإخوانه في تدعيم حركة التقريب بين
المذاهب الإسلامية ويصف هذا الدور بأنه واع ومسئول، هذا بخلاف وجود النفوس العالية التي تأبى الهزيمة أمام دسائس المتصيدين في الماء العكر من
أعداء الداخل والخارج
.
يعزو شريعتي انتشار الخلاف والخصام المذهبي إلي ما يُسميه انتشار العدوين المتآخيين "التشيع الصفوي
والتسنن الأموي" وانحسارالأخوين " التشيع العلوي والتسنن المحمدي"، فما هو التشيع الصفوي
والتسنن الأموي؟
التشيع الصفوي:
نسبه الى الدولة الصفوية التي حكمت إيران وزعمت انحدارها من نسل الإمامة لتُضفي شرعية زائفة على سلطتها الزمنية، ويرى المعلم أن الحركة الصفوية
ورجال الدين المرتبطين بها عملوا على إضفاء الطابع المذهبي وبعث القومية الإيرانية والوطنية لتبدو في صورة وشاح ديني أخضر، وركزت أجهزة الدعاية
الصفوية على نقاط الإثارة والاختلاف بين السنة والشيعة وأهملت نقاط الاشتراك، وحرصت على تعطيل أو تبديل أو إهمال الشعائر والسنن والطقوس الإسلامية
المشتركة بين المسلمين، ويرفض ماكانت تقوم به هذه الدولة عبر رجالها الذين كانوا يجوبون الشوارع
ويُرغمون المارة والعامة على لعن الشيخين "أبي بكر وعمر"، ويصف هذه الأعمال ب"الوحشية والإرهابية"
ويؤكد أن السباب والشتيمه واللعن هما من منطق التشيع
الصفوي، ويرمي شريعتي هذا النوع من التشيع بأنه "تشيع الجهل
والفرقة والبدعة، وتشيع المدح والثناء للسلطات، وتشيع الجمود والركود بتأدية طقوس عبادية ومذهبية دخيله على التشيع الأصيل، وهو تشيع ندب الحسين،
وتشيع يُعطل مسؤليات المسلم، وهو تشيع للفكر الصفوي الدخيل
التسنن الأموي:
الذي يستغل عنوان المذهب السني لتمرير المخططات الرامية لفرض الهيمنة على مقدرات الشعوب، وتبرير أعمال السلاطين، والتبرع بالأحكام والفتاوى
الجاهزة، لتتناغم مع التوجه الرسمي للحكومات، ف"التشيع الصفوي" وقرينه
"التسنن الأموي" كلاهما مذهب اختلاف وشقاق، والحقد والضغينة هي من خصائصهما، لأن كليهما
يمثلان الإسلام الرسمي، وكلاهما دين حكومي، الأول لتبرير الحكم الصفوي والثاني لتبرير الوجود
الأموي في موقع الخلافة، وبكل شجاعة وندرة يُصرح الشهيد أن "كل رموز التشيع الموجود في إيران وشعائره، رموز مسيحية ومظاهر مسيحية، أدخلها
الصفويون على يد طلائع الغزو الفكري الغربي، لكي يفصلوا إيران تماما عن الإسلام السني، الذي كان مذهب الدولة العثمانية عدوتها التقليدية، كما أن
الصفويين قد ارتكبوا ذلك الخطأ الفادح بالتحالف مع الأوروبيين ضد العثمانيين مما أودى بإيران وبالدولة العثمانية معاً"، وينهي بقوله: "ولو خرجت كل
المظاهر الدخيلة على التشيع فلن يبقى هناك أي خلاف يذكر بين مذاهب الإسلام"
ويرد مفكرنا على التخاصم والتقاذف الحاصل بين أنصار التشيع الصفوي وبعض رجال التسنن الأموي
بأن غرض هذه الأمور هي خلق الأحقاد بين المسلمين، واستغفال الأذهان لمسائل هامشية وقضايا مفتعلة، والشيع العلوي والمنهج الحسيني وتشوية صورة
الحوزة العلمية الشيعية الكبري في أذهان الجيل المثقف، اما "التشيع العلوي" فهو حركة ثورية، تمارس الجهاد فكراً وسلوكاَ، لتواجه الأنظمة ذات
الطابع الاستبدادي والطبقي، وهذا التشيع يتبنى إقامة العدل، ورعاية حقوق الجماهير المستضعفة، وهو تشيع الوحدة والسنة، فشعار هذه المدرسة هو ثقافة
الاستشهاد ونشر الحق وإقامة العدالة، وإن الشيعي العلوي هو الذي يسير على خطى ونهج الإمام علي بن أبي طالب.
ويخلص شريعتي إلي أن الحل في أسلوب الطرح، والنهج المتبع في المناقشة والاحتجاج، فالسبيل الوحيد
الكفيل بتحقيق ذلك هو توفير قاعدة علمية مشتركة وراسخة بين الأَخوين المستعدَيَيْن "التشيع العلوي" و"التسنن المحمدي" لمواجهة العدوين المتآخيين
"التشيع الصفوي" و"التسنن الأموي" ويصل بشريعتي الأمر الى القول بأن "الاختلاف بين التشيع العلوي والتسنن المحمدي ليس أكثر من الاختلاف بين
عالمين وفقيهين من مذهب واحد حول مسألة علمية... وأن التشيع العلوي والتسنن المحمدي طريقان متلاقيان من يسير في أحدهما لابد أن يأتي اليوم الذي
يلتقي فيه مع صاحبه ليصبحا معاً وحدة واحده" وفي المقابل فإن " المسافة بين وجهي التشيع العلوي والتشيع الصفوي هي عين المسافة بين الجمال المطلق
والقبح المطلق".
يقدم شريعتي شخصية الصحابي إمام المتقين ورابع الخلفاء الراشدين علي بن أبي طالب، كنموذج حي وراقي،
لعملية تأسيس الوحدة الإسلامية والترفع عن الخلافات، والسعي المتواصل نحو التوحيد لا التشتيت، وهو يقدم شخصية الإمام باعتبارها باعثة على التمسك
بشعار الوحدة، وشعار التفاهم، وشعار المسيرة الواحدة، والصف الواحد ضد العدو الخارجي، بل إنه يسرد بعض الأمثلة التاريخية المعبرة عن المنطق المعتدل
المنصف للتشيع العلوي كاستعانة الخليفة الثاني عمر بن الخطاب بالإمام علي في بعض المسائل الفقهية أو المشكلات الحياتية، وهذا المنطق يضاهي في اعتداله
منطق علماء التسنن المحمدي فمثلا كان علماء التسنن المحمدي يقرون بالفضل للإمام جعفر الصادق، وهذا الإمام الشافعي يعلن محبته لآل البيت، وذاك الإمام
مالك بن أنس يرفض أن يُعمم على المسلمين فقهه بقرار من الخليفة المنصور، ويعلن شيخ الأزهر محمود شلتوت عن فتواه بجواز التعبد بالمذهب الجعفري، هذه
مجرد أمثلة يضعها كاتبنا ليوضح الفرق بين منطقين.
قيام إسلام رسالي أممي بلا مذاهب
يرى الأخ الشهيد في المرحلة الثالثة من مراحل مشروعه الفكري النهضوي الكبير "العودة الى الذات
الإسلامية" ضرورة العمل على قيام إسلام عالمي أممي، لا تُكونه قومية أو عرقية أو نعرات مذهبية، بل يكون الإسلام الرسالي هو الجنسية وهو الوطن، ويعطي
مثالاً ب"اتحاد الغرب الرأسمالي مع الغرب الشيوعي، وبالأمس كان اتحاد المسيحية والاستعمار أو توافق المسيح والقيصر" وبالتالي " فلابد من قيام
العالمية الإسلامية" وينبغي أن "تسكت الخلافات المذهبية تماماً وأن تُدرك مصادرها وتبعاتها وعواقبها والأيدي التي تحركها، وهي الأيدي نفسها التي تحرك
مبدأ فصل الدين عن السياسة وتقصد بالدين الإسلام فحسب".
ينادي كاتبنا بأعلى صوته على العلماء من الطرفين فيخاطب علماء الشيعة ويقول "على علماء ومفكري الشيعة أن
يوضحوا أن أجهزة الدعاية للتسنن الأموي تستغل الأقاويل والمزاعم التي يتشدق بها رجالات التشيع الصفوي للإساءة إلى كل الشيعة، وتشويه صورتهم عند
إخوانهم السنة، وفي المقابل فإن أجهزة دعاية التشيع الصفوي تفعل الشيء ذاته، فتقتنص أقاويل ودعاوى ومزاعم النواصب والوهابيين وتلصقها باسم السنة
جميعا" ويحث علماء السنه على التحري والتروي فيقول "على العلماء المخلصين من السنة
أن يفندوا هذه المزاعم ويدفعوا هذه الشبهات التي تثار ضد إخوانهم من الشيعة وليقولوا لأبناء جلدتهم أن الشيعة هم من صلب الإسلام لا غير، ليسوا أعداء
للمسلمين، ولا حلفاء للصهاينة...لكي لا يقعوا في شرك الأعداء وينشغلوا عن معاداه اعدائهم الذين تسللوا الي عقر دار المسلمين بمعاداة إخوانهم الشيعة".
هكذا رسم لنا شريعتي صورته عن التقريب بين أهل المذاهب بقبول الاختلاف وإحسان الظن والبعد عن التشنجات
وإعادة قراءة التاريخ وأحداثه بصورة نقدية ومغربلة، كي لا نقع في خطيئة التراشق بالتكفير والزندقة وأن ننتبه الى ما ينسجه أعداء الأمة للوقيعة بين
أصحاب الملة الواحدة